الاتحاد السوفيتي ضد الاشتراكية - نعوم تشومسكي


مازن كم الماز
2015 / 8 / 26 - 21:56     

الاتحاد السوفيتي ضد الاشتراكية - نعوم تشومسكي
1986
ترجمة مازن كم الماز
عندما يتفق أقوى جهازي دعاية في العالم على فكرة ما , يحتاج الأمر لبعض الجهد الفكري للتخلص من مصيدتهما . هذه الفكرة هي أن المجتمع الذي شكله لينين و تروتسكي و قولبه فيما بعد ستالين و خلفائه له علاقة ما بالاشتراكية بالمعنى الفعلي أو التاريخي الصحيح للاشتراكية . أما في الواقع , إذا وجدت أي علاقة كهذه , فهي علاقة التضاد . من الواضح لم يصر جهازي الدعاية الرئيسيين اليوم على هذه الفكرة الخاطئة . منذ قيامها , حاولت الدولة السوفيتية أن تسخر طاقات شعبها بالذات و المضطهدين في كل مكان في خدمة أولئك الذين استثمروا الغليان الشعبي في روسيا عام 1917 للاستيلاء على سلطة الدولة . أحد الأسلحة الإيديولوجية المهمة التي استخدموها لتحقيق غرضهم هذا كان الزعم بأن مسؤولي تلك الدولة يقودون مجتمعهم و العالم نحو المثال الاشتراكي , و هي استحالة - فهمها على الفور , أي اشتراكي , و بالتأكيد أي ماركسي جدي ( فهم الكثيرون منهم ذلك ) , و كذبة ذات أبعاد هائلة كما كشف التاريخ فيما بعد اعتبارا من الأيام الأولى لقيام النظام البلشفي . حاول السادة الجدد أن يحصلوا على الشرعية و الدعم باستغلال الهالة التي أحاطت بالمثل الاشتراكية و الاحترام الذي حصلت عليه عن حق , ليخفوا ممارستهم الطقسية مع تدميرهم لكل أثر للاشتراكية . أما بالنسبة لجهاز الدعاية الآخر , فإن ربط الاشتراكية بالاتحاد السوفيتي و وكلائه خدمه كسلاح إيديولوجي فعال لفرض التماثل و الخضوع لمؤسسات الدولة الرأسمالية , لتأكيد ضرورة أن يكرس البشر هناك أنفسهم لخدمة أصحاب و مدراء تلك المؤسسات هي شيء أشبه بقانون طبيعي , و أنه البديل الوحيد عن السجن الاشتراكي . هكذا صورت القيادة السوفيتية نفسها على أنها اشتراكية لتحمي حقها في السيطرة , و تبنى الإيديولوجيون الغربيون نفس الحجة لإحباط خطر قيام مجتمع أكثر حرية و عدالة . هذا الهجوم المشترك على الاشتراكية كان فعالا جدا في إضعافها في الوقت الحاضر . يمكن للمرء أن يلاحظ أيضا جهازا آخر استخدمه إيديولوجيو الدولة الرأسمالية بفعالية في خدمتهم للامتيازات و للسلطة القائمة . إن الاستنكار الطقسي لما تسمى بالدول "الاشتراكية" يزخر بالتشويهات و غالبا بالأكاذيب الصريحة . لا شيء أسهل من إدانة العدو الرسمي و أن تنسب إليه أية جريمة : لا توجد بعدها أية حاجة للانشغال بتقديم أي دليل أو الالتزام بأي منطق طالما كان المرء يسير في هذا الموكب . غالبا ما حاول منتقدو العنف و الفظائع الغربية أن يضعوا الأمور في نصابها , بينما أقروا بالقمع و الأهوال الإجرامية المرتكبة بالفعل ( في تلك البلدان المسماة "اشتراكية" ) , بينما حاولوا فضح القصص التي كانت تطبخ خدمة للعنف الغربي . كانت مثل هذه الخطوات تفسر على الفور على أنها تبرير ( لسياسات ) امبراطورية الشر و أتباعها . هكذا جرى الاحتفاظ بحق الكذب خدمة للدولة , و جرى إضعاف أي انتقاد لعنف الدولة و فظائعها . مما يستحق الملاحظة أيضا جاذبية الفكرة اللينينية للأنتلجنسيا المعاصرة خاصة في أوقات النزاعات و الثورات . تقدم هذه الفكرة "للمثقفين الراديكاليين" حق الإمساك بسلطة الدولة و فرض حكمهم : حكم "البيروقراطية الحمراء" القاسي , تلك "الطبقة الجديدة" , بكلمات التحليل الباكونيني النبوئي قبل قرن من الزمان . كما في الدولة البرونابرتية التي أدانها ماركس نفسه , إنهم يصبحون "كهنة أو قساوسة للدولة" , و زائدة طفيلية على المجتمع المدني" الذي يحكمونه بيد من حديد . في الأوقات التي يوجد فيها القليل من المقاومة فقط ضد مؤسسات الدولة الرأسمالية , تقود نفس هذه الالتزامات الأساسية هذه "الطبقة الجديدة" لكي تخدم كمدراء و إيديولوجيين للدولة , "ليقوموا بضرب الشعب بعصا الشعب" , حسب كلمات باكونين . إنها لمعجزة صغيرة أن يجد المثقفون التحول من "الشيوعية الثورية" إلى "الاحتفاء بالغرب" سهلا لهذه الدرجة , حيث يعيدون تمثيل نص تحول من مأساة إلى مهزلة على امتداد نصف القرن الأخير . في الجوهر , كل ما تغير هو تقييمهم لأين توجد القوة . قول لينين أن "الاشتراكية ليست إلا رأسمالية الدولة الاحتكارية و قد وضعت لصالح الشعب بأكمله" , الشعب الذي عليه بالطبع أن يثق في حب قادته , يعبر عن محاولة حرف "الاشتراكية" لتتناسب مع حاجات قساوسة الدولة هؤلاء , و يساعدنا هذا في فهم التحول السريع بين هذه المواقف التي تبدو متناقضة ظاهريا , لكنها متشابهة في الواقع . إن تعابير الخطاب السياسي و الاجتماعي مبهمة و غير محددة , و يجري تعويمها دائما بمساهمات الإيديولوجيين من هذا الصنف أو ذاك . مع ذلك , ما زالت تلك التعابير تحمل بقايا من معنى . منذ بداياتها , كانت الاشتراكية تعني تحرر العمال من الاستغلال . كما لاحظ المفكر الماركسي أنطون بانيكوك , "هذا الهدف لم نصل إليه بعد و لا يمكن الوصول إليه بواسطة طبقة حاكمة و مرشدة جديدة تضع نفسها مكان البرجوازية" , بل "يمكن تحقيقه فقط بأن يصبح العمال أنفسهم سادة على الإنتاج" . سيطرة المنتجين على الإنتاج هي جوهر الاشتراكية , و الوسائل لبلوغ ذلك الهدف قد ابتكرت باستمرار في فترات النضال الثوري , في مواجهة المعارضة الشديدة من الطبقات الحاكمة و "المثقفين الثوريين" الذين يسترشدون بالمبادئ العامة للينينية و علم الإدارة الغربي , بعد أن تعدل حسب الظروف المتغيرة . لكن الشيء الجوهري في المثال الاشتراكي ما يزال كما هو : أن تصبح وسائل الإنتاج بأيدي المنتجين الذين سيتحدون مع بعضهم بحرية و بالتالي تصبح تلك الوسائل ملكية جماعية للناس الذين يحررون أنفسهم من استغلال سادتهم , كخطوة ضرورية نحو العالم الأرحب للحرية الإنسانية . لكن للأنتلجنسيا اللينينية أجندة مختلفة , تناسب وصف ماركس عن "المتآمرين" الذين "يستبقون تطور العملية الثورية" و يشوهوها لتصبح في خدمة أهدافهم في الهيمنة , "و من هنا يأتي كرههم العميق لتنوير العمال النظري الصحيح بمصالحهم الطبقية" , الذي يتضمن الإطاحة بالبيروقراطية الحمراء و خلق آليات السيطرة الديمقراطية على الإنتاج و الحياة الاجتماعية . لكن بالنسبة لللينينيين , يجب على الجماهير أن تكون عالية الانضباط , بينما يناضل الاشتراكيون من أجل نظام اجتماعي يصبح فيه الانضباط "شيئا لا لزوم له" , عندما يعمل المنتجون المتحدون بحرية "لأنفسهم" ( ماركس ) . أكثر من ذلك , لا تحصر الاشتراكية التحررية هدفها في تحقيق سيطرة المنتجين الديمقراطية على الإنتاج , بل تسعى إلى إلغاء كل أشكال السيطرة و الهرمية في كل جوانب الحياة الاجتماعية و الشخصية , نضال لا ينقطع , بما أن التقدم في تحقيق مجتمع أكثر عدلا سيؤدي إلى رؤية جديدة و فهم لأشكال الاضطهاد التي قد تختفي في الوعي و الممارسة التقليديتين . إن العداء اللينيني للخصائص الأكثر أساسية في الاشتراكية كان واضحا منذ البداية . في روسيا الثورية , ظهرت السوفييتات و لجان المصانع كأدوات للنضال و التحرر , بأخطاء كثيرة , لكن بطاقة كامنة هائلة . كرس لينين و تروتسكي , بعد وصولهما إلى السلطة , أنفسهم فورا لتدمير الطاقة التحررية لهذه الأدوات , ليقيموا حكم الحزب , الذي عنى في الممارسة , حكم لجنته المركزية و قيادته العليا - تماما كما تنبأ تروتسكي بذلك قبل سنوات , و كما حذرت روزا لوكسمبورغ و غيرها من قادة اليسار الماركسي يومها , و كما فهم الأناركيون دائما . ليس فقط الجماهير , بل الحزب نفسه أيضا , عليه أن يخضع "للسيطرة الحثيثة من الأعلى" , هكذا قال تروتسكي بينما كان يقوم بالانتقال من مثقف ثوري إلى كاهن للدولة . قبل الاستيلاء على سلطة الدولة , تبنت القيادة البلشفية أغلب شعارات الناس الذين انخرطوا في النضال الثوري من الأسفل , لكن موقفهم الحقيقي كان مختلف جدا . كان هذا واضحا من قبل و أصبح شديد الوضوح بعد استيلائهم على السلطة في عام 1917 . مؤرخ متعاطف مع البلاشفة , هو إي إتش كار , كتب أن "الميل العفوي للعمال لتشكيل لجان المصانع و للتدخل في إدارة المعامل قد شجعته ثورة دفعت العمال للاعتقاد بأن آلات الإنتاج في البلاد تعود لهم و أنهم يمكنهم إدارتها حسب تقديرهم و لمصلحتهم هم" . بالنسبة للعمال , كما قال مندوب أناركي , "كانت لجان المصانع خلايا ( نواة ) المستقبل ... هي , لا الدولة , من يجب أن تكون المسؤولة" . لكن كهنة الدولة كانوا يعرفون معنى هذا جيدا و تحركوا على الفور لتدمير لجان المصانع و ليمسخوا السوفييتات إلى أدوات لحكمهم . في 3 نوفمبر تشرين الثاني أعلن لينين في "مشروع قرار عن سلطة العمال" أن المندوبين المنتخبين ليمارسوا مثل هذه السلطة يجب أن "يكونوا مسؤولين أمام الدولة للحفاظ على أقسى نظام و انضباط و حماية الممتلكات" . مع نهاية العام لاحظ لينين "أننا انتقلنا من سلطة العمال إلى تشكيل المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني" , الذي "سيستوعب و يحل مكان آليات سلطة العمال" ( كار ) . هكذا رأى نقابي منشفي أن "فكرة الاشتراكية نفسها قد وجدت تجسيدها في فكرة سلطة العمال" , عبرت القيادة البلشفية عن نفس الرؤية بالأفعال , بتدميرها لفكرة الاشتراكية نفسها . قريبا سيصدر لينين قرارا يعلن فيه أنه يجب على القيادة أن تمتلك "سلطات ديكتاتورية" على العمال , الذين عليهم أن يقبلوا "الخضوع دون أية شروط لإرادة واحدة" و أن عليهم "لمصلحة الاشتراكية" أن يطيعوا دون أي تردد الإرادة الموحدة لقادة عملية الإنتاج" . مع تقدم لينين و تروتسكي بعملية عسكرة العمل , تحول المجتمع إلى جيش عمل يخضع لسلطتهم الوحيدة . شرح لينين أن خضوع العمال "للسلطة الفردية" هو النظام الذي يضمن أفضل استخدام للموارد البشرية" - أو كما عبر روبرت ماكنامارا عن الفكرة ذاتها , "اتخاذ القرارات الهامة .. يجب أن يبقى في الأعلى .. التهديد الحقيقي للديمقراطية لا يأتي من فرط الإدارة , بل من نقصها" , "إذا لم يحكم العقل البشر , فإن الإنسان لن يحقق كامل قدراته" , و الإدارة ليست إلا حكم العقل , الذي يبقينا أحرارا . في نفس الوقت , "التكتلية - التي تعني أي مستوى مهما كان محدودا من حرية التعبير و التنظيم - دمرت "لمصلحة الاشتراكية" , هكذا تمت إعادة صياغة هذا التعبير ليتناسب مع أهداف لينين و تروتسكي , الذين انتقلوا إلى خلق بنى أساسية تعتبر مقدمة للفاشية حولها ستالين إلى أهوال العصر الحديث ( 1 ) . العجز عن فهم العداء الهائل للاشتراكية من جانب الأنتلجنسيا اللينينية ( الذي تمتد جذوره إلى ماركس بلا شك ) و سوء الفهم المرافق للنموذج اللينيني كان له نتائج مدمرة على النضال في سبيل مجتمع أكثر عدلا و عالم قابل للحياة في الغرب , و ليس هناك فقط . من الضروري أن نجد طريقة لإنقاذ المثال الاشتراكي من أعدائه في كلا مركزي القوة الرئيسيين في العالم , و أيضا من أولئك الذين سعوا دائما ليكونوا كهنة للدولة و مسؤولين "اشتراكيين" , مدمرين الحرية باسم التحرر .

( 1 ) عن التدمير المبكر للاشتراكية بيد لينين و تروتسكي , انظر موريس برينتون , البلاشفة و سلطة العمال ... من بين كتب أخرى .

نقلا عن
http://chomsky.info/articles/1986----.htm