كارل ماركس والأممية الأولي

كرستيان هوجزبيرج
2022 / 5 / 6 - 00:34     

ترجمة ياسر عزام


منذ مائة وخمسين عاماً عُقد اجتماع لتأسيس الاتحاد الأممي للشغيلة IWMA كأول منظمة عمالية عالمية، كريستيان هوجزبرج يوضح كيف ساهم كارل ماركس بحيوية في هذا الاتحاد وكيف قاتل لتأكيد مساره المناضل.

في 28 سبتمبر 1864، أي منذ 150 عاماً، عُقِدَ اجتماع ضخم في قاعة سان مارتن في وسط لندن لإطلاق منظمة جديدة، الاتحاد الأممي للشغيلة، المكونة بشكل أساسي من نقابيين من لندن وباريس، والتي تهدف إلى تأسيس منظمة سياسية تطمح بشكل جريء إلى مقاومة رأس المال وتكون عالمية مثل الرأسمالية نفسها.

لقد جاء المناضلون الفرنسيون والإنجليز معاً إلى لندن بشكل أساسي لإعلان حملة تضامن أولاً مع مختلف نضالات التحرر حول العالم حينها، والتي تشمل النضال من أجل التحرر البولندي وتوحيد إيطاليا ودعم الشمال في مقابل الجنوب المالك للعبيد في الحرب الأهلية الأمريكية.

السبب الثاني لتكوين منظمة كهذه كان لأنه خلال الانكماش الاقتصادي وقتها جرت محاولات من قبل أرباب العمل لتقليب العمال الإنجليز والفرنسيين على بعضهم البعض باستخدام العمالة المهاجرة لمحاولة كسر الإضرابات، لقد أراد النقابيون على جانبي القناة مواجهة استراتيجية “فرق تسد” السافرة تلك.

إن تعبيراً كهذا عن التضامن العالمي قد لا يبدو مثيراً للإعجاب بشكل خاص من منظورنا في القرن الواحد والعشرين، حيث الكثير من الاشتراكيين والنقابيين لديهم القدرة على التواصل وإرسال رسائل التضامن في نفس اللحظة إلى العمال المضربين على الجانب الآخر من العالم، ولكن في 1864كان تكوين الاتحاد الأممي للشغيلة يدل على شيء جديد بشكل حقيقي وبصورة ما حدث تاريخي، كما أنه يعكس نمو الثقة بين حركة العمال الأوروبيين في ستينيات القرن التاسع عشر، مع تصاعد بطيء للصراع الطبقي، إن هؤلاء الحاضرين مثلوا قوة صغيرة ولكن مهمة وحقيقية في بريطانيا وفرنسا وكذلك إيطاليا.

لقد امتدت سياستهم بشكل واسع مثل أي حركة حقيقية، لقد كان بين الداعمين الإنجليز للاتحاد قيادات نقابية وسطية تحظي باحترام كبير، يتبعون الاشتراكي روبرت أوين (والذي عارض الإضرابات) وشارتيون سابقون من توجهات مختلفة، وكان الإيطاليون الحاضرون يميلون أكثر إلي الثورية في سياساتهم، ولكنهم كانوا قوميين وأنصار لجوزيبي ماتزيني بشكل أساسي، مثل الفرنسيون الذين يتبعون الأناركي برودون والذي كان حاضراً أيضاً، لم يكن أتباع ماتزيني متعاطفين عملياً مع فكرة الصراع الطبقي، آخرون اتبعوا الاشتراكيين الطوباويين المسالمين فورير وكابت، بينما ساوى داعمو المحارب الثوري الفرنسي القديم أوجوست بلانكي بين الثورة والقتال البسيط على المتاريس.

النظرية والممارسة
وبشكل ملحوظ كان كارل ماركس، اللاجئ الألماني المهمش، والذي اشتبك بعمق في ذلك الوقت في أبحاث مهمة لما يبدو أنه سيصبح المجلد الأول لأعظم إبداعاته، رأس المال، هو الروح المرشدة لهذه المنظمة الحديثة، ” تم اتخاذ قرار بانتخاب لجنة منظِمة مؤقتة من 34 فرد في انطلاقة الاتحاد، عرفت فيما بعد بالمجلس العام، وأصبح ماركس ممثلا عن ألمانيا.

هناك أسطورة ثابتة رائجة أن ماركس كان ببساطة مفكر وفيلسوف عظيم في المقام الأول، كتب أعمال تحليلية عظيمة مثل رأس المال بدون مغادرة الأرشيفات والمكتبات، ولكن وكما لاحظ شريك عمره إنجلز، فإن ماركس كان “قبل كل شيء ثورياً” وكان عضوا قياديا مثل إنجلز في العصبة الشيوعية أثناء ثورة 1848-1850 في ألمانيا.

عندما شاهد ماركس وقتها ما سماه “قيادات عمالية حقيقية” تتحرك تجاه فكرة المنظمة العالمية، رمى بنفسه في النشاط السياسي. إن بحث واكتشافات ماركس أثناء عملية كتابة رأس المال، وفهمه للأهمية السياسية والتاريخية للنضال من أجل مدة يوم العمل كمثال، عززوا عمله كقيادي بالاتحاد الأممي للشغيلة إن كتاب ماركس “رأس المال” بدوره تم تشكيله من خلال نشاطه في اتحاد الشغيلة كما قدّره أعضاء الاتحاد بشدة عندما صدر المجلد الأول في 1867. لقد أصدر مؤتمر الاتحاد في بروكسل عام 1868 بياناً يشير إلى أن “كارل ماركس لديه ميزة لا تقدر بثمن، تتمثل في كونه أول إقتصادي يُخضع رأس المال لتحليل ذو مغزى”.

وكما يوضح أوجست نيمتز في كتابه “ماركس وإنجلز: إسهامهم في الانفراج الديموقراطي”، لقد ظهر ماركس قبل هذا الوقت كـ”القوة المركزية في الاتحاد الأممي للشغيلة، المؤسسة البروليتارية العالمية الأولي بحق”، والتي نمت ليكون لها ممثلين في الولايات المتحدة وعملياً في كل بلاد الغرب الأوروبي، وكذلك في المستعمرات الفرنسية في الجزائر وجوادلوب.

في 1864 تطوع ماركس ليساعد في كتابة القواعد والمبادئ المرشدة للاتحاد من أجل صقلها بطابع أطلق عليه هال درابر الأفكار الديموقراطية الثورية لـ”الاشتراكية من أسفل”. الدرس الجديد والمهم الذي استخلصه ماركس وإنجلز من خبرتهم عن الثورة والثورة المضادة في أوروبا أثناء 1848-1850 كان ضرورة بناء منظمة سياسية مستقلة للطبقة العاملة.

مع ذلك كان ماركس متفهما أيضا للمزاج السائد بين العمال الأوروبيون في 1864 والذي كان بعيدا جدا عن الأيام القوية في 1848، ولأن ماركس صاغ الخطاب الافتتاحي للاتحاد الأممي للشغيلة، فقد كان مضطرا، كما شرح لإنجلز، لأن “يؤطّره بالطريقة التي تُظهر رؤيتنا في الشكل الذي يجعلها مقبولة للرؤية الحالية لحركة العمال، سوف يستغرق الأمر وقتاً قبل أن تسمح صحوة الحركة باستخدام جرأة اللغة القديمة، يجب أن نكون أقوياء في الفعل، لطفاء في الأسلوب”.

كمثال، كتب ماركس أن “مُلاك الأرض ومُلاك رأس المال سوف يستخدمون دائماً امتيازاتهم السياسية من أجل الدفاع عن احتكاراتهم الاقتصادية واستمرارها.. ولذلك فانتزاع القوة السياسية أصبح الواجب الأكبر على الطبقات العاملة”، وكما لاحظ دايفيد فيرنباخ، فإن حديث ماركس عن حاجة العمال إلى “انتزاع قوة سياسية” ألمحت إلى السياسات الثورية “بغموض كاف، فسره ببساطة الغالبية العظمى من الداعمين الإنجليز والدوليين بانتزاع الاقتراع وحسب”، في الصراع من أجل حق العمال في التصويت. ذكر ماركس بسعادة أن مشروع خطابه الافتتاحي لحسن الحظ “اعتُمد بحماس كبير” من قبل قادة اتحاد الشغيلة الآخرين.

أنهى ماركس خطاب الافتتاحية بشكل ملائم، مشيداً بأمثلة ملموسة حديثه عن أممية العمال، بما في ذلك “المقاومة البطولية” للطبقات العاملة في إنجلترا ضد “الحماقة المجرمة” لحكامهم الذين مال تعاطفهم الطبيعي نحو التدخل إلى جانب الجنوب المالك للعبيد خلال الحرب الأهلية الأمريكية. وعلى الرغم من أن عمال لانكشاير للغزل والنسيج قد يستفيدون ماديا على المدى القصير من الاصطفاف وراء سادة رأس مال المنسوجات القطنية في هذه المسألة ، ولكنهم بدلاً من دعم الإمبريالية البريطانية شنوا تحريضا جماهيريا هائلاً في بداية ستينيات القرن التاسع عشر لدعم الشمال. لقد أكد ماركس على أهمية تحدي العمال لـ”المخططات المجرمة” الخاصة بطبقتهم الرأسمالية، ومنها “اللعب على التحيزات الوطنية، وإهدار دماء الشعوب وأموالهم في حروب القرصنة”.

ماركس ساعد على ضمان بقاء قواعد الاتحاد المؤقتة مرنة هيكلياً حتى تسمح بأن تكون مفتوحه لأوسع شريحة ممكنه من العمال بدلا من أمنية مؤيدي ماتزيني لبرنامج يحتوي 40 على قاعدة مفصلة. لقد دعم ماركس مشاركة النساء متحدياً تيار بوردون، وفي يونيو 1867 صوت المجلس العام على قانون هارييت ومن هذه النقطة فان كل الخطابات الرسمية والبيانات الصادرة عن الاتحاد لم تعد تخاطب “الرجال العاملين” بل أيضاً “النساء العاملات”، وكما كتب ماركس إلى رفيق ألماني، “فالثورة الاجتماعية الضخمة مستحيلة بدون الحراك النسوي، التقدم الاجتماعي قد يُقاس بدقة من خلال الوضع الاجتماعي للجنس اللطيف”.

الأممية
فوق كل شيء، وكما ذكر ماركس، “فإن الاتحاد أُسس من أجل استبدال الطوائف الاشتراكية وشبه الاشتراكية بمنظمة حقيقية لنضال الطبقة العاملة”. تحت قيادته، وبالإضافة إلى تمرير قرارات تدعم النقابات، وحق الإضراب، وثمان ساعات عمل في اليوم، وغيرها، قدم الاتحاد الأممي للشغيلة تضامناً عملياً قوياً وذا معنى إلى العمال المضربين بما فيهم عمال البرونز في باريس، وعمال البناء في جينيف، وعمال مناجم الفحم البلجيكيين في شارليروي.

عندما أضرب الخياطون في إيدينبرج ولندن عام 1866 علي سبيل المثال، كان الاتحاد الأممي للشغيلة قادراً على منع أرباب عملهم من إدخال كاسري إضرابات من أوروبا وألمانيا. تقريبا لا يمكن تصور تطور الاتحاد العالمي في مثل هذا الاتجاه المقاتل بدون قيادة ماركس، أو أن يصنع تأثيره الذي صنع، أو أن يدخل التاريخ بوصفه “الأممية الأولي”. وكما لاحظ جون مولينو في كتابه الماركسية والحزب، فإن الاتحاد الأممي للشغيلة “كان بلا شك أهم ممارسات ماركس العملية والسياسية في حياته”، والتي “انشأت تراث الأممية والمنظمة الدولية في قلب الحركة الاجتماعية للطبقة العاملة”.

في البدايات الأولى لديباجة القواعد الأولية، أوضح ماركس بجرأة رؤيته الديموقراطية الثورية لكيفية تحقيق الإشتراكية، وهي أن تحرير الطبقات العاملة يجب تحقيقه من خلال الطبقات العاملة نفسها. إن تأكيد ماركس على التحرر الذاتي للعمال كان تحدياً صريحاً للتفكير النخبوي والسائد بين الاشتراكيين المعاصرين المشتركين في الاتحاد الأممي للشغيلة، لقد تراوح ذلك بين القيادات النقابية الإنجليزية “حسنة السمعة” والتي كانت مقبله على إغراء انتخابهم في البرلمان كجزء من برنامج المواءمة بين الحزب الليبرالي وحزب العمال لهيربيرت جلادستون، إلى أتباع بلانكي الأكثر راديكالية والذين ينظرون وراءً إلى أساليب اليعاقبة البرجوازيين في الثورة الفرنسية بدلاً من محاولة التعلم من خبرة العمال في باريس منذ أربعينيات القرن التاسع عشر.

ولكن فكرة “التحرر الذاتي للعمال” بقيت مجردة إلي حد ما حتى عام 1871، حين انتفض العمال مرة أخرى في باريس في أول ثورة عمالية في العالم، ليكوّنوا كوميونة باريس، والتي برغم استمرارها لمدة شهرين فقط قبل سحقها بدموية، فإنها كما لاحظ ماركس في كتابه الحرب الأهلية في فرنسا شهدت “امتلاك البروليتاريا لسلطة سياسية للمرة الأولي.. لقد تم أخيرا اكتشاف الشكل السياسي الذي سينجح من خلاله التحرر الاقتصادي للعمال”.

لقد انهال التشهير على نشطاء الاتحاد الأممي للشغيلة مثل ماركس والذين تجرأوا على الوقوف تضامنا مع الكوميونة البطولية، التشهير الذي قاد القادة النقابيين الانجليز للانكسار والهروب من أجل الاختباء، ما أضعف المنظمة بشكل قاتل، حتى انتهت في 1876. ومع ذلك فسياسات ماركس الاشتراكية الثورية، والتي قاتل من أجلها بشكل “قوي في الفعل، لطيف في الأسلوب” داخل اتحاد العالمي للرجال العاملين، تأكدت على يد عمال باريس اذين “اقتحموا الجنة”، وصنعوا في الكوميونة نقطة انطلاق جديدة ذات أهمية تاريخية وعالمية.

*نُشر المقال لأول مرة بتاريخ سبتمبر 2014 في مجلة “سوشياليست رفيفو”.