دروس تشيلي لليونان و”الجبهة الشعبية”


أشرف عمر
2015 / 8 / 28 - 08:33     

ترجمة أشرف عمر الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية



يرحب الاشتراكيون بالانشقاق اليساري عن سيريزا في اليونان، وبالطبع بإمكانية بناء جبهة متحدة بين القوى المناهضة لسياسات التقشف. لكن في إطار هذه الحركة، لابد من مناقشة قضية اليسار وسلطة الدولة الرأسمالية. هذا ما يستعرضه الرفيق التشيلي ميجويل سيلفا في هذا المقال.

اختار نوّاب البرلمان الـ25، المنشقون عن سيريزا هذا الأسبوع، اسم “الجبهة الشعبية” معبراً عنهم. يعود هذا الاسم إلى حكومة الجبهة الشعبية في تشيلي (70 – 1973) التي أطاح بها الانقلاب العسكري بقيادة بينوشيه.

أعتقد أن من يعرف مِنا شيئاً عن الأيام الألف للجبهة الشعبية التشيلية، مدينٌ للجميع بالتحدث عن فترات الصعود والهبوط التي شهدتها الحركة وحكومتها.

اشتمل برنامج الجبهة الشعبية على تأميم الشركات وتوجيه الاقتصاد اجتماعياً. تضمَّن البرنامج أيضاً وسائل عديدة لتقليص التفاوت الطبقي وعدم المساواة، ولإثراء المشاركة الديمقراطية. أوفت الحكومة بالكثير من وعودها، وفي غضون أشهر قليلة أممت النظام المصرفي ومناجم النحاس وصناعة النسيج، بالإضافة إلى قطاعات صناعية هامة أخرى دُمجت في “المساحة الاجتماعية”.

اتخذت الحكومة أيضاً خطوات أكثر جذرية في الإصلاح الزراعي، الذي كان قد بدأته الحكومة السابقة. وطالما أن السوق كفَّ عن العمل كـ”يد خفية” تربط الإنتاج بالتوزيع، أُجبرت الحكومة على خلق نظام جديد للتوزيع.

لم تقف الطبقة الحاكمة، داخل وخارج البلاد، مكتوفة الأيدي، بل عزمت على الرد على هذه الإجراءات. أوقف ملاك الشاحنات النقل، وقد جذبوا وراءهم قطاعات أخرى من الاقتصاد وغالبية الطبقة الوسطى في البلاد. رد الفعل هذا استفز العمال واستنفرهم، فلم يعد بمقدورهم مواصلة العمل لأن أرباب العمل قد أغلقوا المصانع. وقفوا أمام مفترق طرق؛ إما المكوث في المنازل، أو العمل كالمعتاد لكن من دون مدرائهم.

ماذا جرى في مواقع العمل هذه التي سيطر عليها العمال؟ أخذت الحكومة بعضها إلى “المساحة الاجتماعية”، لكن تركت البعض الآخر في أيدي العمال.

وفي ظل المعركة بين الحكومة والرأسماليين، انتعشت بدائل جديدة عن الديمقراطية البرلمانية. في أحياء الطبقة العاملة، ظهر نظام توزيع جديد وانتشرت جذوره وتوطدت، كما ظهرت لجان إضراب مُنسَّقة فيما بينها في الصناعة، سُميت بـ”الكوردونات الصناعية” لتنمو وترسي قواعد جديدة.

في انتخابات مارس 1973، جنت الجبهة الشعبية أصواتاً تزيد عما جنته في الانتخابات العامة نفسها، وقد أشار ذلك إلى وصول المفاوضات مع الطبقة الحاكمة إلى حائط صد. بدأت القوات المسلحة في التخطيط لانقلاب عسكري، في ظل معارضة النظام التشريعي لكثيرٍ من التغييرات التي أقدمت الحكومة عليها، وتوقف المعارضة البرلمانية عن التفاوض.

بدأت بعض القطاعات العمالية في تسخير طاقاتها لبناء المنظمات الجديدة “للسلطة الشعبية”، بينما ركَّزت قطاعات أخرى على كسب “معركة الإنتاج” التي دشّنتها الحكومة.

وفي يونيو 1973، آلت محاولة قطاع من الجيش للانقلاب على الحكومة إلى الفشل. وفي المقابل سيطر العمال، في “الأحزمة الصناعية” التي تواجدت فيها “السلطة الشعبية” على سانتياجو وبعض المدن الأخرى. اجتاحت مسيرات جماهيرية ضخمة الشوارع الرئيسية في المدن، ووجدت الحكومة نفسها تحت ضغط هائل لاستخدام قبضة قوية ضد قطاعات الجيش المتمردة، والرأسماليين المحليين والأجانب، والمعارضة البرلمانية والقضائية.

وبرغم ذلك – وهذا ما أعتقد أنه الأهم لنا اليوم – اعتقدت الحكومة ورئيسها سيلفادور الليندي، أنهم قادرون على التعامل مع الموقف بتكتيكات برلمانية عادية، مثل المزيد من إدماج الجيش في الحكومة والتفاوض والإقناع بهذا الكيف أو ذاك. كان من المفترض أن تصعد “الكوردونات” ومنظمات الأحياء كبديل عن تكتيكات الحكومة بعد فشل انقلاب يونيو. لكن ذلك ما لم يحدث.

بشكل عام، لم تكن منظمات السلطة الشعبية تدري ما الذي يتوجب عليها فعله. بعض هذه المنظمات تخوَّفت من أن يُنظر لها وكأنها خانت الحكومة، لذا فضَّلت مراقبة تطورات الأمور. منظمات أخرى كانت أكثر استقلالية أدركت أن وقت الحلول البرلمانية قد ولّى، لكنها طالبت الليندي باتخاذ الإجراءات اللازمة بنفسه.

وهكذا تبعثرت السلطة الشعبية. وكنتيجة لذلك، حينما وجّه بينوشيه والجيش الضرب القاضية بلا رحمة في انقلاب 11 سبتمبر 1973 (11 سبتمبر الأول)، واجهوا مقاومة ضعيفة نسبياً. هذا أهم وأكبر درس تقدمه لنا تجربة الجبهة الشعبية التشيلية.

من جانب، تقول هذه الخبرة التاريخية أن السلطة الشعبية أمرٌ ممكن التحقيق على أرض الواقع. مئات الآلاف من العمال يمكنهم أن يدركوا قدرتهم هم أنفسهم على تغيير المجتمع. لكن من الجانب الآخر، لا ينبغي أن يكون إيمان هؤلاء العمال بالحكومة، التي تحكم باسم السلطة الشعبية، إيماناً أعمى. حينما تفي الحكومة بوعودها، فذلك حسنٌ جداً إذا صب في صالح تطور جنين الديمقراطية الحقيقية، جنين السلطة الشعبية. لكن إذا كانت الحكومة غير قادرة على الوفاء بوعودها، أو غير راغبة في ذلك، لابد للحركة أن تحافظ على استقلالية وثورية سياساتها.

أعتقد أن تجربة الجبهة الشعبية في تشيلي يمكن أن تعلِّمنا الكثير. الجبهة الشعبية الجديدة في اليونان لابد أن تضع التجربة التشيلية نصب أعينها، فهي تطرق هذا الوتر بعنف. لابد أن نتعلم أن “الوحدة” يمكن، أحياناً، أن تُستخدم في بناء السلطة الشعبية، لكن في أحيانٍ أخرى يمكن أن تتحوَّل إلى عقبة في هذا الطريق إذا بُنيت على أساس الخضوع للبرلمان والتكتيكات الإصلاحية.

* المقال منشور باللغة الإنجليزية في 25 أغسطس 2015 على موقع العامل الاشتراكي – أيرلندا