تأملات عبر اللحظة العراقية الآنية


سعد محمد رحيم
2015 / 8 / 26 - 14:25     

لم يتبق من مسوِّغات الإيمان بالعملية السياسية في العراق سوى طابعها الديمقراطي.. الديمقراطية الضامنة لإصلاح ثغراتها وتصحيح أخطائها وخطاياها.. بغياب الديمقراطية تكون العملية السياسية قد استنفدت آخر دعاماتها، وحينئذ لابد من البحث عن بديلٍ أولُ شروط انبثاقه أن يكون ديمقراطياً.. لهذا يجب على القائمين على العملية السياسية من ذوي النيّات الحسنة إدامة زخم ديمقراطيتها، قبل فوات الأوان.
التجربة الديمقراطية الحقيقية قادرة، بطريقة عضوية، على تعديل المسار السياسي، فهي الكفيلة لتحول دون تغوّل السياسي على حساب المجتمع ومصالحه.. إنها بمثابة الروبوت الذي يشتغل تلقائياً حين يحدث خلل ما، أو انحراف ما، أو أي شيء سيّئ مفاجئ.
وإذن؛ الديمقراطية آلة تصحيح وإصلاح، وكأي آلة يُفترض:
ـ أن تكون متقنة الصنع، تنطوي على مزايا ضرورية، ومن أمثلتها في حالتنا؛ الدقة، المتانة، الاتساق، السرعة، الخفة..
ـ أن يكون استعمالها احترافياً، مرناً، ومنتجاً. وهذا يتطلب؛ الإرادة التي لا يصيبها الفتور، والخطة أو البرنامج الذي يقلل من احتمالات الخطأ، فضلاً عن استمرار تدفق الطاقة المحرِّكة إلى مفاصلها الحيوية.
يعادل التفكير بالديمقراطية التفكير بالحياة، لكن الحياة لا تُختزل بالديمقراطية، فهناك أيضاً السلام، وهناك الحب، وقبلهما الخبز. وقد نضيف أقانيم أخرى؛ الكرامة مثلاً، الحريات العامة وحقوق الإنسان بالتأكيد، والأمل. بيد أن الحياة التي من أجلها نقول بالديمقراطية لا تستقيم من غير مبدأ العدالة.. وحين نفكر بحاصل الجمع الافتراضي ـ المعنوي لهذا كله نقع على تلك الكلمة الغامضة السحرية المشتهاة، وأقصد؛ السعادة.
هنا لسوء الحظ لا بد من توافر الشرط السياسي. وأقول؛ "لسوء الحظ" لأن السياسة متقلِّبة، حلبة صراع بلا وازع أخلاقي أحياناً، وتوازنات مصالح صعبة على حساب الأطراف الأضعف. وفي النهاية، هي ( أي السياسة ) مؤثرة إلى أبعد حد، ولا تؤتمن.. وطالما هناك العدالة كذلك، نجدنا أمام المعادلة المتوترة.. مبدأ العدالة أساس، وحين تطيح الصيغة الديمقراطية الرائجة بهذا المبدأ تشرع الباب أمام حدوث شروخ اجتماعية قاتلة، وفوضى، وربما أشكال من العنف أيضاً، في ما بعد..
والديمقراطية صناعة سياسية في سياق تاريخي متقدم.. سياق فيه تعد الديمقراطية الداينمو للماكنة السياسية إذا ما كنّا نتحدث عن مناخ سياسي اجتماعي صحي، فعّال، ومقبول.
لا نريد الديمقراطية لذاتها.. لا نريدها لأننا نتمتع بممارستها، وإنما لأنها، كما نعتقد، تحسِّن طرق عيشنا، وتمنحنا خيارات أفضل لترتيب واقعنا كأفراد وكجماعات وكأمة.
حين لا يتحقق هذا.. حين تسوء الأمور، ويعم الفساد والعنف والفوضى، وتتلاحق الخسارات ليس علينا أن نلوم الديمقراطية، بل الشكل الذي تبنيناه لها، وأساليبنا القاصرة والخاطئة والفاشلة في ممارستها.
يمكن لأشد الأنظمة ديكتاتورية وشمولية واستبداداً وتخلفاً التبجح بأنها ديمقراطية في جوهرها، وإنها على وفق المبادئ الديمقراطية تسيّر شؤون الحكم.. فاللباس الفضفاض للديمقراطية جعل منها المفهوم الأكثر تداولاً في الحقل السياسي منذ منتصف القرن العشرين، ولاسيما خلال العشرين سنة الأخيرة، والأكثر استخداماً في المزاودات السياسية، وحتى أنها أضحت ذريعة للدول الكبرى للتدخل في شؤون الآخرين.
ليست الديمقراطية فكرة مجردة نحنِّطها بين دفتي كتاب، بل هي طريقة حياة سياسية واجتماعية تتجلى في الأداء، في التطبيق العملي على أرض الواقع، في طبيعة العلاقات الناشئة عنها بين الأفراد والمؤسسات والجماعات، وبين الحاكمين والمحكومين، بما يؤثر في تفاصيل ومفردات الحياة اليومية للمجتمع.
تحتاج الديمقراطية إلى صيانة دائمة كي لا تصدأ آلتها وتفقد كفاءتها بالتقادم. ومن أهم وسائل هذه الصيانة هي الاحتجاجات المدنية؛ حق المواطنين في أن يقولوا؛ لا حين تأخذ الأمور مجرىً منحرفاً، وحين لا يكون الوضع العام على ما يرام.. الاحتجاجات بوصفها الصورة المثالية للحراك المدني في واقع سياسي مثل واقعنا العراقي.
نحن نحتجّ لولعنا بالحياة.. نحتجّ لأن فرص سعادتنا النادرة في الحياة مغتصبة.. نحتجّ لاسترداد ما سُلب من حقوقنا عنوةً، أو في غفلة منّا.. نحتجّ من أجل المستقبل القريب والبعيد.
للاحتجاج حدوده وشروطه وأخلاقياته.. حين تحتجّ عليك أن تعرف في البدء؛ لماذا؟ وضد من؟ وكيف؟ ومتى؟ وإلى متى؟ وإلى أي حد؟.. أن تعرف ما مغزى احتجاجك؟ وما مقدار تأثيره؟ وما المؤشر أو المعيار الذي ينبئك بأن احتجاجك قد حقق الغرض أو لا؟.
أنت لا تحتجّ لتتخلص من فائض انفعالاتك وغضبك، أو من أجل أن تقنع نفسك بأنك أديت واجبك وكفى.. من هنا حضور الوعي الناضج، المرن الذي له منطقه وحساباته ومعاييره، وغاياته الواضحة في لحظة الاحتجاج.
تحدّث بعض من منظّري السياسة عن وجوب أن يكون ممارسو الديمقراطية مؤهلين لها؛ عقلياً ونفسياً.. وقطعاً ليس هناك من شعب ورث بالفطرة، في جيناته، شروط وعوامل ذلك التأهيل، بل هو شيء يستوي على نار هادئة، ويتعلمه المجتمع بتراكم الخبرات وتوالي التجارب. وأحسب أن ساحات الاحتجاج المدني السلمي هي التي تجعلنا نبلغ مستوى التأهيل، أو سن الرشد السياسي، الذي يعطينا الحق الطبيعي/ قبل الدستوري في خوض اللعبة الديمقراطية.
ساحات الاحتجاج المدني السلمي هي لوحة مصغرة تعكس حالة المجتمع بوحدته وتنوّعه، بشخصيته المائزة واختلاف شخصيات أفراده، بتواشجاته وتناقضاته وتناشزاته، بقيمه العليا وصراعات الأفكار والمصالح التي تجري فيه. ولذا من الطبيعي، كما هو الحال عندنا في العراق، الآن، ألا يكون جميع من يدخلون تلك الساحات حافزهم الموجِّهات ذاتها، ولديهم الهموم ذاتها، والتطلعات ذاتها. فهناك مشتركات، غير أن هناك متنافرات بالمقابل. ومن زاوية ثانية، خفيّة فإن علينا تقبل حقيقة أن تلك الساحات هي حلبة لصراع اتجاهات.
حتى هذه اللحظة، وبروح متفائلة أضيف؛ "وحتى النهاية"، التوجّه المدني السلمي عند المحتجين بمختلف مشاربهم، هو الأكثر جاذبية، وهو الغالب، حتى وإن ادّعى بعضهم ذلك مضطراً.. وانتصار هذا التوجّه، في الخطاب، وفي الممارسة، لا يضمن إصلاح المسار السياسي العراقي فقط، بل يعلن أيضاً نجاعة الخيار الديمقراطي، وانتصار قيم الحياة العالية.