الدين والحكم (2)


سهر العامري
2015 / 8 / 29 - 12:01     

الدين والحكم (2) سهر العامري
من بين أهم الدواعي التي دعت الكثير من المؤرخين العرب أن ينسبوا الحقبة الزمنية القصيرة التي سبقت ظهور الدين الإسلامي الى الجهل هو قولهم أن عرب تلك الحقبة كانوا يجهلون الدين ، هذا على الرغم من أن أولئك المؤرخين يدركون أو لا يدركون أن الديانة التي تنادي بوحدانية الإله كانت معروفة في شبه جزيرة العرب ، وفي مكة على وجه التحديد ، وهي المدينة التي ظهرت فيها الدعوة للإسلام.
ففي يثرب من الحجاز مثلما الحال في نجران في اليمن وغيرهما من الحواضر تواجد اليهود بغض النظر عن الأصول العرقية التي انحدروا منها سواء كانت تلك الأصول عبرانية أم عربية ، فوجود بني قريضة ، وبني النضير ، وبني قينقاع في شمال شبه جزيرة العرب هو مثل وجود يهود بني حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة في جنوب شبه الجزيرة تلك ، وإذا كان هذا هو الحال مع الديانة اليهودية في تلك الحقبة الزمنية فهو الحال نفسه مع الديانة المسيحية ، فقد عرف الدين المسيحي في مكة وفي يثرب ونجران ، وقد اعتنقته بعض القبائل العربية مثل قبيلة تغلب وبني تميم وبني كندة ، ومن أشهر الأسماء التي اعتنقت الديانة هذه هو الشاعر الاعشى ، والشاعر أمرؤ القيس ، وورقة بن نوفل ، وخديجة بنت خويلد ، وآخرون غيرهم .
وبالإضافة الى الديانتين السالفتين كان هناك الأحناف الموحدون كذلك ، وكانوا يعدون في حقيقة الأمر من مثقفي تلك الحقبة الزمنية ، فقد برز منهم الشعراء ، مثلما برز منهم الحكماء والخطباء ، وصاروا يلقون خطبهم على الناس في المحافل العامة ، يطرحون فيها أفكارهم عن مصائر الناس ، مثلما كانوا يؤدون الكثير من الطقوس التي أخذ بها المسلمون بعد ظهور الدعوة الاسلامية ، فكانوا يحجون الى البيت العتيق ، ويؤدون طقوس ذلك الحج ، وهي في أغلبها ذات الطقوس التي أداها المسلمون فيما بعد ، كما أنهم كانوا يوجهون وجوههم صوب الكعبة في صلواتهم ، وهم بعد ذلك على ملة النبي ابراهيم ، فقد اعتزلوا عبادة الأصنام ، وصار ختن الرجال وغسل الجنابة والصوم وتحريم الخمرة من الأمور المعروفة بينهم ، كما كان البعض منهم يجيد القراءة والكتابة التي استغلوها في المراسلات بينهم ، وبين أشباههم من عرب العراق ، مثل رسالة أكثم بن صيفي إلى ملوك المناذرة في مدينة الحيرة من العراق ، ولم يكن تعلم القراءة والكتابة مقتصرا على الرجال بل تعداه الى النساء اللائي كانت من بينهن الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية العدوية التي طلب النبي محمد منها أن تعلّم حفصة بنت عمر الكتابة والقراءة .
يضاف الى تلك الرسائل والخطب التي كانوا يتلونها شفاها في مواسم الحج أو في اسواق العرب ، ومنها سوق عكاظ الذي تأسس في السنة الخامسة عشرة بعد عام الفيل ، والذي كان من أشهر الخطباء فيه قس بن ساعدة الايادي وأكثم بن صيفي ، وكان من بين المستمعين لهما محمد بن عبد الله قبل النبوة ، وأبو بكر بن أبي قحافة اللذان جمعتهما صداقة الترحال في التجارة الى بلاد الشام .
لقد شكل أحناف مكة وغيرها شريحة اجتماعية مثقفة بمفهوم اليوم ، وكان يطلق على الواحد منهم في تلك الحقبة الزمنية لفظ : الكامل ، وجمعها : الكملة ، ولكن أفراد هذه الشريحة ظلوا على علاقة قريبة من الطبقة الارستقراطية العربية المتمثلة بتجار وأعيان مكة ، ولم يدخلوا في صراع معها ، فكانوا هم ينهجون منهج الزهاد الذين يذكرون الناس بوحدانية الله ، وبالموت الذي هو مصير كل حي على وجه الأرض ، وهم بمنهجهم هذا يختلفون اختلافا كليا عن حركة اجتماعية أخرى ظهرت في الصحراء العربية ، واتخذت من جبالها ووديانها حصونا يقاتلون منها أغنياء قريش والقبائل الأخرى ، ويغيرون على قوافلهم التجارية القادمة من مدن الشام أو الصاعدة لها من الهند والخليج العربي ، وقد طرحت حركة الفقراء " الصعاليك " هذه فكرها من خلال شعر شعرائها الذي يفيض بنهج القوة ، وامتشاق السيوف ، ودفع غائلة الجوع المميت عن فقراء الناس ، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية ، ومن أشهر هؤلاء الشعراء هو الشاعر عروة بن الورد ، والشنفرى الأزدي ، وتأبط شرا وآخرون ، ومع كل ما تقدم تظل هناك في مكة طائفة من الناس كانت تؤمن بالتوحيد لكنها في نفس الوقت كانت تشرك بالله ، وذلك من خلال مجموعة من الاصنام نصبوها في البيت الحرام ، والقرآن هو من أطلق عليهم تسمية الشرك في الكثير من آياتها ( أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون).
ومن الدواعي الأخرى التي من أجلها نسبت تلك الحقبة الزمنية الى الجهل هو الجهل ضد الحلم بكسر الحاء ، والمراد بالحلم هنا هو العقل والأناة والرشد ، ويبدو لي أن هذا الداعي لا يصمد أمام المعارف التي تحققت للإنسان العربي في تلك الحقبة ، فقد ذكرت قبل قليل معرفة العرب بالقراءة والكتابة ، وبالتجارة والتبادل السلعي بينهم وبين ما جاورهم من الشعوب والأمم ، كما أن الكثير منهم امتهن حرفة الزراعة ، وهي حرفة متقدمة في ذلك الزمان ، كما تركوا لنا أدبا ناضجا في الشعر والخطابة . وبالإضافة الى ذلك فقد ألصقت تهمة الجهل بهم كذلك بسبب من أنهم كانوا يشربون الخمر مع أن العرب لم ينتهوا عن شربها لا في صدر الإسلام على زمن النبي محمد والخلفاء الراشدين ، ولا في زمن الدولتين الأموية والعباسية ، وليس هذا فحسب فقد أجازت شربها بعض المذاهب الاسلامية ، وراح شعراء الدولتين يتغنون بها ، ويصورونها أجمل تصوير :
راق الزجاج ُوراقت الخمرُ ... فتشابها وتشاكلَ الأمر ُ
فكأنما خمر ولا قدح ٌ .... ..... وكأنما قدح ٌ ولا خمر ُ
ومع ذلك لم تنسب العصور السابقة لتلك الحقبة الزمنية ولا اللاحقة لها بما فيها عصرنا الحالي الى الجهل رغم أن الإنسان في كل هذه العصور قد عبّ في جوفه الكثير من الخمر ، وتفنن في صنعها ، وطرق تناولها .
ثم قالوا أن عرب تلك الحقبة كان يئدون أولادهم ، لكن لم يكن العرب كلهم من يقوم بهذه الفعلة ، وإنما قامت بها بعض الأسر المعدمة والفقيرة في عشائر من ربيعه ، وكندة ، وطي ، وتميم. ، تلك العشائر التي كانت تعيش خارج الحواضر العربية ، فالحرفة السائدة خارج تلك الحواضر في تلك الحقبة كانت هي حرفة الرعي التي طالما شهدت سنوات جوع قاتلة ، وقد ذكر القرآن بصورة جلية السبب الذي كان يدفع نفر من العرب الى وأد أولادهم فقال : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) أو ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) ، ثم أن الوأد في الآيتين السالفتين قد شمل الإناث والذكور من الأولاد ، يضاف الى ذلك أن المرأة لم تكن عنصرا منتجا في حرفة الرعي ، ولم تلعب دورا مهما فيها نتيجة لظروف الصحراء القاسية ، يضاف الى ذلك أن وأد البنات في زمننا الحالي أخذ شكل اجهاض الجنين من بطن أمه إذا كانت بنتا مثلما عليه الحال في بعض دول جنوب شرق آسيا ، وربما في دول غيرها .
وإذا كانت تلك الدواعي وربما غيرها لم تبرر تسمية تلك الحقبة الزمنية بالعصر الجاهلي فمن أين جاءت تلك التسمية التي شاعت في بطون الكتب قديما وحديثا ، مثلما امتلأت بها مناهج الدراسة في الوطن العربي من شرقه الى غربه ؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من القول إن تسمية العصر الجاهلي بصيغة النسب المعروفة في الصرف والنحو العربيين ظهرت بظهور التدوين عند العرب في نهاية القرن الثاني الهجري والقرون اللاحقة ، ففي هذا الوقت قامت الدولة العباسية ، وقامت معها مدن نهضت بها معارف كثيرة ، وتأتي في طليعة تلك المدن بغداد العاصمة ، والبصرة ثم الكوفة ، مثلما سادت في تلك الدولة حرفة الزراعة ، وصار العراق يسمى بلد السواد لكثرة ما فيه من زرع ، هذا بالإضافة الى تأسيس المدارس ، وانتشار الكتاب ، وبناء المكتبات ، وظهور حركات أدبية فكرية نشطة ، وحركة تدوين كان أغلب المشتغلين فيها من أبناء الطبقة العربية الارستقراطية ، أو من القريبين منها ، وقد نظر هؤلاء لتلك الحقبة الزمنية نظرة كان فيها كثير من الاحتقار والازدراء لعرب تلك الحقبة الزمنية ، فشحنوا بعض الالفاظ بمعاني جديدة ، أو أنهم غيروا بصيغها ، فلفظ " صعاليك " الذي كان يعني الفقراء من الناس في الحقبة المشار لها هنا صارت تعني اللصوص وقطاع الطرق عند هؤلاء المدونين ، ومثل ذاك فقد استعاروا لفظ " الجاهلية " التي وردت في القرآن ، وفي الحديث النبوي ، وقاموا بتحويل صيغتها من المصدرية الصناعية في اللغة الى صيغة النسب .
لقد ورد لفظ الجاهلية في القرآن بصيغتين اثنتين هما صيغة المصدرية الصناعية فقالت الآية : أفحكم الجاهلية يبغون ، أو بصيغة : اسم الفاعل : واعرض عن الجاهلين ، كما أنها أتت بصيغة المصدرية الصناعية نفسها على لسان النبي محمد حين سمع أبا ذر الغفاري يعير رجلا بأمه فقال له : أنت أمرؤ فيك جاهلية ، ولم يرد لفظ جاهل بصيغة النسب لا في القرآن ولا في الحديث النبوي أبدا ، مثلما ادعى البعض زورا . وللتفريق ما بين المصدر الصناعي واسم الفاعل وبين صيغة النسب أقول : إن المصدر الصناعي هو اسم لحقته ياء مشددة ، وتاء مربوطة : مثل إنسانية ، اشتراكية ، ثورية ، علمانية ويدل على صفة في ذاته ، فحين خاطب النبي محمد أبا ذر الغفاري بقوله : أنت أمرؤ فيك جاهلية ، يريد أن يقول له فيك بعض الخصائص من تلك الحقبة ، بدليل أن النبي لم ينسب أبا ذر الى الجهل ، ولكنه ذكره بخصيصة هي النيل من رجل بالتعرض الى أمه ، وهذه الخصائص الغير حميدة موجودة في كل زمان ومكان ، ثم أن لفظ الجاهلية في قول النبي محمد يعرب مبتدأ مؤخر ، بينما لو قلنا : " القصيدة الجاهلية محكمة البناء " لكانت القصيدة هنا منسوبة الى الجهل ، وذلك لأنها وقعت نعتا ، فالمنسوب هو الاسم الذي تلحقه ياء مشددة ، ويقع نعتا أبدا ، وهذا النعت او الصفة لم يطلقها لا القرآن ولا النبي أبدا مثلما أسلفت ، وإنما جاءت من المدونين العرب في العصر العباسي الذين نظروا الى فقراء عرب الصحراء العربية بعيون احتقار الطبقة الاستقراطية لهم في زمن الدولة العباسية التي نعتت العامة من الناس بأقذر النعوت ، فكيف نريدها أن تصف لنا العرب الذين عاشوا الفقر والحرمان وشظف العيش في الصحراء العربية بغير تلك النعوت ، فهذا ابو حيان التوحيدي يرمي كل الالفاظ النابية على رؤوس فقراء الناس في العراق فيقول " همج ، ورِعاع ، وأوباش ، وأوناش ، ولفيف ، وزعائف ، وداصّة ، وسُقَاط ، وأنذال ، وغوغاء ، لأنّهم من دقة الهمم وخساسة النفوس ، ولؤم الطباع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين"
خلاصة القول هي أنه لا يوجد عصر جاهلي في تاريخ العرب قديما وحديثا أبدا ، وإنما هو من اختراعات بعض المدونين الذين كانوا في خدمة السلطة والحكم في زمن الدولة العباسية ، والذين ربطوا مصائرهم بمصائر الحكام الذين جلسوا على ثروات طائلة من المال ، وتفننوا بمظاهر الأبهة والبذخ ، وعلى ذلك تظل تسمية عصر ما قبل الإسلام التي درج عليها بعض المدونين هي أفضل تسمية لتلك الحقبة التي أشرت أنا إليها من قبل .