للكتابة مذاق خاص


فوزي بن يونس بن حديد
2015 / 9 / 2 - 09:29     

كانت الكتابة ولا تزال بالنسبة لي الناموس اليومي الذي لا يكاد ينفكّ عني والهاجس الذي يمنحني الثقة في نفسي، فالقلم الذي أقسم به الله لا يجفّ، سيظلّ يسطّر الكلمات إلى أن يفنى، "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، بل الكتابة هي الورد اليومي الذي يفرض عليّ نفسه فيحيلني إلى عالم الخيال ومنه إلى عالم الواقع الأليم، أغفو فأجد نفسي في بحر من التصورات، أرتمي في أحضانها كأني رضيع يبحث عمّا يروي به عطشه، وأستمتع بألوانها المختلفة وأشكالها المتباينة وأرسم لنفسي عالما خاصّا أتوهّم أني الوحيد الذي أعيش داخله، فتأخذني إلى ضفاف من الأفكار المثالية البعيدة عن الحقيقة، حتى صرت أعشق هذه اللوحة الفسيفسائية من البداية إلى النهاية، وكمْ جميلٌ أن أرسم لكم حكايةً ظلت عالقة في ذهني منذ البداية، احترت كما احتار غيري من الغيورين مثلي في حلٍّ يخرج القدس الشريف من عباءة اليهود المتصهينين، جال بي خيالي ذات مرة وفي كل مرة في طريقة تخلّص القدس الشريف من قبضة اليهود الغاصبين، وازداد الخيال توثيقا بعد المشاهد المؤلمة التي تمثلت في خيالي منذ الثمانينات حينما بدأت أفقه القضية الفلسطينية، تلك القضية التي بدأت تشغل الرأي العام في العالم العربي بعد أن استفاق من غفوته ونال استقلاله، وكيف مارس اليهود أبشع أنواع العذاب بحق الفلسطينيين الأبرياء، من تهجير، واعتقالات وتعذيب وتقتيل وتشريد.
كان العرب في ذلك الوقت ما زالت في قلوبهم الحميّة، الحميّة العربية، لأنهم خرجوا للتوّ من الإذلال للغرب الارستقراطي، كنت أظن أنها ستبقى القضية الأولى للعرب ما دمتُ حيّا، فكّرتُ حينها أن المظاهرات التي تجوب العالم كلّه من أجلها، من أجل تحرير فلسطين من اليهود الغاصبين، من أجل أن يرى القدس الشريف يوما الحرية، تقمّصت شخصية صلاح الدين الأيوبي ورسمت في خيالي الخطط والاستراتيجيات التي يمكن أن تُرجع الحقّ لأهله، ومرّت بي الألوان الزاهية من كل جانب، وباتت أفكاري ترقص بين ذبذبات العقل الباطني، وبتُّ أستمتعُ بالنهاية المفرحة قريبا والحلم الذي يراودني وهو أن أصلي ركعتين بالقدس الشريف ثالث الحرمين وأولى القبلتين،وبينما أنا غارق في مُتعي تعثّرت قدمي فأفقت من نومي كأني بي أمارس الحقيقة التي لا تغيب، وبعد أن افترس القوي الضعيف، أصبحت قوانا لا تخيف، لأنها بلغت من الهوان ما حيّرت كل حصيف، وبدّلت كل عفيف.
أفقت والقلم بيدي يسكب حبرا، لا بل كلمات تعبر عن الواقع الأليم الذي تعيشه أمتنا اليوم، لا أكاد أكتب كلمة إلا بعد عُسْرِ هضمٍ للكلمات التي ترد تترى إلى ذهني وتفرض عليّ أن أكتبها بقلمي، لا أجد متنفسا إلا الكتابة لعلّي أكظم غيظي وينشرح صدري الذي ذاق مرارة فرقة الأمة وضاق بحالها، صارت اليوم ملفّات عديدة فوق طاولة الحوار بعد أن كانت ملفّا واحدا، فأين تتجهين يا أمتي؟ والله عز وجل يقول : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام"، قبلة المسلمين واحدة لكنّ مشاكلهم تعدّدت وتشعّبت، وتعمّقت وتطوّرت نحو أسوء سيناريو وضعته لنفسي، لأن اليوم تعيشه واقعا مؤلما اهتزّ له العرش وخرّت له الجبال، لا ترى فيها إلا لغة القتل والتقتيل الممنهج البربري في قسوته، لم يعد الإنسان يشعر بأخيه الإنسان تحت أي مسمّى تريد أن تصنعه، إنه الموت البطيء رغم الحياة، والسواد الذي يحمل وراء أي بياض، إلا ما رحم ربك، فهو القادر على كل شيء والعليم بكل شيء يسير في هذا الكون.