الأسس الفلسفية للثورة عند ماركيوز


هشام عمر النور
2015 / 8 / 30 - 09:24     


هيجل هيدجرياً: الثورة أنطولوجياً


كان الكتاب الذى تناول فيه ماركيوز نظرية الوجود عند هيجل كأساس للفلسفة التاريخية هو أولى كتاباته الهامة، وهو رسالته التي قدمها لنيل درجة الدكتوراة. وقرأ فيه ماركيوز فلسفة هيجل قراءة أونطولوجية هيدجرية وإن لم تخل من أثر مادي. ثم أصدر كتابه "العقل والثورة" الذي تابع فيه نشأة النظرية الاجتماعية من فلسفة هيجل, وقرأ فيه فلسفة هيجل هذه المرة قراءة ماركسية. مما دعى هابرماس إلى وصفه بأنه أول ماركسي هيدجري.[1]


يقر ماركيوز في مدخله لكتابه عن نظرية الوجود عند هيجل بإمتنانه لإبحاث هيدجر الفلسفية لما تقدمه من إسهام في عرض مشكلات كتابه وإيضاحها. ويثبت هذا الإقرار بديلاً لكل الإشارات في مواضعها الجزئية من الكتاب.[2] هذا الأمر ليس عارضاً ويدل على أن تأثير هيدجر لا يقتصر على مواضع بعينها من الكتاب وإنما يشمل الروح العامة للكتاب ورؤيته. ولقد انتبهت إلى أن طابع الرؤية العامة لبحث ماركيوز في الوجود عند هيجل يكاد يتطابق مع الرؤية العامة لإبحاث هيدجر عن الوجود مما يبرر النتيجة التي أثبتها من قبل. وهي أن هذا الكتاب قراءة هيدجرية لهيجل.


إن الطابع العام لأبحاث هيدجر الفلسفية عن الوجود تكشف عن رؤية عامة تجعل الوجود يراوح بين الحضور والغياب، التجلي والتخفي, التفتح والإنغلاق، ورغم إدراكها أن أصله هو الظلام إلاّ أن الإشراق يعتري الوجود أيضاً.[3]"الدازين هو الفراغ المفتوح الذي تكشف فيه الموجودات عن نفسها بطرق واضحة, بحيث تخرج من إنغلاقها إلى حقيقتها وتنسحب مرة أخرى إلى الغموض".[4] هذا الطابع العام هو ما تكشف عنه دراسة ماركيوز عن الوجود عند هيجل، إن لم نقل أن الكتاب في تفاصيله ينسجم مع هذه الرؤية.


إن ماركيوز يعارض إبتداءً التفسير التقليدي لهيجل الذي يرى أن الحركة هي نشاط التوسط بين الفكر والوجود, رغم أن هذا التفسير يستند على إتجاه عند هيجل نفسه للتخلي عن اكتشافات كتابه "ظاهريات الروح". تلك الاكتشافات التي تمثل الاتجاه الأكثر أصالة بالنسبة لماركيوز, والذي يتبدى أيضاً في كتاب المنطق, وهو إتجاه أنطولوجي يتعلق بالمفهوم الأنطولوجي للحياة وبتاريخيتها ويطرح نشوء الوجود بوصفه حركة حية، هويتها الوجود والمنطق والمعرفة, أي هويتها الوجود والفكر. ولذلك فبالنسبة لهذا الإتجاه الأنطولوجي فإن الحركة ليست مجرد شيئاً يتوسط بين الفكر والوجود, إنها الفكر والوجود معاً كحركة حية. التفسير التقليدي يفقد الحركة طابعها الأنطولوجي لأنه لا يفهمها إلاّ بإعتبارها شيئأ ما متعلق بالفكر والوجود.[5] بينما المفهوم الأنطولوجي المركزي عند هيجل بالنسبة لماركيوز هو الوجود كقابلية للحركة.[6]


هذا التفسير الأنطولوجي للحركة هو الذي سمح لماركيوز بقراءة هيجل قراءة هيدجرية. فالوجود كقابلية للحركة هو صيرورة من التحولات والتغييرات والاختلافات, ولأنها صيرورة ديالكتيكية فإنها دائماً ما ترتد نافيةً هذه التحولات والتغييرات والاختلافات إلى مقولة بسيطة محضة. وهذا لا يعني الارتداد إلى فكرة وإنما يعني أن الموجود في وجوده من حيث هو وحدة بسيطة يكون هو واقعاً مُفكراً.[7] ولكن هذه الوحدة البسيطة لا تلبث أن تتبدى في صيرورة ونشوء في نمط جديد من أنماط الوجود وهكذا دواليك. التفسير التقليدي يرى في هذه الحركة نموأ مستمراً بينما التفسير الأنطولوجي يرى في هذه الصيرورة أنماط عديدة يتجلى فيها الوجود, أنماط مختلفة لقابلية الحركة يكون فيها الوجود مراوحاً بين إثبات نمط ما ونفيه، أي بين الظهور والخفاء, الحضور والغياب, التفتح والانغلاق. ودراسة ماركيوز لهيجل هي دراسة لهذه الأنماط الأنطولوجية في مراوحتها الهيدجرية هذه.


يقرر ماركيوز أن كل وجود عند هيجل هو في تضاد وتقابل مشروط وشارط معاً. فالكرسي لا يكون ما هو عليه, بوصفه كرسياً إلاّ حينما توجد منضدة لا تكون هي الكرسي. وكذلك المنضدة لا تكون ما هي عليه، بوصفها منضدة إلاّ حينما يوجد كرسي لا يكون هو المنضدة. وبمثل تلك الطريقة التي تحدث بها الأمور في البعد الأفقي يحدث الأمر نفسه في البعد الرأسي، أي في التتالي الزماني، فكل موجود هو أيضاً صيرورة، أي عملية من التحولات. وهكذا نستطيع القول أن كل "وجود" هو وجود صائر, وصيرورة "وجود" آخر, فهو عملية تغاير لا متناه ترتبط بتغاير لا متناه من الموجودات الأخرى. وهذا ثراء لا متناهي يضيع فيه العالم الموضوعي. ولكنه بالنسبة للفهم فهو بالتأكيد ليس شيئاً آخر غير العدم ومع ذلك فهو أيضاً المطلق الذي صدر عنه كل وجود محدد وكل متناهي.[8] أليست هذه مراوحة بين الوجود والعدم, بين النسبي والمطلق؟


وبذات الطريقة يمضي ماركيوز في وصف سائر أنماط الوجود عند هيجل فالوحدة البسيطة التي ذكرناها من قبل بإعتبارها الموجود من حيث هو واقعاً مفكراً صارت من حيث هي كذلك وحدة بسيطة من الوعي بالذات والوجود وبذلك ضمت داخلها الاختلاف, وأصبحت ماهيتها ماثلة على وجه الدقة في أن تكون مساوية لنفسها مباشرة في الآخرية أو في الأختلاف المطلق. ونتيجة لذلك يوجد الاختلاف ولكنه شفاف تماماً, وهو يوجد باعتباره اختلافاً لا يكون في الوقت نفسه اختلافاً.[9] والتناهي بوصفه طابع القابلية للحركة والطابع التاريخي للموجود يصير لا تناهياً. وبذلك لم يعد اللاتناهي هو العالم الآخر للمتناهي والماوراء الذي يتعين به, بل صار المتناهي يحمل في ذاته تناهيه الخاص, بوصفه لا تناهي نشوءه.[10] وحين يتم استرجاع الموجود المباشر إلى الماهية, بعد انعطافة طويلة من الحالات المتغيرة دائماً لـ"ذات الأساس الحامل", أي للماهية التي تظل مماثلة لذاتها في جميع الحالات, نعود إلى الوجود الخالص, إلى أشد التعيينات فراغاً وتجريداً, إلى الوجود عموماً الذي هو عدم في الوقت نفسه. وهذا يعني أن الوجود حياد أو عدم إكتراث يوجد لذاته. وهذا ما يعين الوجود المباشر كلا وجود, كعدم, والوجود في ذاته كتعين. والوجود هو السلب البسيط لذاته, إن وجوده هو عدمه وعدمه هو وجوده.[11] والوجود, حين نصل إلى الواقع الفعلي بوصفه تحقيقاً مكتملاً للوجود, تبدٍّ وتجلٍّ وتكشف لذاته. فالمطلق هو البرانية الشفافة التي هي تبدّيه الحق, إنه الحركة خارج ذاته ولكن على نحو يكون فيه هذا الوجود المتجه صوب الخارج هو الجوانية ذاتها.[12] وهكذا تصير الحركة هي الوجود وهي تغيّر مستمر لا يركن لا للوجود ولا للعدم. وتجد الثورة في كل معانيها أساسها الأنطولوجي في هذا التغيّر الأنطولوجي المستمر.


التفسير التقليدي لهيجل يفصل بين الوجود والفكر لأنه يفقد الحركة طابعها الأنطولوجي ويعتبرها شيئاً ما يتعلق بالوجود والفكر ويتوسط بينهما. ونتيجةً لهذا الفصل كان لا بد من رد أحدهما إلى الآخر ولأن مفهوم الذات عند هيجل يكتسب طابعاً واقعياً تتسم به حتى الأشياء ولذلك كان لا بد للتفسير التقليدي من أن يرد الوجود إلى الفكر في فهمه لهيجل. بينما تفسير ماركيوز الأنطولوجي كما رأينا يوحد الوجود والفكر في هوية واحدة "العالم المحض يحوي الفكرة بالقدر الذي تكون فيه الفكرة في ذاتها شيئاً, (وتحوي) الشئ داخلها بالقدر الذي يكون فيه الشئ كذلك فكراً محضاً".[13]


فالتفسير التقليدي يرى أن الواقع بناء ذهني، أي فكري. فواقعية النبات تكمن في كل تاريخه: بذرة, فنبتة, فنضج, فزهرة, فثمرة. وفي كل لحظة من لحظات هذه العملية يكون هنالك طوراً في طريقه لأن يصبح طوراً آخراً. والواقعية تكمن في مجمل العملية, لا في واحد من لحظاتها. ولذلك فهي لا يتم بناءها إلاّ في العقل. الواقعية هي إبداع العقل. وبهذا المعنى يتم التمييز بين الحس والوجود. الوجود هو جوهر الشئ ويتم تكوينه نتيجة لعملية عقلية. وهو لا يوجد في المكان والزمان وإنما يوجد كفكرة.[14] بينما يرى ماركيوز أن وجود الموجود بالنسبة إلى هيجل هو كلية سالبة لكل التعيينات المباشرة. فالنبات لا يوجد كبذرة أو زهرة أو ثمرة, بل يوجد فيما لا يكونه. إن النبات موجود قبل كل هذه التعيينات الفردية. إن وجود النبات إذن هو "ماهية" وتعريفها ليس شيئاً آخر غير ما كان عليه الوجود دائماً. إن موضع الماهية في نشوء الموجود لا يمكن تحديده إلاّ بوصفه ماضياً، بوصفه ماضياً حاضراً.[15] إن هذين التفسيرين يختلفان لأن الأول يفصل بين الوجود والفكر, بين الوجود بشكل عام والموجود الإنساني, وبالتالي يضع الحسي في مقابل العقلي، العيني في مقابل الكلي ليرد الوجود بسبب من طابعه الكلي إلى العقل, أي إلى الفكر. ويصير الوجود نتيجةً لذلك في الفكر لا في الزمان والمكان. بينما تفسير ماركيوز الأنطولوجي يوحد بين الوجود والفكر في هوية واحدة ولذلك فإن موضع العقل في الوجود لا يكون في الموجود الإنساني وإنما في الوجود بشكل عام. العقل ينتمي للأشياء والطبيعة كما ينتمي للإنسان. العقل ليس سوى منطق الأشياء وتطورها إلى كمال وجودها. فالمنطق عند هيجل يتعلق بالوجود لا بالفكر، كما هو معروف تقليدياً, وإذا أردنا الدقة فإننا يجب أن نقول أن المنطق يتعلق بالوجود حين يتعلق بالفكر. وحينما نرد الوجود إلى الفكر بسبب من طابعه الكلي فإننا لا نخرجه من الوجود إلى الفكر بل إننا نخرجه من مستوى من مستويات الوجود إلى مستوى آخر, من الوجود العيني إلى الوجود الكلي, من الموجود إلى الوجود. ولا يخرج الوجود عن الزمان والمكان وتظل ماهية أي شئ بوصفها وجوداً سابقاً غير قابلة للتحديد إلاّ بوصفها ماضياً حاضراً, أي ضمن الزمان والمكان.


هذا التفسير الأنطولوجي للحركة ولوحدة هوية الفكر والوجود يضفي طابعاً أنطولوجياً علي الواقع أكثر منه طابعاً فكرياً, وهو الذي بدوره يجعل القراءة الهيدجرية لهيجل لا تخلو من أثر مادي, إذا صحّ التعبير.


وتعريف ماركيوز للعقل عند هيجل يكاد يتطابق مع تعريف هيدجر للوغوس في الدازين. فهيدجر يعرف الدازين بوصفه نوع من الوجود له لوغوس على ألاّ نستنتج من ذلك أن اللوغوس هو العقل أو الكلام وإنما يجب التفكير فيه بوصفه القوة الجامعة والحافظة للأشياء التي تظهر في وجودها.[16] ويتوصل ماركيوز إلى أن هيجل يرى أن مبادئ العقل وروائع الفن الكاملة هي أشياء موضوعية بقدر ما تكون حرة وفوق مستوى أي عرضية، أي بقدر ما تكون حفاظاً يتجاوز كل سلب منبثق تحت تأثير الضرورة, ويتجاوز كل وجود كآخر, ويتجاوز كل وجود للآخر, إن موضوعيتها نمط خالص للحفاظ أي وجوداً في ذاته ولذاته يضم المفهومين التقليديين: الذاتية والموضوعية.[17] العقل في التعريفين يتخذ طابعاً أنطولوجياً ولا يعود تلك الأداة التي نستخدمها في التفكير وليس هو الكلمة وإنما هو قوة حفاظ في الوجود ويزيد هيجل بأن لها قدرة على السلب. وحتى مفهوم الحفاظ عند هيجل فإن صياغته عند ماركيوز تجعلنا نقابله بمفهوم العناية care, أي الوجود المنشغل بذاته, عند هيدجر.


وهكذا نجد أن ماركيوز قد فهم هيجل على أساس أنطولوجي هيدجري. ولكن هذا الفهم أو هذه القراءة تستدعي سؤالاً جوهرياً: ماهي الضرورة التي اقتضت أن يلجأ فيلسوفاً يسارياً يريد تجديد الماركسية إلى قراءة هيدجرية لهيجل ليقيم على أساسها الفلسفة التاريخية؟ لقد لمست مدرسة فرانكفورت وكذلك ماركيوز ومنذ وقت مبكر أحد أوجه أزمة الماركسية وهو أساسها المادي الفيزيائي الذي تقيم عليه فلسفتها التاريخية. فهذا الأساس يضفي على الماركسية وفلسفتها التاريخية طابعاً وضعياً ظل ماركيوز باستمرار يلمّح له منتقداً، بل صار نقد الوضعية أحد أهم أوجه الإتفاق بين فلاسفة مدرسة فرانكفورت. وظل هذا الأساس المادي الفيزيائي يربط الفلسفة التاريخية بالزمان الفيزيائي معززاً طابعها الوضعي ومحولاً مشروع الماركسية إلى حتمية تفضي إليها قوانين التطور ضمن إطار الزمان والمكان الفيزيائي.


ونقد ماركيوز للوضعية ومحاولته تخليص الماركسية منها انطلقت بالأساس من فكرة أن الوضعية تعبّر عن المحافظة وتقود عملياً إلى موقف يغلق الباب أمام التغيير لأنها ببساطة ترى الحقيقة في الوقائع القائمة لا في إمكاناتها. وهذا يعني، بالنسبة لماركيوز، أن أي تصور ثوري عن المجتمع الإنساني يجب أن يتخلص من الوضعية ويتجاوزها. وكما نعلم فإن الوضعية تتطابق مع العلموية التي ترى في العلم كل المعرفة وفيما عداه محض خلاء معرفي ينتمي للعاطفة والوجدان. وبالتالي فإن المعرفة الحقيقية واليقينية هي تلك التي نتحصل عليها كوقائع بالملاحظة والتحقق والإثبات أو التكذيب، أو هي المعرفة التي نستنتجها بالإستنباط من هذه الوقائع. وبذلك فقد سبقت مدرسة فرانكفورت وماركيوز ما انجزته فلسفة العلوم بعد ذلك مع توماس كوهن في تخطيه للتصور التقليدي للعلم بحيث صار العلم نشاطاً يعتمد على نماذج paradigms تقوم عليها المشكلات وحلولها أكثر من اعتماده على الوقائع. وهذا تصور يقدم طريقاً ثالثاً بين الذات والموضوعية يجمع بينهما وهو عين ما فعلته مدرسة فرانكفورت وبدا واضحاً مع ماركيوز في إحيائه للهيجلية. ونستطيع أن نفهم في هذا السياق أن قراءة ماركيوز لهيجل قراءة هيدجرية كانت قراءة ضرورية لتخليص هيجل من المثالية وتحويل الهيجلية إلى موقف نظري يجمع بين المثالية والمادية، بين الذاتية والموضوعية. وهي محاولة أفضت بالماركسيين إلى وصف ماركيوز بالمثالية، بينما نعته خصومه من اليمين بالراديكالية والفوضوية. لقد فتحت قراءة هيجل قراءة هيدجرية الإمكان لقراءة هيجل قراءة ماركسية تكمل خلاص هيجل من مثاليته وفي ذات الوقت تخلص الماركسية من وضعيتها ولتشكّل الأساس الفلسفي للنظرية الاجتماعية عند ماركيوز.


هيجل ماركسياً: الثورة كأنطولوجيا اجتماعية


لقد أدرك ماركيوز أن جوهر الهيجلية هو التفكير النقدي أو السلبي ـ وفقاً لماركيوز. وبالنسبة إلى هذا التفكير السلبي فإن الواقع دائماً ناقصاً ولا يعبّر عن حقيقته وبذلك تصير الهيجلية سيرورة دائمة من التحولات والتغييرات التي تطمح للتعبير عن حقيقتها، أي إلى إكمال هذا النقص. وهذا يعني أن الحقيقة لا توجد في الواقع وإنما في مفهومه، أي في الفكر. وبما أن هيجل يرى أن الفكر والوجود هوية واحدة كما رأينا فيصير بذلك مفهوم الواقع هو ماهيته. وأعتقد أن هذا ما تعنيه عبارة هيجل الشهيرة بأن المعقول هو الواقع والواقع هو المعقول. إذ أن المفهوم معقول والماهية حقيقة الواقع. ونستنتج من كل ذلك أن هذه الحقيقة التي يطمح الواقع في تحولاته إلى تحقيقها هي الكل أو هي هوية الأنطولوجيا والعقل.


وبناءً على هذا الاستيعاب للهيجلية الذي يركز على جانبها الديالكتيكي ويهمل جانبها المثالي أمكن تحويلها إلى مشروع ثوري فقط باستبدال الأنطولوجيا بالوجود الاجتماعي، وهذا ما فعله ماركس ولكن بتطرف أدى إلى إقصاء العقل وتحول الوجود الإجتماعي إلى طبيعة ثانية أو إذا شئت إلى أنطولوجيا ثانية ولكن بدون عقل فصار الأمر مادياً صرفاً. وما فعله ماركيوز هو أنه أعاد قراءة هيجل ماركسياً ليخلص هيجل من مثاليته وليخلص ماركس من وضعيته وذلك باستبدال الأنطولوجيا بالوجود الاجتماعي كما فعل ماركس ولكن مع الحفاظ على العقل. وهذا هو معنى قراءة هيجل قراءة ماركسية فهي قراءة لا تحافظ على هيجل كما هو ولكنها وفي ذات الوقت لا تحافظ على ماركس أيضاً كما هو. هذه القراءة التي قام بها ماركيوز أفضت إلى أن يصير العقل والوجود الاجتماعي هوية واحدة وهو ما يشكل جذر التفكير النقدي عنده ويكسب نظريته الاجتماعية طابعها الثوري. ولذلك فإن عنوان الكتاب الذي قام فيه بهذه القراءة هو أفضل ما يعبّر عن هذا المعنى "العقل والثورة".


ومن هذا الموقع النظري أعاد ماركيوز الاعتبار للفلسفة الألمانية بوصفها نظرية الثورة الفرنسية. فالثورة الفرنسية، كما رأتها المثالية الألمانية، حررت الفرد وجعلته سيداً على حياته بحيث لم يعد مركز الإنسان في العالم وعمله وطريقة استمتاعه بأوقات فراغه تعتمد على سلطة خارجية، بل أصبحت تعتمد على نشاطه العقلي الحر. وأصبح صراعه مع الطبيعة يحكمه تقدمه في المعرفة وتنظيمه الاجتماعي، وصار العالم نظاماً عقلياً. هذا العقل يحتل موقعاً مركزياً في فلسفة هيجل ـ قمة هرم المثالية الألمانية ـ فالتفكير الفلسفي يفترضه، والتاريخ يبحث فيه وحده، والدولة هي تحقق هذا العقل. إن فكرة هيجل عن العقل ظلت تحتفظ بالأماني المادية في تحقيق نظام عقلي حر للحياة. وهكذا نجد أن ما انجزته الثورة الفرنسية على أرض الواقع حققته المثالية الألمانية على مستوى الفكر.[18]


ويرى هيجل ـ كما يزعم ماركيوز ـ أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت السلطان المطلق للعقل على الواقع. ولكي يكون هذا الزعم صحيحاً فلا بد أن يكون هيجل قد قرر أن لدى الانسان تصورات ومبادئ فكرية تشير إلى شروط ومعايير ذات صحة مطلقة لا تخضع لتباين التفكير بين الأفراد، ومجموعها الكلي هو ما يسميه هيجل بالعقل. والعقل لن يحكم الواقع ما لم يصبح الواقع في ذاته معقولاً. وهو يصبح كذلك بتغلغل الذات في الطبيعة والتاريخ. ويصير بذلك تحقق الواقع تحققاً للذات. وهذا يعني أن الوجود في جوهره "ذات". والمقصود بـ "ذات" ليس الوعي أو الأنا، بل طريقة في الوجود تتسم بها أي وحدة تطوّر نفسها من خلال عملية تتسم بالتعارض والتضاد. ولكن الإنسان وحده هو الذي يفهم هذه العملية وبالتالي هو وحده الذي يملك القدرة على تحقيقها، بل إن وجوده ذاته هو عملية تحقيق إمكاناته وتشكيل حياته وفقاً لمفاهيم العقل. وهنا نلتقي بأهم مقولات العقل: الحرية. فالعقل يفترض الحرية. إن أقصى ما يصل إليه العقل هو الحرية، والحرية هي عين وجود الذات. وكل أنواع الوجود تبلغ قمتها في الذات الحرة الشاملة التي تستطيع أن تحقق العقل، وهكذا تصبح وسيطاً لنمو الحرية. ويصبح لكلمة "الواقعي" معنى لا يدل على كل ما هو موجود بالفعل ـ هذا المعنى تشير إليه كلمة "المظهر" ـ وإنما يدل على ما يوجد في صورة مطابقة لمعايير العقل.[19] وهذا ما يجعل للعقل عند هيجل طابعاً نقدياً وثورياً معادياً للأوضاع القائمة. وصار بذلك التعبير الفلسفي عن الثورة الفرنسية.


إن فهم ماركيوز للمثالية الألمانية على هذا النحو جعل نسخته من التفكير النقدي، التي كان يعدها نسخة ماركسية، إمتداداً للمثالية مع تجاوزها. وبدلاً من أن يصير الفكر الثوري عنده فكراً مادياً يطوّر جوانبه التجريبية والوضعية بإكسابها طابعاً ديالكتيكياً، ويظل بذلك وفياً للإرث الماركسي، نجد أن ماركيوز عمل على تخليص الفكر المادي من جوانبه التجريبية والوضعية ومن ماديته الميتافيزيقية بربطه بالعقل في هوية واحدة، بحيث أصبحت المادية تعني فقط أولوية التاريخي والاجتماعي، وهي أولوية ليست مطلقة لأن هويتها العقل. وصار عند ماركيوز أن من مزايا المثالية الألمانية أنها استطاعت أن تنقذ الفلسفة من المذهب التجريبي. فالفلسفة تدعي أحقيتها في السيطرة على الطبيعة والمجتمع ما دامت تضع المفاهيم التي تكفل المعرفة بالعالم. وما دام أن هذه السيطرة تستدعي معرفة الحقيقة، التي هي شئ كلي في مقابل المظاهر الكثيرة للأشياء، وهذا يعني أن الحقيقة كلية وضرورية، وبما هي كذلك فهي موضوع الفلسفة ومفتاحها للسيطرة على الطبيعة والمجتمع، فإن المثالية هي التي تمكّن الفلسفة من أداء هذا الدور. ولذلك ربط دائماً المثاليون الألمان العقل النظري بالعقل العملي. فانتقل كانط من تحليله للوعي الترانسندنتالي إلى تحليله للعقل العملي ـ وإن ظلت هنالك مشكلة في هذا الانتقال من العقل النظري إلى العقل العملي لأن كانط لا يقدّم ما يبرر هذا الانتقال ـ وكذلك ربط فشته في مفهوم الأنا الخالص بين العقل ومصلحته بأن جعل مصلحة العقل في العقل نفسه وبذلك ربط بين العقل النظري والعقل العملي. فالمذهب التجريبي يضع حداً لطموح الفلسفة ويدعي أنه ليس للعقل تصوراً أو قانوناً يمكن أن يتصف بالشمول وما يبدو أنه كلية عقلية ليس سوى محض العادة والعرف. هذه النتيجة تؤدي إلى تقييد الإنسان بما هو معطى وبالنظام القائم للأشياء وحوادثها بحيث يفقد القدرة على تجاوز النظام القائم لأن هذا التجاوز يفتقد للمشروعية طالما أن الحقيقة قائمة فيما هو معطى وفي النظام القائم للأشياء وحوادثها. وإذا كانت التجريبية ترى أن المعرفة على أساس العقل، أي بتصورات غير مستمدة من التجربة، معرفة ميتافيزيقية فإن هجوم التجريبية على الميتافيزيقا سيكون في جانب منه هجوماً على شروط الحرية الإنسانية، إذ أن حق العقل في توجيه التجربة جزء من هذه الشروط.[20] إن التجريبية تسلب الإنسان حق تغيير العالم وبالتالي لا يمكن أن تكون أساساً لأي مشروع تغيير جذري. وأجد في هذا الدفاع عن المثالية والنقد الجذري للتجريبية وطابعها الوضعي أقوى الأسباب التي أدت بمدرسة فرانكفورت إلى العودة لكانط واستلهامه ولكن على أساس ماركسي واستطاعت بذلك الجمع بين العقل والتاريخ أو العقل والثورة وأحالت ترانسندنتالية كانط إلى شبه ترانسندنتالية بإضفاء طابع تاريخي واجتماعي عليها وأحالت مادية ماركس الميتافيزيقية إلى مادية تتمسك فقط بطابعها التاريخي والاجتماعي. وكما نعلم فإن كانط قد تجاوز نقدياً التجريبية والعقلانية وقام بتركيبهما معاً في الفلسفة النقدية وحين استلهمته مدرسة فرانكفورت فلكي تستعيد هذا التركيب ولكن على أساس ماركسي فنشأت النظرية النقدية.


لقد جلب ماركيوز على نفسه ـ بهذا الموقف من المثالية والتجريبية ـ هجوماً عنيفاً من الماركسيين. وكان هجوماً أيديولوجياً وغير منصف. وموقف ماركيوز لا يقف عند حدود إطراء الطابع النقدي لمثالية هيجل بل يعمم هذا الطابع على المثالية عموماً ابتداءً من إفلاطون. فللإفلاطونية عند ماركيوز طابع نقدي وراديكالي إذ أن المطلب الأساسي للمثالية هو تحويل العالم المادي بما يتفق مع حقائق عالم المثل. كما أن ماركيوز يرى أنه نتيجة لتمييز أفلاطون بين عالم الماهيات الذي يمثل الوجود الأصيل وعالم المحسوسات الذي يمثل الوجود الزائف فإن مفهوم الماهية أصبح يتضمن وعياً نقدياً وأخلاقياً. وتظل الأفلاطونية عند ماركيوز متعارضة مع النظام الاجتماعي لأثينا التجارية[21] كأحد نتائج طابعها العقلاني.


ونقد الماركسيين العنيف استند على فكرة أننا يجب أن ننظر في المحتوى الأيديولوجي للنقد، أي أن ننظر في المصالح الاجتماعية لهذا النقد في سياقه التاريخي والاجتماعي، وليس هنالك نقد بالمطلق وإنما هنالك دائماً نقد في سياقٍ ما يعبّر عن موقفٍ اجتماعي ما. وإذا نظرنا إلى الأفلاطونية من وجهة النظر هذه، فسنجد أن أفلاطون كان يعادي نظاماً ديمقراطياً فريداً من نوعه ـ من وجهة نظر أحد الماركسيين[22]ـ كان ينبغي على أي مفكر حر أن يسانده ويؤيده، وأنه كان يسعى لإقامة حكم استبدادي لطبقة أرستقراطية، وأنه استخدم في محاورته الجمهورية كل الحجج الممكنة بما في ذلك الأساطير اليونانية القديمة للدفاع عن هذا الحكم ولتزييف الوعي الاجتماعي. بل ويذهب مفكر ماركسي آخر إلى حد القول بأن نظرية عالم المثل ليست سوى الأساس الأنطولوجي لإبستمولوجيا تسعى لتبرير الاستبداد وحكم الأرستقراطية، وذلك بحصر الفلسفة في نخبة مميزة إبستمولوجياً بسبب تميزها أنطولوجياً مما يجعلها وحدها المؤهلة للحكم.[23] ووجهة النظر هذه كان يمكن أن تقنعنا لولا أن ماركيوز ردها بأخرى أكثر عمقاً. واستناداً على هيجل وعلى الوقائع التاريخية لا يرى ماركيوز في الديمقراطية اليونانية نموذجاً فريداً فهي لم تكن نتيجة لإرادة ذاتية بل كانت ضرورة طبيعية، فالقوانين موجودة والمواطنون يطيعونها لمجرد كونها قوانين ولم تكن الحرية والحق توجدان إلاّ على صورة عرف. فعدم وجود ذاتية واعية كان شرطاً لتحقق الديمقراطية كضرورة طبيعية تسير دون أن يعترضها شئ. هذا النظام الطبيعي تعرّض للانهيار بدخول عنصر هدمه وهو الحرية الفردية على يد سقراط. فقد عبّر سقراط عن مبدأ الذاتية بدعوته للإنسان للكشف عمّا هو حق وخير والاعتراف به في نفسه والتعرّف على طبيعته الشاملة والكلية.[24] "وهكذا فإن نفس العملية التي جعلت من الفكر المجرد مقراً للحقيقة، قد حررت الفرد بوصفه (ذاتاً) حقيقية. فلم يكن في وسع سقراط أن يعلم الناس التفكير بالطريقة المجردة دون أن يجعلهم متحررين من المعايير التقليدية للتفكير والحياة."[25] وبذلك يصير الدفاع عن الديمقراطية باعتبارها نموذجاً فريداً دفاعاً غير تاريخي يستبطن فكرة أن الديمقراطية نظاماً مطلقاً يعبّر على الدوام وبغض النظر عن السياق التاريخي والاجتماعي عن أفراد أحرار. بينما الأمر في حقيقته أن الديمقراطية اليونانية كانت نظاماً طبيعياً لا يعبّر عن أفراد أحرار بل عن أفراد طبيعيين يفتقدون إلى الطابع الإنساني، أي الحرية. والدليل التاريخي الدامغ على صحة هذا التحليل هو وجود العبودية في هذا النظام. فانسجاماً مع هذا النظام الطبيعي فقد كان العبيد مجرد آلات وأدوات بيولوجية. ومن هذا الموقع النقدي يمكن النظر إلى موقف سقراط وأفلاطون وإلى مثاليتهما كمشروع تحوّل حاسم في التاريخ أدّى فيما بعد إلى ظهور الذاتية الفردية وحريتها، وبهذا المعنى فهم يمثلون لحظات تقدم في تاريخ النوع الإنساني، لا لحظات معاداة لهذا التقدم كما يريد لنا الماركسيون أن نفهم. ولقد كانت هنالك ضرورة لربط الذات الحرة بالمثالية إذ أن ظهورها لم يكن ممكناً إلا حين رفض الفرد النظام القائم للأشياء وتصدى له بعد أن خاض تجربة التفكير المجرد وعلم أن مفهوم الأشياء والحقيقة لا يكمنان في المعايير والآراء الشائعة.


ومع هذا الدفاع عن المثالية فإن ماركيوز لم ير نفسه خارجاً عن التقاليد الماركسية، خاصةً أن هنالك إشارات صريحة من ماركس عن دور المثالية الهام في تاريخ الفلسفة. فالمثالية، لا المادية، هي التي طوّرت الجانب العملي وإن كان بشكل تجريدي. وذلك نتيجة لأن المادية لم تكن ترى الواقع إلاّ كموضوع أو تأمل،[26] بينما المثالية ما كان في مقدورها أن ترى الواقع إلاّ كتجربة أو نشاط إنساني بحكم رؤيتها للواقع كناتج للفكر. والأهم من ذلك وجهة نظر ماركس فيما هو كلي وعلاقته بالعيني. وهو أحد الموضوعات الهامة التي هاجم فيها الماركسيون ماركيوز. فهؤلاء يرون أن النظرية النقدية عند ماركيوز أقرب للفلسفة منها إلى علم الإقتصاد وأنها لا ترفض المثالية رغم انتقادها وأنها بذلك تتناقض مع ماركس تناقضاً جذرياً الذي يرى في المثالية وعياً زائفاً ويعتقد أن المجرد دائماً ضار، بينما ماركيوز يرى أن سر قوة الفلسفة هو قدرتها على التجريد وتجاوز المحسوس.[27] ويعتمد ماركيوز على ماركس نفسه في رؤية الجانب النقدي من الأفكار المجردة. فماركس نفسه هو الذي يحدد "أن أعم التجريدات لا تنشأ عادةً إلا حين يكون هناك أعلى مستوى من التطور العيني، وحيث تبدو إحدى السمات ملكاً للكثيرين معاً، ومشتركة بين الجميع. عندئذٍ لا يعود من الممكن التفكير فيها من خلال أي شكل جزئي محدد"[28] وكلما ازداد المجتمع تقدماً كلما ازدادت سيطرة الأفكار المجردة الشاملة والكلية. وحين يتحقق مجتمع بلا طبقات فإن مصلحة الكل ستتحقق في حياة كل فرد. ويصبح الفرد هو الصانع الفعلي للتاريخ، بحيث يكون هو نفسه الكلي. أي أنه كلما تقدم المجتمع كلما ازدادت القاعدة الاجتماعية التي يشملها الكلي إلى أن يتطابق كل فرد مع الكلي. وهذا يعني أن الأفكار الكلية الشاملة تشكّل على نحوٍ ما حقيقة التقدم الاجتماعي. وهكذا ينجح ماركيوز دائماً في قراءة ماركس هيجلياً وقراءة هيجل ماركسياً. فلا يرفض المثالية مطلقاً ولكنه لا يقبلها تماماً ويتبنى المادية ولكن على نحو يصالحها مع العقلانية.


ومع ذلك فإن الغالب على ماركس هو موقفه المعادي للأفكار المجردة وهو موقف انتقل به إلى العداء للفلسفة إلى الحد الذي يرى فيه أن إحدى الانجازات العظيمة لفيورباخ اثباته أن الفلسفة ليست شيئاً غير دين صار فكراً ومشروحاً بالفكر، أي شكل آخر وطريقة أخرى لوجود اغتراب جوهر الإنسان. ومن ثم فهي مثل الدين تستحق الإدانة.[29] بينما هيجل كما نعلم جعل من الفلسفة نهايات الفكرة المطلقة. ولذلك فإن تركيب ماركيوز لهيجل وماركس معاً كان يحتاج إلى رؤية جديدة. هذه الرؤية قامت على التمييز بين مجالين: مجال المقولات الفلسفية ومجال المقولات الاجتماعية والاقتصادية، وفي نفس الوقت على ايجاد وسط مناسب يلتقي فيه المجالين، أي يلتقي فيه هيجل وماركس. فماركيوز يرى أن الانتقال من هيجل إلى ماركس انتقال إلى مجال مختلف ويجب ألاّ يتم تفسيره من خلال الفلسفة إذ أن جميع التصورات الفلسفية للماركسية هي مقولات اجتماعية اقتصادية بينما كل مقولات هيجل الاجتماعية والاقتصادية هي مقولات فلسفية. ومع أن ماركيوز يرى أن كل المقولات في مذهب هيجل تفضي إلى النظام القائم في حين أنها في مذهب ماركس تؤدي إلى نفي النظام، أي نقده، إلاّ أنه يرى، متفقاً مع ماركس، أن هيجل قد أكمل كل المبادئ البرجوازية التي لم تصبح واقعاً اجتماعياً بعد. فهو الذي جعل من العقل المعيار الشامل الوحيد للمجتمع. واعترف بدور الفعل المجرد في ادماج المصالح الفردية المتباينة في نسق موحّد من الحاجات. وهو الذي كشف عن المضمون الثوري لفكرتي الحرية والمساواة. كما وصف تاريخ المجتمع المدني بأنه تاريخ الصراعات.[30] إن للفلسفة مجال مختلف عن المجال الاجتماعي والاقتصادي وإذا كانت مقولات هيجل تفضي إلى النظام القائم بدلاً من نقده كما فعل ماركس في المجال الاجتماعي والاقتصادي منتجاً نظريته النقدية فإن علينا أن نكمل الطابع النقدي لمقولات هيجل لننتج النظرية النقدية في المجال الفلسفي. وبهذه الطريقة استطاع ماركيوز أن يجمع بين مقولات ماركس الاجتماعية والاقتصادية ومقولات هيجل الفلسفية. ولذلك أيضاً عارض مقولة ماركس الشهيرة: "إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره"[31] فماركيوز يرى أن مهمة تغيير الواقع ليست مهمة فلسفية بل هي مهمة سياسية.[32]


ولكن مهمة الجمع بين ماركس وهيجل بهذا المعنى تتطلب الجمع بين مجالين متمايزين وهو أمر يشترط وجود وسط له القدرة على الجمع بينهما. وقد وجد ماركيوز ضالته في مقولة العمل. إن تقسيم العمل والاعتماد المتبادل في نسق الحاجات يتحكم في الدولة والمجتمع، كما أن العمل يتحكم أيضاً في تطور الوعي فهو الذي يفتح الطريق أمام الحرية الواعية بذاتها. والعمل كما يبين هيجل يحدد ماهية الإنسان والشكل الاجتماعي الذي تتخذه هذه الماهية. وهذا يعني أن مقولة العمل تجمع بين المقولات الاقتصادية والاجتماعية والمقولات الفلسفية فهي كما تتحكم في الدولة والمجتمع تتحكم أيضاً في تطور الوعي. ولذلك فإن وجود الطبقة العاملة يقوم دليلاً على نفي العقل نفسه، فهي ليست تحقيقاً للعقل الإنساني وللإمكانات الإنسانية، وهي واقعة كافية للقضاء على حقيقة العقل الكلية التي يجب، بحسب هيجل، أن تكون حاضرة في كل عنصر مفرد. ومعنى ذلك أن التاريخ والواقع الاجتماعي ينفيان الفلسفة ولا يمكن تحويل المجتمع على يد النظرية الفلسفية بل هي مهمة الممارسة العملية الاجتماعية التاريخية. إن تحرر الإنسان أصبح هو نفسه عمل الإنسان وهدف سلوكه العملي الواعي بذاته. وهو تحرر وعمل ينفي الفلسفة ولكن بتحقيقها، بتحويل الوجود الحقيقي والعقل والذات الحرة إلى وقائع تاريخية متحققة.[33] وهذا هو بالضبط مضمون قراءة ماركيوز لهيجل قراءة ماركسية. فماركس نفي لهيجل ولكنه نفي يتم بتحقيق هيجل وتحويله إلى وقائع اجتماعية واقتصادية، إنه نفي يحفظ هيجل في مجاله الفلسفي ويكمل طابعه النقدي.


لقد عاش ماركيوز في عصر كانت تشكّل فيه الماركسية أفقاً لا يمكن تجاوزه ومع ذلك فقد أدرك أنها في أزمة في ضوء عدد من الوقائع والحقائق التاريخية. ففي الجانب المفترض فيه أن يمثل أشواق الإنسانية في الحرية والعدالة تحولت الأنظمة إلى أنظمة شمولية قهرت شعوبها بالطغيان والاستبداد وصارت أقفاصاً حديدية بحجم بلدانها. وفي الجانب الآخر تطورت الرأسمالية وأصبحت مجتمع وفرة ومجتمعاً غنياً ومع ذلك ظلت مجتمعاتها مجتمعات لا عقلانية تسيطر نخبة على مواردها وثرواتها وعلى السلطة فيها، مجتمعات تتوفر فيها شروط فضلى يمكن أن تتحقق بها القدرات والملكات والامكانيات الانسانية في الحرية والإبداع ولكن قوى السيطرة تقمع هذا الإمكان. "إن المجتمع يكون مريضاً عندما لا تسمح علاقاته ومؤسساته الأساسية بإستغلال موارده المادية والذهنية لتحقيق تطوره الأفضل وتلبية إحتياجات أفراده."[34] والطبقة العاملة التي كانت تمثل القوة النقيضة للنظام، أو حفّار قبره على حد تعبير ماركس، تم تدجينها بأن صارت جزءاً من النظام ونالت حظها من الرفاه وجعلت منها أيديولوجيا السيطرة وثقافتها عناصر في النظام القائم بدلاً من أن تكون نقيضه. وهكذا تجلت أزمة الماركسية في الرأسمالية وبديلها. ولأن ماركيوز لم يكن يبصر إمكاناً لتجاوز الماركسية فقد انسد أمامه أفق التغيير. ولكن، ولأن ماركيوز كان مفكراً سلبياً بالمعنى الذي أراده من إحياء هيجل، فإن الوقائع بالنسبة له لم تكن تعبّر عن الحقيقة. وتمسك بعناد بإمكان التغيير. وجعل من العناد سمة أساسية للفلسفة، وهذا أمر مفهوم طالما أن العقل هو ماهية الفلسفة وطالما أنه بوصفه كذلك صار مقراً للحقيقة بديلاً للواقع.


إن الراديكالية عند ماركيوز لا تعنى فقط معارضة إخفاقات النظام وقصوره وإنما تعنى أيضاً معارضة نجاحاته بالذات، طالما أنها تتعارض مع العقل. هذا الإصرار على التحدى إنما هو العناد الذى يقول عنه ماركيوز: "العناد صفة أصيلة للتفكير الفلسفى"[35]. وأن تكون عنيداً يعنى أن ترفض المصالحة السهلة مع المجتمع، وأن تحافظ على معنى للواقع يتأسس على دورات طويلة من الزمن، وعلى توترات عميقة، وأهداف أعلى مما تحدده اليوم موضة ما بعد الحداثة.[36] هذا العناد الفلسفي ـ إن صح التعبير ـ فرض على ماركيوز البحث في تجديد الماركسية وفتح المادية التاريخية على عناصر جديدة بحيث تتحول إلى نظرية متعددة الأنظمة interdisciplinary theory لها القدرة على الفحص النقدي للمستجدات التاريخية ومن ثم تفتح الطريق للتغيير وتجاوز نظامي القمع والسيطرة في الرأسمالية والاشتراكية. وللقيام بهذا الواجب كان لا بد لماركيوز أن يضيف أسساً جديدة للأسس الاقتصادية التي تحكم تاريخ النوع الإنساني وتطوره في المادية التاريخية، كان عليه أن يضيف أسساً لا تنتمي للمجال الاقتصادي ويظهر في ضوئها بوضوح طابع السيطرة والقمع في المجتمعات القائمة، وفي ذات الوقت تجعل من التغيير ضرورة عقلانية لا بد أن يستجيب لها البشر. ووجد ماركيوز هذه المرة ضالته في فرويد ولكي يجعله جزءاً من الأسس التي تحكم تاريخ النوع الإنساني وتطوره قرأ ماركيوز فرويد قراءة ماركسية وأضاف بذلك أسساً بيولوجية وسيكولوجية إلى الأسس الاقتصادية في المادية التاريخية.


أما المتمسكون بالماركسية كما هي ـــــــ وثيربورن أحدهم ـــــــــ فيردون على ماركيوز وإتهامه الماركسية بالفشل بسبب أن الطبقة العاملة قد تم تدجينها بأن الماركسية لا تحتاج إلى مفهوم البروليتاريا كتجسيد لنفي الوجود الإنساني وأن نظرية ماركيوز ليست ماركسية وإنما واحدة من النظريات التاريخانية، بل هي النسخة التاريخانية الأولى من الماركسية، فهي تبحث ــــــــــ وبعيداً من اعتبار المجتمع بنية معقدة ــــــــــــ عن جوهر داخلي يتجلى في كل أجزاء المجتمع. وإذا كان هذا الجوهر قمعياً فإن مصدر التحولات في هذا المجتمع لا يمكن أن يوجد داخل المجتمع، لأن كل التحولات تشارك الجوهر في طبيعته. وعامل التحول لا يمكن إلاّ أن يكون فاعل نفي خارجي. والنسخة التاريخانية الأولى من الماركسية اعتقدت أن فاعل النفي الخارجي هذا هو الطبقة العاملة، المنبوذة خارج المجتمع الرأسمالي كموضوع لكل أشكال القمع، مجسدة النفي الرأسمالي للإنسانية. ولكن الطبقة العاملة لم تعد مطلقة البؤس والاستبعاد فيما يسمى دولة الرفاه. والمجموعات الوحيدة التي يمكن وصفها بذلك هي الأقليات العرقية والمهمشين. ولهذا السبب حاول ماركيوز أن يجد حاجات إنسانية أخرى غير الحاجات الإقتصادية التي أصبحت وسائل للقمع والتكامل. ومن ثم إلتفت إلى البعد البيولوجي، إلى الدوافع الغريزية الحيوية، الحاجات الإيروسية بالمعنى الواسع للمصطلح. ووجد بذلك فاعل نفي جديد في الحركة الطلابية، وفي رفضها لمبدأ الأداء، وفي رفضها للإقتصاد القائم على التبادل والمنافسة، وفي ممارستها للتحرر الجنسي.[37] ولسنا هنا في معرض الدفاع عن النظرية النقدية عند ماركيوز في مقابل الماركسية، فالمهم بالنسبة لنا ــــــــ إذا صحت الأسباب أو لم تصح ــــــــــ أن ماركيوز توصّل إلى ضرورة توسيع الأساس المادي للماركسية واستعان في ذلك بفرويد. ولكن إذا كان لنا أن نعلق، فإن الماركسية ليست مبرأة من الإتهام بالتاريخانية، لأننا نستطيع أن نبصر فيها، رغم ما تحاوله من بيان تعقيد البنية الاجتماعية، جوهراً يتجلى في كل أجزاء البناء الاجتماعي ألا وهو التناقض الإقتصادي. بينما النظرية النقدية عند ماركيوز بدأت تتلمس طريقها إلى التعددية وتعقيد البنية الاجتماعية بإضافة أسس جديدة إلى الأسس التي تحكم تاريخ النوع الإنساني في الماركسية. وإذا كان ماركيوز ينظر إلى المجتمع الرأسمالي وكأنما هو بنية لها جوهر واحد يتجلى في كل أجزائها فإن هذا هو ما يسميه ماركيوز مجتمع البعد الواحد، وهو بالضبط ما يسعى لتجاوزه. إن ماركيوز لا ينظر للمجتمع الرأسمالي كنموذج وإنما كتشويه وكقمع ولأنه كذلك سيطر عليه بعد واحد أو جوهر واحد إذا شئت. إن الماركسية هي التي ترى في المجتمع الرأسمالي مجتمعاً يتطور وفق قوانينها وبالتالي فهو نموذج تجريبي للنظرية. ولذلك فالماركسية هي التي يجب أن يتطابق فيها ما يجري في النظام الرأسمالي مع قوانينها، بينما في النظرية النقدية عند ماركيوز يتناقض ما يجري في النظام الرأسمالي مع مشروعها النظري. وعلى العموم فإن ما يهمني الآن هو الاستعانة بفرويد لتوفير أسس جديدة لتطور النوع الإنساني، أي قراءة فرويد قراءة ماركسية.


فرويد ماركسياً: الجنسانية كتحرر من القمع والعنف


إن ما أهتم به ماركيوز من فرويد ليس التحليل النفسي وإنما فلسفة التحليل النفسي، وما استلهمه ينتمي إلى المجال النظري ولا علاقة له بالتحليل النفسي كمنهج للتطبيق. إن فرويد ـــــــــ بالنسبة لماركيوز ــــــــ قد وضع نظرية عن الإنسان، فوضع نفسه بذلك ضمن التقاليد العظيمة للفلسفة. إن ما دمجه ماركيوز في نظريته النقدية من نظرية التحليل النفسي عند فرويد هو أساسها الفلسفي والاجتماعي،[38] أي ما يمكن تسميته، وفقاً لماركيوز، بالميتاسيكولوجيا. إن نظرية الحضارة عند فرويد تنشأ من هذا الأساس الفلسفي كرؤية للعملية التاريخية مستخلصة من تحليل الجهاز العقلي للأفراد الذين هم المادة الحية للتاريخ، ومن حيث هم نوع لا أفراد. وتكشف نظرية فرويد عن الأساس البيولوجي لما هو اجتماعي.[39] ولكن من الضروري أن نلاحظ أن ماركيوز لم يتعامل مع البيولوجيا فقط كمحدد للإختيارات السياسية والإجتماعية وإنما عمل أيضاً، وعلى النقيض من ذلك، للتحرر من هذا المحدد ودعى إلى تغيير جوهرى فى البنية الغريزية كما فى البنية الثقافية. وادعى أن تجربة أساسية جديدة للوجود ستغير الوجود الإنسانى فى كليته.[40] إن ما هو بيولوجي يتم تحت مبدأ النيرفانا واللذة وما هو اجتماعي يتم تحت مبدأ الواقع. وبهذا المفهوم فإن سيكولوجيا الفرد هي سيكولوجيا النوع. ويفترض مبدأ النيرفانا واللذة أن الكائن الإنساني عند وجوده كان بالأصل جسداً منذوراً للمتعة والإشباع الحسّي، أو بمصطلح ماركيوز منذوراً للإيروس Eros، ولكن ضرورات بقائه حتّمت عليه العمل والسيطرة على الطبيعة حتى يستطيع تأمين معيشته وحماية نفسه، ومن ثم تحوّل الجسد من أداة إيروسية إلى أداة للعمل، وتحوّل الكائن الإنساني من الخضوع لمبدأ اللذة إلى الخضوع لمبدأ الواقع. وعلى هذا النحو بدأت الثقافة.


وبذلك صار تاريخ الإنسان هو تاريخ قمعه. ولم تقيّد الثقافة وجوده الاجتماعي فقط وإنما وجوده البيولوجي أيضاً، تقييداً لم يشمل فقط أجزاءً من الكائن الإنساني وإنما بنيته الغريزية كلها. وهذا التقييد كان شرطاً للتقدم الإنساني. فالإيروس الذي لا سيطرة عليه قاتل ومميت وهادم للحضارة الإنسانية. ودوافعه الهدّامة تأتي من حاجته للإشباع في أيّة لحظة كغاية في ذاته، وهو ما لا توفره له الثقافة. ولذلك فإن هنالك ضرورة لأن نحرف الغرائز عن أغراضها. ومن هنا تبدأ الحضارة. إن الدوافع الحيوانية تصير غرائز إنسانية تحت تأثير الواقع الخارجي، أي تحت تأثير مبدأ الواقع. وهي تبقى كما هي ولكن فقط تتغير أهدافها وتخضع تجلياتها للتغيير. وهذا يعني أن الغرائز قابلة للتغيير وأن الواقع هو الذي يشكّل هذه الغرائز وحاجاتها وأن إشباعها هو ما يشكّل الواقع التاريخي الاجتماعي. إن الوجود الإنساني يتحقق من خلال تحوّل جوهري في القيم الغريزية. وهو تحوّل يمكن تلخيصه في التحوّل من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع. (أنظر الجدول أدناه)[41]




مبدأ اللذة

مبدأ الواقع


الإشباع المباشر

الإشباع المتأخر


اللذة

تقييد اللذة


الفرح (اللعب)

العذاب (العمل)


الأخذ

الإنتاج


غياب القمع

الأمن



وتحت مبدأ الواقع طوّر الوجود الإنساني وظيفة العقل: فتعلم اختبار الواقع والتمييز بين الخير والشر، والصحيح والكاذب، والمفيد والضار، واكتسب الإنسان ملكات الانتباه والذاكرة والحكم. وأصبح ذاتاً واعية ومفكرة واكتسب العقلانية التي فرضت عليه من الخارج. وبعبارة أخرى فإن العقلانية بالنسبة لفرويد وليدة للقمع ونتيجة مساوية له. والخيال هو النشاط الفكري الوحيد الذي أصبح مستقلاً عن التنظيم العقلاني، ومتحرراً عن مبدأ الواقع، ويخضع فقط لمبدأ اللذة. وازدادت رغبات الإنسان واتسعت وكذلك أداتيته لإشباعها. ومن ثم لم تعد رغبات الإنسان وتغييره للواقع ملك للإنسان الفرد بل أصبح المجتمع هو الذي ينظم كل ذلك. وهو الذي يقوم بقمعها وتحويلها. ومن خلال التطور تجسد مبدأ الواقع في نظام من المؤسسات. وتعلم الفرد بنموه داخل هذه المؤسسات أن متطلبات مبدأ الواقع هي متطلبات القانون والنظام. ومن ثم حرص على نقلها إلى الأجيال التي جاءت من بعده. ومع ذلك فإن انتصار مبدأ الواقع على مبدأ اللذة ليس انتصاراً نهائياً والدليل على ذلك هو الحاجة المستمرة إلى إعادة تأسيس مبدأ الواقع.[42] فالحضارة لم تنه الطبيعة كلياً وإلى الأبد ولذلك فإن مبدأ الواقع يجب أن يتأسس باستمرار في تطور المجتمع. وما يتم قمعه يعود ليشكل التاريخ الخفي والمحرم للحضارة.[43]


وتطورت نظرية فرويد فيما بعد وأدخل مفهوماً جديداً هو غريزة الموت أو الثناتوس Thanatos. وبعد أن كان التناقض بين الجنس (الليبيدو) والأنا (الحفاظ على الذات) صار التناقض بين غرائز الحياة (الإيروس) وغريزة الموت. وظلت سيادة افتراض الليبيدو الشامل هي الطابع المشترك بين المرحلتين، وحافظت الجنسانية sexuality على موقعها السائد في البنية الغريزية. ورغم غرابة أن يكون الموت غريزة في الإنسان ـــــــــــ إذ أن ذلك يتعارض مع ما قرّ فينا كبداهة من أن الغريزة الأساسية فينا هي الحفاظ على الذات ومن ثم فلا يمكن أن يكون نقيضها هو أيضاً غريزة أساسية ـــــــــــ فإن في نظرية فرويد من المنطق ما يدفعنا للإيمان بوجودها إذا ما اقتنعنا بصحة الغريزة الأساسية الأخرى، أعني الإيروس. فأحد أقوى الأسباب التي تدعم وجود غريزة الموت هو أنه إذا كان مبدأ اللذة يعتمد على مبدأ النيرفانا، أي مبدأ الوصول إلى استقرار وتوازن وهمود غريزي. مما يعني أن ما يحكم مبدأ اللذة هو بذل الجهد لتقليل الإثارة أو للحفاظ على نسبة ثابتة منها أو للتخلص منها، فإن هذا المبدأ لا يتحقق إلاّ فيما قبل الحياة. ولذا فإن غريزة الموت هي الميل إلى التراجع إلى ما وراء الحياة، تراجع يرتبط بسعي كل المادة الحية للعودة إلى هدوء العالم غير العضوي، أي إلى الموت. إن غريزة الموت ليست غريزة تحطيم وهدم في ذاتها ولكنها أصبحت كذلك من أجل التخلص من التوتر. إن التراجع للموت هو هروب غير واعي من الألم والحاجة. وهو تعبير عن النضال الأبدي ضد المعاناة والقمع. والجنسانية نفسها تطيع مبدأ غريزة الموت، فهي تعبير عن المادة الحية في سعيها للعودة إلى وحدتها، إلى استعادة حالتها الأولى. هذا الوضع الذي يجعل الموت جزءاً من جوهر الحياة لا نجده إلاّ عند هيدجر في مفهوم الوجود ـــــــ إلى ــــــــــ الموت، ولكنه حتى مع هيدجر لم يكن في مثل هذا القرب من الإيروس. وفي الصياغة النهائية لنظرية الغرائز اختفت غريزة الحفاظ على الذات وصار عملها يعود إلى غرائز الجنس، أي الإيروس، أو إلى غريزة الهدم، أي الموت، طالما أن الحفاظ على الذات يتم أحياناً اجتماعياً من خلال العنف. وبذلك أصبح الإيروس والثناتوس هما الغريزتين الأساسيتين. وهما غريزتان مرتبطتان ببعضهما كما رأينا، ولذلك يؤكد فرويد باستمرار على أن هنالك طبيعة عامة للغرائز قبل تمايزها. لقد أصبحت غريزة الموت، في نهاية الأمر، شريكة للإيروس في البنية الغريزية الأولية، والصراع بينهما يشكّل الدينامية الأولية للجهاز العقلي للنوع الإنساني.[44] هذا الارتباط بين الغريزتين يعني أنه لكي نلجم العنف علينا أن ندعم الغريزة الجنسية ولكن الحضارة الإنسانية غير قادرة على ذلك لأنها محتاجة إلى النظام والضبط، أي تحتاج لقمع الغريزة الجنسية. هذا القمع هو أساس العنف عند ماركيوز. مما يقود إلى الاستنتاج بأن الحضارة تميل إلى تحطيم ذاتها.[45]


ويتضح مما سبق أن الميتاسيكولوجيا عند فرويد فعلاً نظرية عن الإنسان. وهي نظرية تتمتع برؤية جديدة لموضوعها، سواء اختلفنا معها أم اتفقنا، ولذلك استحقت، كما قال ماركيوز، أن تصبح ضمن التقاليد العظيمة للفلسفة. ولكن ولكي تصبح هذه النظرية جزءاً من النظرية النقدية لماركيوز كان لا بد أن يخلصها من طابعها الغير تاريخي، إذ أنها تفترض بالضرورة أن التطور البيولوجي تطوراً كلياً، أي غير مشروط بالسياق التاريخي، طالما أن كل الحضارة هي على وجه الدقة سيطرة منظمة. ويعتقد ماركيوز أنه يمكن تحويل هذه النظرة الغير تاريخية إلى نظرة تاريخية ليس بإضافة بعض العوامل السيوسيولوجية (كما تفعل مدارس الفرويدية الجديدة الثقافية) وإنما يتم هذا التحويل بتحليل مضمون نظرية فرويد نفسه لأنها تتضمن هذا المضمون التاريخي وإن كان يبدو في شكل عمليات طبيعية بيولوجية. ولإجراء هذا التحول المتضمن أصلاً في النظرية فقد أضاف ماركيوز مصطلحين للتعبير عن هذا المكون التاريخي الاجتماعي في نظرية فرويد:


· القمع الفائض: وهو القيود التي تفرضها السيطرة الاجتماعية وهو متميز عن القمع الأساسي الذي هو التحويرات الضرورية للغرائز من أجل بقاء النوع الانساني.


· مبدأ الأداء: وهو الشكل التاريخي السائد من مبدأ الواقع.


ولقد ذكرنا من قبل أن المجتمع يكون مريضاً عندما لا تسمح علاقاته ومؤسساته الأساسية بإستغلال موارده المادية والذهنية لتحقيق تطوره الأفضل وتلبية إحتياجات أفراده. ونضيف الآن: وأنه كلما كان الفارق كبيراً بين الشروط الإنسانية المتحققة فعلاً فى المجتمع وبين إمكانياته كلما كانت هنالك حاجة إجتماعية أكبر لما إصطلح عليه ماركيوز بالقمع الفائض surplus-repression.[46] والفارق بين القمع الأساسي والقمع الفائض يماثل تماماً الفارق بين السلطة كسيطرة عقلانية والسلطة كممارسة عقلانية. وهو فارق لم يفترضه فرويد أبداً. فمع إقرار ماركيوز بما توصل إليه فرويد من أن الندرة هي التي فرضت العمل، الذي أصبح طابعاً للوجود الإنساني مما أدّى إلى سيادة الألم وتأجيل اللذة وتعليقها، إلاّ أن ماركيوز يرى أن فرويد قد طبّق مفهوم الندرة دون تمييز بين المعنى المجرد للمفهوم وبين ما هو نتاج لتنظيم معين للندرة وما هو سلوك وجودي محدد فرضه هذا التنظيم. أي أن فرويد لم يميز الشكل التاريخي الذي تظهر فيه الندرة، وهو شكل لم يحدث في تاريخ الحضارة الإنسانية أن عبّر فقط عن توزيع الندرة جماعياً بحيث تتحقق أفضل تلبية لحاجات الأفراد، بل كان يعبّر دائماً عن السيطرة. وهي سيطرة يمارسها فرد أو مجموعة معينة لدعم وضعها المتميز. فطوال تاريخ الحضارة الإنسانية كان يُفرض على أفرادها كل أشكال العمل، وتوزيع الندرة، ومحاولة التغلب عليها ـــــــــ في البداية بالقوة المحضة ولاحقاً بالاستخدام العاقل للسلطة. ومهما كانت هذه العقلانية لمصلحة تقدم الكل فقد ظل طابعها أنها سيطرة عقلانية تمارسها قلة للحفاظ على مصالحها. وفي ظل هذه السيطرة فإن التقدم الذهني والتقني والمادي لا يحدث إلاّ كنتاج ثانوي لا يمكن تحاشيه للحفاظ على الحاجة والقيود والندرة غير العقلانية. أما الممارسة العقلانية للسلطة فهي ملازمة للتقسيم الاجتماعي للعمل وتنتج من المعرفة وتختصر على الوظائف الإدارية والتدابير الضرورية لتقدم الكل.[47] وإذا أردنا أن نقدم عبارة موجزة تلخص العلاقة بين القمع الأساسي والقمع الفائض فإننا نستطيع القول أن القمع الأساسي يجد أصله في المستوى البيولوجي بينما القمع الفائض يجده في المستوى الاجتماعي.[48]


إن التمييز بين القمع الأساسي والقمع الفائض باستخدام التمييز بين السلطة كممارسة عقلانية والسلطة كسيطرة عقلانية يساعدنا أيضاً في تمييز مبدأ الأداء من مبدأ الواقع بوصفه الشكل التاريخي السائد منه. فمبدأ الأداء هو بالضبط التنظيم المعين والمحدد للندرة وما يفرضه من سلوك وجودي محدد. وهو شكل العمل المحدد، وطريقة توزيع الندرة المحددة، ومحاولة التغلب عليها المحددة، والمفروضة على الأفراد في سياق تاريخي محدد. بينما مبدأ الواقع هو المفهوم المجرد لمبدأ الأداء، بعبارة أخرى هو مبدأ الأداء ولكن دون أن يرتبط بسياق تاريخي محدد. ولقد صاغ ماركيوز مصطلح مبدأ الأداء للتركيز على أنه تحت حكمه يتراتب المجتمع طبقاً لأداء أعضائه الاقتصادي التنافسي. ومبدأ الأداء ــــــــــ كما هو واضح ـــــــــ يفترض تاريخ طويل كانت نتيجته أن صارت السيطرة عقلانية. ولفترة تاريخية طويلة تطابقت مصالح السيطرة مع مصالح الكل: الاستخدام الرابح للجهاز الانتاجي الذي يشبع ملكات الأفراد وحاجاتهم، والعمل الذي يحدد مدى الأشباع المتحقق لدى الغالبية العظمى من الناس والأسلوب الذي يتحقق به. ومع ذلك فإن هؤلاء الناس ليس لديهم سيطرة على عملهم، وهم يعملون من أجل الجهاز الانتاجي، الذي يعمل بشكل مستقل وعليهم الخضوع له حتى يتمكنوا من العيش. والنتيجة أنه كلما أصبح العمل أكثر تخصصاً كلما خضع أكثر للجهاز الانتاجي وبالتالي أصبح أكثر اغتراباً.


هذا الطابع التاريخي هو ما يميز ماركيوز من فرويد، رغم ادعاء الأول بأن مضمون نظرية الثاني يحتوي على هذا الطابع التاريخي، وهو بالضبط ما أضفاه ماركيوز على فرويد حين قرأه قراءة ماركسية. ولذلك فبينما يدعي فرويد أن حضارتنا بشكل عام قد تأسست على قمع الغرائز، وأن التسامى بالجنس هو الذى أنتج الطاقة اللازمة للتقدم، وأن الثمن الذى دفعه الإنسان لهذا التقدم هو استبداله السعادة بالشعور بالذنب، وأن كل ذلك كان بسبب التضارب البيولوجى الحتمى بين الإيروس والحضارة، فإن ماركيوز يرى أن الصراع الذي لا يقبل المصالحة ليس هو الصراع بين العمل (مبدأ الواقع) والإيروس (مبـدأ اللذة) إنمـا هو الصراع بين العمل المغترب alienated labour (مبدأ الأداء) والإيروس. ويعتقد أن المجتمع الإشتراكى يمكن أن يخلق عملاً غريزياً غير مغترب non-alienated libidinal work وحضارة غير قمعية قائمة على تسامى غير قمعى.[49] وهي فكرة مستحيلة بالنسبة لفرويد لأن مبدأ الواقع ومبدأ اللذة مبدآن متناقضان على نحو مطلق، ولا يمكن التوفيق بينهما على الإطلاق.[50] إن خلاف ماركيوز مع فرويد يدور حول إمكانية حضارة غير قمعية. وبما أن ليس كل ما يفرضه المجتمع العامل على نفسه مضاد للذة، وبما أن المجتمع أيضاً يقيد العنف، فإن عقل العنف يمكن أن يخلي مكانه لعقلانية جديدة للإشباع يلتقي فيها العقل والسعادة، بقدر ما يصير الصراع من أجل الوجود تعاوناً من أجل التطور الحر للفرد واشباع حاجاته. وفي المجتمعات الحديثة فإن هذا البديل ليس واقعاً وإنما إمكان، بل على العكس صار مبدأ الأداء في هذه المجتمعات غاية في ذاته.[51]


وبصياغة ماركيوز لمفهوم القمع الفائض يكون قد أنكر مساواة العقل بالقمع الذي استنتجناه من صياغات فرويد لنظريته. إذ أن هذا المفهوم مساءلة للارتباط بين الحضارة والبربرية. إن القمع الفائض يعرض أفراد المجتمع لضغوط وتوترات جديدة، تتكفل العمليات الإجتماعية الطبيعية فى الأحوال العادية بإخضاعها ومعادلتها دون الحاجة إلى سياسات إخضاع للعقل، ولكن فى مجتمعات الوفرة المعاصرة، ونموذجها المجتمع الأمريكى، فإن الفارق بين أشكال وجودها القائمة وبين الممكنات الحقيقية للحرية الانسانية المتوفرة فيها فارقاً ضخماً بحيث تضطر هذه المجتمعات لكى تتجنب الإنفجار أن تحقق تنظيماً عقلياً أكثر فعالية لأفرادها، يفتح النفس الإنسانية ويخضعها لسيطرة واستغلال منظميّن فى بعديّها الواعى واللاواعى.[52] وهذا يعني أن الحاجة إلى اخضاع العقل حاجة تاريخية وليست حاجة ضرورية مما يؤكد انتفاء العلاقة بين القمع والعقل.


وعندما يتحدث ماركيوز عن القمع الفائض فإنه لا يشير إلى سياسات يتم إبتدارها بوعى وإنما يتحدث عن نزوع أو قوى تؤكد نفسها بغض النظر عن وعى القائمين بأمرها، وهى تعبر عن متطلبات أجهزة الإنتاج والتوزيع والإستهلاك، متطلباتها الإقتصادية والتقنية والسياسية والعقلية، التى يجب مقابلتها لتأمين قيام هذه الأجهزة بوظائفها ولتأمين قيام العلاقات الاجتماعية المستمدة من تنظيم هذه الأجهزة بوظيفتها. هذا النزوع الموضوعى يتجلى فى الإتجاه الإقتصادى، وفى التغييرات التكنولوجية، وفى السياسات الداخلية والخارجية، وتولّد إحتياجات وأهداف عامة فوق الأفراد فى مختلف الطبقات الاجتماعية ومجموعات الضغط والأحزاب.[53]


ويهدف القمع الفائض إلى مصالحة الفرد مع أشكال الوجود التى يفرضها عليه مجتمعه. ولما كان القمع الفائض المتضمن فى هذه المصالحة قمعا فظاً فإن هنالك حاجة ضرورية لكى يحقق الإنسان ارتباطاً غريزياً libidinal cathexis بالبضائع التى يبيعها ويشتريها، بالخدمات التى يقوم بها أو يستخدمها، بالترفيه الذى يستمتع به، بحالته الرمزية التى يحملها. هذا الإرتباط الغريزى ضرورى لأن وجود المجتمع يعتمد على تحويل الحاجات الاجتماعية إلى حاجات فردية، حاجات غريزية.[54] ولذلك فإن علم النفس وعلم الاجتماع يلعبان دوراً هاماً كأدوات ضرورية تخدم مصالح الحفاظ على المجتمعات القائمة.


وهذا يعنى أن الانسجام بين الفرد والمجتمع يصل إلى حد أن الصحة العقلية والبنية النفسية الصحيحة لا يحددها الفرد وإنما يحددها المجتمع. هذا الانسجام مطلوب ومرغوب إذا كانت الشروط التى يوفرها المجتمع لتطور الفرد كإنسان تنسجم مع الممكنات المتاحة للحرية والسلام والسعادة. ولكن الشروط القائمة فى مجتمعات الوفرة تنسجم مع الحاجة إلى الانتاجية العالية التى تتطلب انتاجاً جملياً واستهلاكاً جملياً، فتتحول هذه الاحتياجات إلى حاجات معيارية ومنظمة ومعممة، هى التى تحدد شروط تطور الأفراد. وتسود هذه الشروط لأن ذات الخصائص التى تمكن الفرد الطبيعى، الذى يتمتع بالصحة النفسية، من الإنسجام مع الآخرين فى مجتمعه، هى ذات الخصائص التى تشكل علامات على القهر، علامات على الإنسان المشوّه، الذى يتعاون فى قهر نفسه، وفى مصادرة حريته الفردية والإجتماعية، وفى ممارسة العنف. إن بنية مجتمعات الوفرة تثير فى إعضائها الحاجات والإشباعات الغريزية التى تضع الأفراد ضد أنفسهم فينتجون ويشددون إنتاج أوضاع قهرهم.[55]


هذا هو التناقض الذى يترجم نفسه من البنية الإجتماعية إلى البنية النفسية للأفراد. فيثير نوازع العنف ويفاقمها، التى تتحول بدورها بعملية تسامى صعبة من طاقة عنف هدّامة إلى طاقة عنف مفيدة إجتماعياً تدفع إلى النمو الإقتصادى والسياسى والتقنى. وهذا جزء من ذات الدينامية التى تتسامى بها الطاقة الإيروسية(الحب الجنسى)، الليبيدو، لتصبح مفيدة إجتماعياً. ويتوحد هذان الدافعان المتناقضان فى عملية التحول المضاعفة هذه ليصبحا الوعاء العقلى والعضوى للحضارة. ولكن ومهما يكن من أمر فاعلية هذا التوحد فإن الطابع الأساسى لكل من هذين الدافعين سيظل كما هو دون أى تغيير: يظل العنف هداما ينحو إلى الموت، ويظل الليبيدو يسعى لحفظ الحياة وحمايتها وتحسينها. ولذلك فإن أعمال الهدم ستخدم الفرد والحضارة الإنسانية طالما ظلت فى خدمة الإيروس، أما إذا أصبح دافع العنف أقوى من مقابله الإيروسى فإن العملية كلها ستنعكس. وهذا التوازن دقيق وهام.[56] فمثلاً، الثقافة تتطلب تسامياً مستمراً، ولذلك فهي تضعف الإيروس، الذي يبني الثقافة. وتجريد العالم من الجنس بإضعاف الإيروس يحرر دوافع العنف. وبذلك يهدد إضعاف الغرائز الحضارة، وهو إضعاف تكتسب بسببه غريزة الموت السيادة على غرائز الحياة. إن الحضارة التي نشأت من التقشف وتتطور تحت التقشف المتزايد تميل إلى العنف الذاتي. بينما العمل، مثلاً، في الحضارة هو ذاته وإلى حد كبير إستعمال إجتماعي لدوافع العنف ولذلك فهو يعمل في خدمة الإيروس، وبالتالي يقويه. وفي مجالات محددة نجد أن العنف المتسامي (كالعمليات الجراحية) يدعم مباشرةً حياة موضوعه. ويبدو أن العنف في الحضارة يتم إشباعه، في مداه وأغراضه، أكثر من الليبيدو.[57] مما يعني أن التوازن مختل بين الإيروس وغريزة الموت في الحضارة القائمة لصالح غريزة الموت ولذلك يغلب على حضارتنا طابع العنف. ونحن نحتاج لدعم الإيروس حتى نعيد التوازن بين الغريزتين، وللحياة الإنسانية بكاملها.


هذا التوازن كما هو واضح لن يتم إلاّ في مجتمع حر، ووفقاً لماركيوز، إلاّ في مجتمع تحرر من القمع الفائض، أي مجتمع استطاع أن يتجاوز حالة إنسان البعد الواحد. وهو مجتمع لن يبرز إلى الوجود إلاّ إذا أحدث النوع الإنساني تحولاً جذرياً في نمط وجوده لا يعيد فقط التوازن بين الإيروس والثناتوس وإنما ينفتح على عقلانية جديدة وعلم جديد وتكنولوجيا الجديدة؛ إننا نتحدث عن المجتمع المتحرر من كل أشكال قمعه.


المراجع:






1. حسن محمد حسن، النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1993م.


2. حسين حرب، الفكر اليوناني ـ أفلاطون، سلسلة الفكر اليوناني، الكتاب رقم 2، الطبعة الثانية، دار الفارابي، بيروت، 1985م.


3. كارل ماركس، موضوعات فيورباخ، ملحق في فردريك انجلس: لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، دار التقدم، موسكو، 1971م.


4. هربرت ماركيوز، العقل والثورة، هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الطبـعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1979م.


5. هربرت ماركيوز، نظرية الوجود عند هيجل، أساس الفلسفة التاريخية، ترجمة وتقديم وتعليق: إبراهيم فتحي، المكتبة الهيجلية بإشراف د. إمام عبد الفتاح إمام، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1984م.










6. Andrew Feenberg, Marcuse: Obstinacy as a Theoretical Virtue, comment on one of Marcuse s last speeches, first published in Capitalism, Nature, Socialism, Sept. 1992, http://www.uta.edu/huma/illuminations.

7.Goran Therborn, The Frankfurt School, in Western Marxism, edited by New Left Review, New Left Books, Manchester, 1977.
8.Herbert Marcuse, Erose & Civilization, second edition, Sphere Library, New York, 1966.
9.Herbert Marcuse: Aggressiveness in Advanced Industrial Society, in Negations, Essays in Critical Theory, Beacon Press, Boston, 1968, http://www.uta.edu/huma/illuminations.


10. Jurgen Habermas, The Differing Rhythms of Philosophy and Politics, Herbert Marcuse at 100, in The Postnational Constellation, translated, edited, and with an introduction by Max Pensky, first edition, Polity Press in association with Blackwell Publishers Ltd., UK, 2001.


11. Karl Marx: Economic and Philosophic Manuscripts of 1844, seventh printing, Progress Publishers, Moscow, 1982.


12. Martin Heidegger, Basic Writings, edited and introduced by David Farrell Krell, Routledge, London, 1996.


13. Robert M. Young, The Naked Marx, Review of Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical Inquiry into Frued, in New Statesman, vol. 78, 7 November 1969, http://www.uta.edu/huma/ illuminations.


14. Robert W. Marks: The Meaning of Marcuse, First Printing, Ballantine Books, New York, March 1970.




--------------------------------------------------------------------------------


[1] Jurgen Habermas, The Differing Rhythms of Philosophy and Politics, Herbert Marcuse at 100, in The Postnational Constellation, translated, edited, and with an introduction by Max Pensky, first edition, Polity Press in association with Blackwell Publishers Ltd., UK, 2001, p. 158


[2] هربرت ماركيوز: نظرية الوجود عند هيجل، أساس الفلسفة التاريخية، ترجمة وتقديم وتعليق: إبراهيم فتحي، المكتبة الهيجلية بإشراف د. إمام عبد الفتاح إمام، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1984م، ص 45.


[3] Martin Heidegger, Basic Writings, edited and introduced by David Farrell Krell, Routledge, London, 1996, p. 32


[4] Ibid., p. 20


[5] هربرت ماركيوز: نظرية الوجود عند هيجل، مرجع سابق، ص 41-42 وهامشهما.


[6] المرجع السابق، ص 58


[7] المرجع السابق، ص 88


[8] المرجع السابق، ص 52-53


[9] المرجع السابق، ص 88-89


[10] المرجع السابق، ص 117-121


[11]المرجع السابق، ص 127-131


[12] المرجع السابق، ص 160


[13] المرجع السابق، ص 281


[14] Robert W. Marks: The Meaning of Marcuse, First Printing, Ballantine Books, New York, March 1970, pp. 23-24


[15] هربرت ماركيوز: نظرية الوجود عند هيجل، مرجع سابق، ص 133


[16] Martin Heidegger, Basic Writings, Op. Cit., p.19


[17] هربرت ماركيوز: نظرية الوجود عند هيجل، مرجع سابق، ص 185،189


[18] هربرت ماركيوز: العقل والثورة، هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الطبـعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1979م، ص 25-26


[19] المرجع السابق، ص 28- 31


[20] المرجع السابق، ص 36- 39


[21] حسن محمد حسن، النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1993م، ص 24


[22] المرجع السابق، ص 25- 31


[23] حسين حرب: الفكر اليوناني ـ أفلاطون، سلسلة الفكر اليوناني، الكتاب رقم 2، الطبعة الثانية، دار الفارابي، بيروت، 1985م، ص 61- 89


[24] هربرت ماركيوز، العقل والثورة، مرجع سابق، ص 227- 228


[25] المرجع سابق، ص 229


[26] كارل ماركس: موضوعات فيورباخ، ملحق في فردريك انجلس: لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، دار التقدم، موسكو، 1971م ، ص 69


[27] د. حسن محمد حسن، مرجع سابق، ص 127- 128


[28] مقتبس من ماركس: مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ص 298- 299 في هربرت ماركيوز، العقل والثورة، مرجع سابق، ص 267


[29] Karl Marx: Economic and Philosophic Manuscripts of 1844, seventh printing, Progress Publishers, Moscow, 1982, p. 127


[30] هربرت ماركيوز، العقل والثورة، مرجع سابق، ص 245- 246


[31] كارل ماركس: موضوعات فيورباخ، مرجع سابق، ص 73


[32] د. حسن محمد حسن، مرجع سابق، ص 126


[33] هربرت ماركيوز، العقل والثورة، مرجع سابق، ص 246- 248


[34] Herbert Marcuse: Aggressiveness in Advanced Industrial Society, in Negations, Essays in Critical Theory, Beacon Press, Boston, 1968, http://www.uta.edu/huma/illuminations, p. 3


[35] Ibid., p. 143


[36] Andrew Feenberg, Marcuse: Obstinacy as a Theoretical Virtue, comment on one of Marcuse s last speeches, first published in Capitalism, Nature, Socialism, Sept. 1992, pp. 38-40,

http://www.uta.edu/huma/illuminations


[37] Goran Therborn, The Frankfurt School, in Western Marxism, edited by New Left Review, New Left Books, Manchester, 1977, 115-116


[38] Herbert Marcuse, Erose & Civilization, second edition, Sphere Library, New York, 1966, p. 25


[39] Ibid., p. 94


[40] Robert M. Young, The Naked Marx, Review of Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical Inquiry into Frued, in New Statesman, vol. 78, 7 November 1969, pp. 666-67 at http://www.uta.edu/huma/ illuminations


[41] Herbert Marcuse, Erose & Civilization, Op.Cit., p. 29 - 30


[42] Ibid., pp. 31- 32


[43] Robert W. Marks, Op.Cit., p. 43- 44


[44] Herbert Marcuse, Erose & Civilization, Op.Cit., pp. 36- 41


[45] Robert W. Marks, Op.Cit., p.46


[46] Herbert Marcuse: Negations, Op.Cit., the same page


[47] Herbert Marcuse, Erose & Civilization, Op.Cit., pp. 44- 45


[48] Robert W. Marks, Op.Cit., p. 49


[49] Robert M. Young, Op.Cit., the same pages


[50] Herbert Marcuse, Erose & Civilization, Op.Cit., p. 33


[51] Robert W. Marks, Op.Cit., p. 46-47


[52] Herbert Marcuse: Negations, Op.Cit., the same page


[53] Ibid., p. 4


[54] Ibid., the same page


[55] Ibid., p. 5


[56] Ibid., p. 7


[57] Herbert Marcuse, Erose & Civilization, Op.Cit., pp. 78, 80