المغزى النهضوي للفلسفة


هشام غصيب
2015 / 8 / 23 - 17:15     

المفكر الماركسي الأردني، الدكتور هشام غصيب


الفلسفة وقوى الانتاج
ان الفلسفة ليست في حاجة الى من يدافع عن وجودها. وعلينا أن نميز جيداً في هذا المضمار بين الفلسفة واقعاً تاريخياً وبين مهنة الاشتغال بالفلسفة، فالأولى خلقتها وتخلقها ظروف تاريخية خارج اطار الرغبات والامنيات، وتمثل حركة ثقافية جارفة ينخرط فيها ويجددها المدافعون عن وجودها والمعارضون لها ولوجودها سواءاً بسواء. ومن العبث التعامل مع هذا الكيان لثقافي التاريخي من منظور مهني أو نفعي ضيق. فالفلسفة بالمعنى التاريخي ماضية في طريقها في المساهمة الفعالة في خلق التاريخ بغض النظر عن النقاشات المهنية ضيقة الأفق، التي تجري في المجتمعات المهمشة، بصدد حق الفلسفة في الوجود. انها جزء لا يتجزأ من الوعي البشري وتاريخه، كما أن كل انسان هو فيلسوف عفوياً بحكم كونه انساناً، كما يقول انطونيو غرامشي. فهي ملازمة للانسان انى كان ومتى وجد. لكنها تحتاج الى توافر ظروف تاريخية معينة حتى تتجلى مستقلةً عن غيرها من النظم لفكرية، أي بوصفها نظاماً فكرياً متخصصاً يستلزم تدريباً معيناً ويرتكز الى تراث فكري معين متميز عن غيره. وهي، بهذا المعنى التاريخي، لها حضورها ووظائفها وبنيتها التاريخية المتميزة. فهي عضوية تاريخية لها تاريخ، شأنها في ذلك شأن العضويات التاريخية جميعاً. اذ نشأت جنيناً في أحشاء الوعي الأسطوري في مرحلة ما قبل تاريخها. وبدأت مرحلة تاريخها بولادتها نظاماً فكرياً مستقلاً ومتميزاً. ولقد ولدت لكي تبقى وتتفشى في الحضارة البشرية. فهي اذاً، جزء من مسيرة التاريخ والوعي، ولا تنشأ من مجتمع بقرار ذاتي، ولا برغبة ذاتية، وانما بتوفير ظروف اجتماعية تنموية معينة، وبممارستها تلبيةً لحاجات اجتماعية ثقافية معينة.

اننا ندعو الجامعات الأردنية والعربية الى دعم أقسام الفلسفة ورفع مكانتها. لكن الأهم من ذلك كله، هو تدريس الفلسفة، سواءاً في المدارس أو الجامعة بطريقة فلسفية تليق بها، وتغيير اسليب التدريس بعامة مما يوفر أرضيةً صالحةً لازدهار الفلسفة على عدة صعد، بل وتغيير بنية الثقافة والاعلام صوب ذلك. ان تدريس الفيزياء والرياضيات والتاريخ والاقتصاد وغيرها بالجدية المعرفية التي تستحقها، وأخذ المعرفة العلمية على محمل الجد، هو الذي يخلق أرضيةً مناسبة لازدهار الفلسفة. فالفلسفة هي تعبير دقيق عن مكانة المعرفة الدقيقة في المجتمع وعن جدية العناية بها. وعلى سبيل المثال، اذا درست قوانين نيوتن كما يجب أن تدرس، أي بصفتها الهيكل العظمي للثورة النيوتونية في فلسفة الطبيعة وتعبيراً عن رؤية جديدة للكون، لا بالطريقة الحسية الفجة ما قبل الأرسطية التي تدرس بها اليوم في مدارسنا، تكون قد ساهمت في خلق وعي فلسفي متقدم. واذا غيرت من طرائق التدريس جدياً، تكون قد وفرت أرضية ملائمة لازدهار الفلسفة. فالفلسفة والمعرفة الدقيقة صنوان لا يفترقان. ان جدية الموقف صوب الفلسفة تفترض جدية الموقف صوب المعرفة. فالغوص في المعرفة يقود بالضرورة الى الفلسفة. كما أن المجتمع المعني بانتاج المعرفة الدقيقة معني بالضرورة بانتاج الفلسفة. فليس غريباً اذاً ان تعمد المجتمعات التابعة، التي تقع شروزط اعادة انتاجها خارجها، الى اهمال الفلسفة، ان لم يكن محاربتها. والذي أعنيه هنا هو أن التفكير بالعقل لا يمكن في النهاية فصله عن التفكير في العقل. ان هذين النمطين من التفكير صنوان لا يفترقان، بمعنى أن العلاقة بينهما جدلية، أي ضرورية وتحولية ووجودية. ومع ذلك ينبع تأكيدنا بأن التفكير الجدي بالعقل يقود بالضرورة الى التفكير الجدي في العقل، أي ممارسة الفلسفة.

لقد ربطنا الفلسفة بالمعرفة الدقيقة، اي بالعلم. والذي نريد قوله ههنا هو أنه لا علم بلا فلسفة، ولا فلسفة بلا علم. ان لحظة العلم هي لحظة الفلسفة ايضاً. فهما يشكلان عقلا نظرياً واحداً، ويتمايزان عن بعضهما ضمن هذا الاطار التوحيدي الواحد. وهذا ما نلحظه بجلاء في جميع الحضارات التي وصلت حداً من التطور مكنها من انتاج عقل نظري. اما من يصل الى الفصل التعسفي بين المعلومات والتجربة والمعرفة الحسية والمعرفة النظرية بشقيها الرياضي والفلسفي، فهو اما جاهل بطبيعة المعرفة الدقيقة، واما سيء النية يريد شراً بالعل النظري بخاصة، وبالعقل بعامة. فالتقسيم المتشعب للعمل في انتاج المعرفة الدقيقة اليوم لا يعني البتة ان هذه الفروع مستقلة عن بعضها، انه يوحي سطحياً بذلك، لكن التمحيص الدقيق لتاريخ المعرفة كفيل بتبدب هذه الأوهام.
والنقطة الجوهرية هنا، هي ان قزى اجتماعية تبرز في بعض المجتمعات وتشعر بالحاجة الى انتاج المعرفة بوصفها عنصراً اساسياً من عناصر الانتاج، التي تهيمن عليه، أو تسعى الى الهيمنة عليه. وتدفعها روحها الوثابة الى خوض كل حقل من حقول المعرفة. كما انها تدرك الطبيعة اللامتناهية المتشابكة للمعرفة، الأمر الذي يدفعها الى صرف المليارات دعماً لأكثر البحوث تجريديةً. ان العقل النظري هو تعبير دقيق عن قوى الانتاج في المجتمع، فحاجة المجتمع الى العقل النظري بوصفه قوة رئيسية من قوى الانتاج هي في حد ذاتها تعبير عن تطور المجتمع. ان المجتمعات الناهضة تنتج العقل النظري بوصفه قوة انتاج رئيسية، ولما كانت الفلسفة جزء لا يتجزأ من العقل النظري، فانه يمكن اعتبارها قوةً رئيسية من قوى الانتاج. فالتقانة، التي تجسد العلم عملياً وانتاجياً، تحمل في باطنها فلسفة، لا بل فلسفات، انها بمعنى من المعاني، تجسيد للفلسفة.
لكن الفلسفة أكثر من ذلك، أكثر من كونها قوة انتاج رئيسية. ان الفلسفة تدخل اساساً في تشكيل الوعي التاريخي للطبقات الرئيسية، تلك التي تحمل في باطنها وتنفذ مشروعات تاريخية كبرى. انها اساس الوعي التاريخي الحضاري وقاعدته الحية. فالطبقة الاجتماعية تبقى تابعة ومهمشة وغير مدركة لذاتها، اذا اخفقت في انتاج اطارها الفلسفي الخاص بها، الذي يؤسس لوعيها المستقل، وتجعلها تدرك ذاتها التاريخية ووحدتها. وبتعبير ادق، فان الطبقة الاجتماعية تحتاج الى خلق مثقفيها العضويين، حسب تعبير غرامشي، حتى تتحول من طبقة في ذاتها الى طبقة لذاتها. فلا يكتمل تشكلها ولا تكتسب وحدتها الا بخلق نخبها الثقافية العضوية. انها تتحول الى ذات فاعلة في التاريخ والمجتمع عبر هذه النخب. وتحتل النخبة الفلسفية مركز الصدارة بينها. من ثم، فان الفلسفة هي شرط اساسي من شروط تكون الطبقات التاريخية الرئيسية، على الأقل منذ الاغريق، ومن ثم، فهي شرط اساسي من شروط تكون الأمم الحديثة المستقلة. ولعل أعمق من عالج هذه المسألة هو انطونيو غرامشي في (دفاتر السجن) التي كتبها في غياهب سجون موسوليني في الثلاثينات من هذا القرن. فهو الذي لفت نظرنا الى ضرورة الفلسفة في تشكيل الطبقات واستقلالها. ويمكن فهم تطور الفلسفة الأوروبية الحديثة على هذا الأساس.

لقد بينت في سلسلة من المقالات، نشرتها منذ بضع سنوات تحت عنوان (نقد العقل الغربي) انه يمكن النظر الى مسيرة الفلسفة الأوروبية في الحقبة الرأسمالية من تاريخ البشرية، في جانب مهم منها، على انها مسيرة علمنة للفكر، اي تحرير الفكر من سطوة الدين واللاهوت. اذ تضمنت هذه المسيرة نقل مصدر اليقين، فالقدرة الخلاقة، من الذات الالهية الى الذات الانسانية. ووصلت هذه المسيرة من الذات الالهية الى الذات الانسانية، ووصلت هذه المسيرة أوجها البرجوازي في هيغل، وأوجها المطلق في ماركس. والمغزى الاجتماعي الحقيقي لهذه المسيرة هو تحرر الطبقة البرجوازية الأوروبية من هيمنة الطبقة الاقطاعية الأوروبية وفك تبعيتها عنها وحوزها على استقلالها منها. وكذا الحال مع الطبقة العاملة في تحررها من سطوة البرجوازية وغيرها من الطبقات الاجتماعية المؤثرة. فالفلسفة اذاً هي عنوان الاستقلال والتكون الاجتماعي، او قل أن الطبقة الاجتماعية، ومن ثم الأمة، تعي ذاتها ومشروعها بالفلسفة بصورة رئيسية. وتبقى الطبقة والأمة مضعضعة اذا ظلت تابعة فلسفياً لطبقات وأمم أخرى. وخير دليل على ذلك شعور البرجوازية الأمريكية بالدونية الثقافية تجاه أوروبا الغربية، برغم هيمنتها العسكرية والسياسية، بفعل اعتمادها النسبي فلسفياً على البرجوازيات الأوروبية الغربية (البريطانية،والفرنسية، والألمانية، والايطالية بصورة خاصة).
ويقودنا ذلك الى مسألة النهوض والاستقلال في الوطن العربي اليوم، فالوطن العربي أخفق حتى الان في تحقيق اي من المهمات الديمقراطية الكبرى، مثل: الوحدة القومية، وحق تقرير المصير، والتنمية المستقلة، واستقلال القرار القومي، والتقدم الاجتماعي، وذلك برغم المحاولات الاستقلالية التنموية هنا وهناك. ولتحقيق هذه المهمات، فلا بد من بروز طبقة اجتماعية انتاجية تسعى الى التحول الى طبقات لذاتها، اي طبقات مسلحةبوعي متماسك مستقل، مدركةً لوحدتها ودورها التاريخي ومشروعاتها الاجتماعية. ولا شك أن أحد الشروط الأساسية لاكتمال تكون هذه الطبقات التنموية واستقلالها عن القوى الأخرى الداخلية والخارجية هو تمكنها من خلق فلسفة خاصة بها، تعكس هويتها التاريخية، وتجعلها قادرة على حمل مشروع التحرر القومي الاجتماعي. فالطبقات المستقلة الواعية لذاتها وعالمها ودورها التاريخي هي الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المهمات التحررية التنموية الكبرى. فالفلسفة، او بالأحرى الانخراط الابداعي في حقلها، هو شرط اساسي من شروط بناء الأمم واستقلالها ونهوضها، على الأقل منذ الاغريق.

لقد تعرض الوطن العربي منذ العصور الوسطى الى وابل من الهجمات والغزوات الهمجية الضارية. اذ انقض عليه الهمج من كل حدب وصوب، تتاراً واوروبيين وأتراكاً. لكن هذه الهجمات بلغت أوجها في الاستعمار الغربي في القرن العشرين، ذلك الاستعمار الذي جاء مدججاً بمنتجات حضارة متفوقة علمياً وتقنياً وثقافياً من أجل قلب الأمور رأساً على عقب على جميع الصعد. وبالطبع، فان الجماهير العربية لم تقف متفرجةً على هذا الغزو الجديد من نوعه، وانما أخذت منذ البداية تنظم نفسها في حركة مقاومة ضارية ما زالت مستعرة وقدمت الالاف المؤلفة من الشهداء. لكن الاخفاق التاريخي الكبير للأمة العربية تمثل في عجز العرب عن تحويل حركة المقاومة القومية الشعبية الى حركة تحرر قومية شاملة، على غرار ما تم في روسيا والصين والهند الصينية وكوبا ونيكاراغوا. ان المقاومة مستمرة، لكنها ستتبدد وتتكسر على صخور الاستسلام ما لم تتحول الى حركة تحرر قومي شاملة. وأحد الشروط الجوهرية لهذا التحول هو نجاح الجماهير العربية في بناء عقل نظري مستقل يعبر عن مكنونات حركة التحرر القومي العربية الشاملة وأهدافها ووحدتها العضوية ووحدة ارادتها الثورية. وأساس هذا العقل هو الابداع الفلسفي المستقل الأصيل الذي يعبر عن الوجود التاريخي للجماهير العربية.

الفلسفة سياسة:
اذا اراد المرء أن يفهم عالم اليوم وما يدور فيه من أحداث جسام، فعليه أن يقرأ ويفهم عقلية النخب الحاكمة في الغرب. لكن فهم هذه العقلية يستلزم الغوص في فكر النخبة الثقافية الغربية المسيطرة، وبخاصةً فكرها الفلسفي. ان مفتاح السياسات الغربية، الداخلية منها والخارجية، يكمن في الفلسفة الغربية المسيطرة. فلا تخلو حضارة عظمى من هذا الرابط العضوي بين الفلسفة والسياسة. بل يبدو أن ديمومة الحضارة العظمى وعمق تأثيرها لا يكونان ممكنين من دون ذلك. ونرى ذلك واضحاً، لا في الحضارة الغربية الحديثة وحدها، وانما ايضاً في الحضارات العظمى الأخرى، كالحضارة الاسلامية والحضارة الاغريقية. لذلك كله، فان فهم عالمنا المعاصر، بما في ذلك وضعنا المريع في الوطن العربي، يستلزم ولوج عالم الفلسفة الغربية المسيطرة من أجل الكشف عن سرها السياسي في المقام الأول. اذ وكما اسلفنا، فان للفلسفة الغربية دوراً سياسياً اساسياً، بالاضافة الى دورها المعرفي المرتبط بتطور العلم. ولربما كان هذا الدور المهم هو اساس الوهم الأيديولوجي السائد في الأوساط الثقافية الغربية بأن الثقافة الغربية هي برمتها تجسيد للفلسفة الغربية، الأمر الذي يجعل هذه الأوساط تناقش ازمة الحضارة الغربية المعاصرة وكأنها ازمة اخلاقية أو فلسفية محض. وهو تصور مثالي ينفي ماديات الثقافة، ومن ثم يعجز عن تفسير التاريخ والمجتمعات البشرية.
ومع أن الفلسفة التقليدية تنزع عادةً الى اخفاء طابعها السياسي (بل، روحها السياسية) بشتى الأحاييل الأيديولوجية، الا أنها لا تفلح في ذلك تماماً. اذ سرعانها ما تخونها اعصابها فتفصح عن سرها السياسي، ولو في فقرة عابرة أو موقف عابر (تذكر موقف الفيلسوف الايطالي جنتيله من موسوليني وموقف الفيلسوف الألماني من هتلر).
وعلى سبيل المثال، في كتاب صدر مؤخراً لأستاذ الفلسفة السياسية في جامعة اكسفورد البريطانية، جون غري، بعنوان (مسار التنوير)، يدخلنا مؤلفه في مسارب ومعارج فلسفية متشابكة من أجل التأكيد على فشل مشروع التنوير والحداثة، الذي يقوم على قيمتي العلم والحرية الفردية، وعلى التهافت الداخلي لهذا المشروع، ويحلق في فضاءات التنظير السياسي والتجريد الفلسفي (ارسطو، نيتشه، هايدغر). لكنه، وبرغم كثافة الغطاء الأيديولوجي الذي يدثر به سره السياسي، الا أنه سرعان ما يفصح عن الغاية السياسية لتحليله وتنظيره في فقرة عابرة في الفصل الأخير من كتابه المذكور. اذ نرى هذا التحليل المغرق في التجريد يقوده فجأةً الى الرأي بأن عالم المستقبل المنظور لن يكون عالماً ليبرالياً تسوده قيم الجناح الليبرالي من مشروع التنوير، وانما سيكون عالماً تسوده الفوضى وتتخلله ما اسماه الانتفاضات المالتوسية (اي انتفاضات الجوع الناتجة عن الانفجار السكاني)، بالاضافة الى الانتفاضات الأصولية والاثنية. ويخلص غري الى القول بأن على الغرب أن يكون متأهباً لاستعمال القوى العسكرية وتسديد الضربات العسكرية المحسوبة هنا وهناك في ذلك العالم الكابوسي الفوضوي، حمايةً للغرب ومصالحه. في هذه الفقرة التي تفلت على غفلة (ربما) من مؤلفها، يفصح خطاب غري الفلسفي عن سره (السياسي)، وعن كونه تأسيساً للسياسة العدوانية (الابادية) الغربية تجاه أمم اطراف النظام الرأسمالي. ان الرؤية الفلسفية التي يعبر عنها جون غري في كتابه المذكور ليست أكثر من تأسيس وتسويغ للجريمة الجماعية وابادة الشعوب غير الغربية. لقد اختزل دور الفلسفة الغربية اليوم الى تسويغ الابادة العرقية والممارسات الاستبدادية العنصرية، لا أكثر ولا أقل.
وهذا كله يؤكد ما سبق أن ذهب اليه كلاسيكيو الماركسية (ماركس، لينين، غرامشي، التوسير) من أن الفلسفة هي اساساً سياسة. ونستذكر هنا ما قاله الفيلسوف الفرنسي الراحل (والمنسي اليوم)، لوي التوسير، في مقابلة اجريت معه عام 1968، من أن الفلسفة هي تدخل سياسي على الصعيد النظري. من ثم فهي الجسر الواصل بين العلم والوعي الاجتماعي، انها الأساس النظري الدفين للمارسة الطبقية، اي للسياسة.

ومن ذلك، تنبع أهمية الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي ومجابهته جدياً. ان مثل هذا الاشتباك ليس ترفاً فكرياً، وليس شأناً اكاديمياً محضاً وانما هو شأن عملي ملح نحتاج الى اجرائه من أجل معرفة كيف نتصدى للخصم الغربي ونفشل مشروعاته العدوانية الابادية. فاذا لم تتعلم شعوب الأطراف وعمال المراكز كيف يطورون وعيهم ويطورون وعيهم على اسس معرفة عميقة لطبيعة البرجوازية الغربية المسيطرة وطبيعة ازمتها الحضارية الخانقة، فان هذه البرجوازية ستستمر في غيها، وتتمادى في ممارستها العدوانية الابادية والاستهتار بمصائر الشعوب، وتواصل تصدير ازماتها للمجتمعات غير الغربية، وتخريب البيئة الأرضية.
لقد سخر الغرب الرأسمالي الخطاب الليبرالي في حقبة الحرب الباردة وتراث التنوير الانساني في مجابهة أعظم تجل وتجسيد لمشروع التنوير، أعني الماركسية والشيوعية. فكان أن توهم الكثيرون، وتوهمت البرجوازية الغربية نفسها، ان الخطاب الليبرالي الانسانوي هو رسالة الغرب الأبدية الكامنة في جوهر خصوصيته الثقافية (أمة غربية واحدة ذات رسالة خالدة). وساد الوهم أن الحرب الباردة في جوهرها صراع بين جناحي مشروع التنوير، بين الماركسية والليبرالية الانسانوية الغربية، أي بين النموذج السوفييتي الاشتراكي والانموذج الغربي الليبرالي. ووصل هذا الوهم أوجه عند تفكك المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، الذي فسره الكثيرون بأنه انتصار لليبرالية الانسانوية الغربية على الشيوعية السوفييتية. ولعل أوضح تعبير عن هذا الوهم انذاك كان مقولة أن الليبرالية الغربية هي نهاية التاريخ، والتي اطلقها فرانسيس فوكوياما. وبالطبع فقد كان هذا الاعتقاد وهماً، لأن الذي انتصر حقاً لم يكن الليبرالية الانسانوية الغربية، وانما هو البرجوازية الغربية، والذي انتكس حقاً، ولا أقول انهزم، لم يكن الماركسية السوفييتية أو غيرها من الماركسيات، وانما شعوب الأطراف وعمال المراكز والأطراف. اذ يبدو أن الليبرالية المحدثة بخطابها المتفائل، الذي يؤكد فكرة عقلانية السوق وقيم الديمقراطية البرجوازية وحقوق الانسان والمجتمع المدني، كانت مجرد سلاح مؤقت شرعنته البرجوازية الغربية في وجه المنظومة الاشتراكية بديلاً للاشتراكية وما انطوت عليه من مكاسب وحقوق للكادحين وشعوب الأطراف. وكان هذا السلاح مجرد طعم لجر الطبقات والأمم الكادحة بعيداً عن الاشتراكية وقوى التقدم. فما أن تم للبرجوازية الغربية ما ابتغته، حتى بدأت تشكك في قيمة الليبرالية الانسانوية وتؤكد أهمية صراع الحضارات وخصوصياتها الجوهرية، خصوصاً في ضوء الاخفاق المريع للرأسمالية في البلدان التي كانت تشكل المنظومة الاشتراكية. ان البرجوازية الغربية ما عادت اليوم في حاجة الى الخطاب الليبرالي ولا الى تقديم التنازلات للطبقات والأمم الكادحة. لذلك أخذت تتنكر بصورة فاضحة للقيم الليبرالية التقليدية، وتميل بصورة واضحة صوب الفاشية بمسميات جديدة. فهي لم تعد تكتفي بذم الماركسية واعلان موتها، وانما أخذت ايضاً تعلن افلاس الليبرالية الانسانوية، وتتفلت لتعلن برائتها منها، وتحملها وزر فشلها وفشل الرأسمالية. بل وذهبت أبعد من ذلك بادانة الحداثة وعقيدة التنوير وجذورهما الاغريقية والمسيحية. فهي تريد أن تجتث التراث الديمقراطي التقدمي من جذوره، وأن تنسف الماركسية والليبرالية من اساسهما المشترك، التي سبق ان بنته هي نفسه في فترة شبابها وصعودها. ونراها تسخر لهذا الغرض أعتى الأدوات الفكرية التي أنتجتها الحضارة الغربية الحديثة، وارفع الأساليب المنطقية التي أفرزتها الفلسفة الغربية. ههنا نرى العقل يحطم نفسه، تماماً كما حصل مع الغزالي في الحضارة الاسلامية. لقد أفلت زماما الأمور من بين ايدي البرجوازية الغربية، انها امبراطورية الفوضى التي تحدث ويتحدث عنها سمير أمين، ولم يبقى أمام البرجوازية الغربية في سعيها اليائس الى ضبط الأمور سوى القوى المجردة الخالية من المسوغات والمبررات، لم يبق لديها سوى منطق القوى والاستبداد والابادة العنصري. انها بالفعل لامبريالية خرفة، كما ينعتها اليسار الغربي، وانها بالفعل لفلسفة خرفة، تلك التي تسخرها البرجوازية الغربية لتحطيم العقل وقيم الحرية والعدالة.
ويقودنا هذا التحليل مرةً اخرى الى ضرورة الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر، حتى يتسنى لنا أن نفهم العقلية الغربية المتأزمة، عقلية البرجوازية الغربية، التي تحكم عالم اليوم وتؤجج نيرانه. فالفلسفة كما أسلفنا، سياسية في جوهرها، انها روح السياسة. ومن ذلك ينبع ذلك الاهتمام الغربي المحموم بها، وينبع اصرار القوى الرجعية في الأطراف على منعها أو اضعافها أو تصفيتها. اما نحن، الذين لا نعتبر هيمنة الامبريالية الغربية قدراً محتوماً، وندعو الى مجابهتها بجدية، لا عن طريق ابن لادن واصوليي الجزائر، وانما على طريقة لينين وماو وهوشي من وتشي غيفارا، وندرك جيداً ان لا مفر من هذا الاشتباك الفكري الذي يعرض كل ثوابت الوعي السائد للاهتزاز، وربما الانهيار، الذي يغوص في عمق أعماق التجريد والتنظير من أجل الغوص في عمق اعماق العياني في سياق تغييره.فما هو البديل لماركس ولينين، الذي تطرحه البرجوازية الغربية أمامنا اليوم؟ ماذا تبقى لديها لتقدمه لنا غير نيتشه وهايدغر وصولاً الى الطالبان فقرضاوي وشارون!!

افول العقل:
أزعم أن الغرب المعاصر يمر اليوم بحالة ثقافية تكاد ان تكون مماثلة للحالة الثقافية التي دشنها في الشرق الاسلامي أبوحامد الغزالي ودشن معها افول العقل النظري، أو حتى تصفيته في الاسلام. فالذي نشهده اليوم لا أكثر ولا أقل من محاولة النخبة الثقافية الغربية التنكر لتراثها الحديث وجذوره الاغريقية ونسفه من اسسه، ومن ثم تصفية العقل النظري الحديث الممثل بعقيدة التنوير، على غرار ما فعله ابوحامد الغزالي وتلامذته في الاسلام. ولئن سخر ابوحامد عبقريته الفذة وتملكه المتميز لأدوات الفكر العقلاني الاغريقي والعربي لهذه الغاية، فان النخبة الثقافية الغربية المسيطرة تكفر هذه الأيام ليلاً ونهاراً بتراث التنوير وارهاصاته الاغريقية، وتعبر عن حنينها المستحيل الى ما قبل الحداثة، كائناً ما كان ذلك يعني، وتسخر ادوات تراث التنوير من أجل تفكيكه وتكسيره في الذات المعاصرة، تاركاً مكانه تراث العدمية الدامس. ولئن اعتبر ابوحامد الغزالي المدشن الأكبر لعملية التصفية تلك في تراث الاسلام، فان الألمانيين فريدريك نيتشه ومارتن هايدغر، يعدان اليوم المدشنين الأعظمين لعملية تصفية عقل التنوير في تراث الغرب الحديث. فهناك شبه اجماع لدى افراد النخبة الثقافية الغربية المعاصرة على محورية هذين المفكرين الألمانيين في عملية تصفية القائم وايجاد البديل، حتى في العالم الانجلوأمريكي، صاحب التراث التحليلي التجريبي العملي المناقض للتراث الأوروبي الذي أفرزه نيتشه وهايدغر.
لكأن الطبقات التاريخية الكبرى التي تقوم على أكتافها الحضارات التاريخية الكبرى، لكأنها، بعد استنفاد دورها التاريخي، تشعر بلغثيان والقرف ازاء ذاتها ومرحلة شبابها وعنفوانها، فتعلن العصيان عليها وتسعى الى تصفيتها واختزالها الى حدود ما تتحمله شيخوختها الواهنة، حتى ولو أدى ذلك الى جمود تطورها. والغريب انها تعمد الى فعل ذلك بعد زوال المبرر التاريخي لذلك، اي بعد زوال خطر الطبقة النقيض وتصفيته، لكأنها تعزو صعود الطبقات النقيض وقوتها الى العقل في تراثها فتشعر، في مرحلة هبوطها التاريخي، باغترابها عن العقل الذي بنته في مرحلة صعودها، وغربته عنها، وكأنها بنته لغيرها، لنقيضها، فتسعى الى تصفيته، بعد ان تفلح في القضاء على الحركات الثورية المناهضة لحكمها، حتى لا يبقى يشكل تربةً صالحةً لمزيد من الحركات الثورية. انها غريزة حب البقاء، تسعى هذه الطبقات الى تأبيد ذاتها المتعبة عبر الجمود، جمود ذاتها والمجتمع الذي تربض على قلبه. هذا ما حصل في الاسلام منذ الغزالي، وهذا ما يحصل اليوم في الغرب الحديث.
والغريب في الأمر تلك الثقافة الطافحة في النفس والتي يبديها التصفويون في الحضارتين، سواءاً كنا نتكلم عن العمالقة (الغزالي، نيتشه، هايدغر) أو المشتغلين النمطيين في الفلسفة والانسانيات. ونراهم في صورة عامة يصبون جام نقدهم وساتنكارهم على فكرة المطلقات العقلية يسقطونها واحدةً واحدةً، لكنهم يعمدون دوماً في هذا السياق، ومن دون حرج، الى تأكيد فيض من المطلقات والافتراضات غير المبررة تماماً، بل واللاعقلانية في كثر من الأحيان. انهم يعيبون على رموز عقيدة التنوير الانطلاق من جملة من المقدمات المبررة والمختبرة، في الوقت الذي يعمدون هم فيه الى تأكيد جملة من الافتراضات المريبة حقاً وكأنها بديهيات وتحصيل حاصل. بل ان بعضهم يلجأ الى السخرية من عملية التأسيس العقلي للمارسة الاجتماعية في حد ذاتها، والى اعتبارها نقيصة ما بعدها نقيصة. وعلى سبيل المثال، فان المشروع الفلسفي للفيلسوف الأمريكي المعاصر ريتشارد رورتي، وهو من أبرز فلاسفة ما بعد الحداثة، يتمثل في تأكيد لليبرالية المجتمعات الغربية المعاصرة مصحوباً برفض واستبعاد للأسس الفلسفية العقلانية التقليدية التي قامت عليها الليبرالية وارتكزت عليها. وبتعبير اخر، فانه يسعى الى تأكيد هذه الليبرالية بوصفها مزاجاً أو خياراً للشعوب الغربية أعلى من أن يحتاج الى تأسيس عقلي.
ويتفق جل أعضاء النخبة الثقافية الغربية المسيطرة على اليقين المطلق لمقولة أن الشيوعية والماركسية انتهت بتفكيك الاتحاد السوفييتي، من دون دراسة معمقة للعلاقة بين التراث الماركسي ومصير الدولة السوفييتية التراجيدي. فهم يعمدون الى اعتمادها مقدمةً بديهية غير قابلة للنقاش، تماماً كالمقدمات الدينية المطلقة التي ارتكز اليها الغزالي في تصفية الفلسفة الاسلامية، وقد سبق ان بينت في العديد من الكتابات في السنوات العشر الأخيرة تهافت هذه المقولة غير العلمية.
لكن اولئك المنظرين البرجوازيين لا يكتفون برفض الماركسية، وانما أخذوا مؤخراً يؤكدون افلاس الليبرالية نفسها واخفاقها وفشلها. بل وذهبوا الى ابعد من ذلك باعتبار مشروع التنوير الذي بناه الغرب الحديث مشروعاً مفلساً وايلاً للسقوط المتسارع. وماذا يعني ذلك في الحقيقة؟ انه يعني اخفاق العقل العلمي وتهافته. وفي مجابهة العقلانية العلمية، التي بني على اساسها مجد العالم الحديث وحرية الانسان الحديث، نراهم يضعون نيتشه وهايدغر، بلاعقلانيتهما وارتباطهما الفكرية بالنازية والفاشية، وهم يسعون، مسترشدين بنيتشه وهايدغر، الى اجتثاث تراث التنوير من جذوره الاغريقية، ويبدون استعدادهم لنفض ايديهم من العقلانية الاغريقية والانسانوية المسيحية في سبيل التخلص من تراث التنوير. انه نوع من الحنين الى الفاشية، يحاول ان يخفي طبيعته الفعلية ينفي تهمة الفاشية عن معبوديهم، نيتشه وهايدغر. بل يبلغ فيهم الأمر الى وضع مسؤولية جرائم النازية والفاشية على تراث التنوير ذاته، اي يحملون تراث التنوير وزر نقيضه الفاشي الرافض لعقل التنوير!!.
ولا عجب في هذا الحنين الى الفاشية تحت مسميات اخرى! فالفاشية، لا الديمقراطية الليبرالية، هي الحالة الطبيعية لحكم البرجوازية في مرحلة تأزمها وانتهاء دورها التاريخي، اي شيخوختها. فلئن اضطر التحدي الشيوعي في القرن العشرين الى تبني الديمقراطية البرجوازية والى تقديم التنازلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الى الطبقة العاملة (دولة الرفاه الاجتماعي ابان حقبة الحرب الباردة)، فان انحسار هذا التحدي، والذي نرجو أن يكون مؤقتاً، ازال مبرر الليبرالية والدعوة اليها، ومن ثم فتح المجال واسعاً امام الفكر البرجوازي الغربي للظهور على حقيقته (الفاشية الدموية الابادية).
لذلك كله، نرى مفكري البرجوازية الغربية اليوم معنيين في المقام الأول باعادة قراءة مسيرة الأحداث في الأعوام الأربعمائة الأخيرة من أجل تحديد جوهر عقيدة التنوير. ثم نراهم يركزون على النقد الحارق الذي وجهه نيتشه وهايدغر الى اسس هذه العقيدة وافتراضاتها الأساسية، وذلك كله في سياق رفض العقل العلمي وتفكيك الخطاب العقلاني الانسانوي، نراهم يجمهون تقريباً على أن أهم ركنين في عقيدة التنوير هما:
1- اعادة بناء الأخلاقية Morality على اساس طبيعة العقل البشري المستقل.
2- اضفاء سلطة خاصة على العلم تضعه فوق الأشكال الأخرى للمعرفة والخبرة. ومعنى ذلك أن عقيدة التنوير تضع العقل العلمي في مركز الصدارة في حياة البشر. ويرى مفكروا البرجوازية الغربية اليوم أن عقيدة التنوير بالمعنى المذكور أعلاه قد أفلست وفقدت مصداقيتها (لماذا؟ لا ندري تماماً). ومع ذلك، فهي، في شكلها اليبرالي على الأقل، ما زالت مهيمنة في الغرب. وهم يعزون ذلك الى غياب البديل، مع انهم يلمحون الى أن بذور البديل المطلوب كامنة في نيتشه وهايدغر، وأعتقد أن البديل الذي يدور في خلدهم هو شكل جديد من الفاشية.
وبعد ذلك كله، ماذا يقترحون بصدد المجتمعات غير الغربية؟ انهم، في هذا الصدد، يطرحون مقولتين في غاية الخطورة، وهما:
1- ان التحديث ممكن دون التغريب، وهم يعنون بذلك أن تحديث المجتمعات غير الغربية ممكن أن يتم من دون تحديث الوعي الاجتماعي، اي من دون هضم عقيدة التنوير والعقلانية العلمية.
2- ينبغي على المجتمعات غير الغربية التمسك ببناها الثقافية القديمة التي لما يفلح الغرب في تفكيكها، واقامة مستقبلها المنظور على هذا الأساس، وكأن هذه المظاهر الجامدة جوهرة ثمينة نادرة ينبغي الحفاظ عليها باي ثمن. ويرى مفكرو البرجوازية الغربية أن بقاء هذه البنى ما قبل الحداثوية يجعل من السلفية في تلك المجتمعات واقعياً ومعقولاً. فلئن كان المشروع السلفي مستحيلاً في الغرب، لكون مشروع التنوير أفلح في الغرب تماماً في تحطيم البنى ما قبل الحداثوية، ولكون هذه الأخيرة (ملوثة) اصلاً ببذور مشروع التنوير، فانه مشروع ممكن وواقعي في المجتمعات غير الغربية، لكون مشروع التنوير لما يصل اختراقه اياها حد اللارجعة، ولكون تراثها القديم خالياً اصلاً من عقلانية التنوير. هكذا يبرز العقل الامبريالي الرأسمالي العنصري في الغرب سلفية الشرق وتخلفه.