الدين والحكم (1)


سهر العامري
2015 / 8 / 22 - 13:57     

الدين والحكم (1) سهر العامري
ما الدين إلا اجابة ساذجة في بادئ الأمر عن المسألة الرئيسة التي قالت بها الفلسفة فيما بعد ، والتي حملها السؤال الآتي : هل الكون عقل أم مادة ؟ بمعنى آخر هل وراء تكوين الكون عقل أو إله صنعه وأشاده ، أم أنه مادي جاء نتيجة للانفجار العظيم الذي حدث صدفة ، مثلما يرى الكثير من علماء هذا الزمان ؟
في ديانات الشرق القديم ، ومنها الديانة العراقية على وجه الخصوص ، ارتبطت فكرة الإله أو الرب بقوى الطبيعة ، فكان الانسان الأول في سومر ، وهي من بين أولى الممالك التي قامت في جنوب العراق ، قد اعتقد أن الرياح يقف خلفها إله هو " أنليل " ، مثلما يقف إله خلف وجود الماء هو " أنكى "، ومثلهما تموز إله الزرع والخصب والنماء ، ولم يقف الحال عند هؤلاء الثلاثة ، بل تعددت الآلهة في الديانة العراقية القديمة بتعدد بعض الظواهر الطبيعية.
ورغم أن العراقيين القدامى ، لم يعتقدوا وقتها ببعث بعد الموت ، مثلما اعتقد المصريون بذلك ، ولكنهم بنوا المعابد التي تضرعوا بها للآلهة التي تخيلوها هم ، كما صاروا يقدمون لها الهدايا والنذور ، وعاد المعبد مكانا مقدسا يحظى باحترام على المستوى الشعبي والرسمي ، خاصة بعد أن اقتربت فكرة التعدد من التوحد في أذهان الناس ، وصار هناك إله واحد مثل " مردوخ " يتزعم التعدد ذاك ، ويرد ذلك الى أن الناس الذين كانوا يعيشون في الممالك العراقية القديمة يخلعون صفات الإنسان في السلوك والتصرف على آلهتهم ، فما دام هناك ملك واحد يخضع له جميع الحكام في مملكته ، وربما في الممالك الأخرى ، فلا بد أن يكون هناك إله كبير تخضع له الآلهة المتعددة .
ومع ذلك ظل الدين ، والحال هذه ، بعيدا عن الحكم كمصدر للسلطة ، فلم يظهر لنا إنسان من بين رجاله يدعي بعلاقة ما مع رب من الأرباب ، أو مع زعيم لهم ، وإنما الملك نفسه هو الذي كان يدعي هذا الشرف لنفسه ، ففي مسلة حمورابي أو " خليل الرب " التي كتب هو شريعته المدنية فيها لم يفته أن يترك فيها صورة تضمه مع إله الشمس لكي يضفي على تلك الشريعة شيئا من القدسية بأعين المجتمع البابلي ، ويثبت للجميع أن لا واسطة هناك بينه وبين الإله ، وإنه هو ممثل الله في حكمه ومملكته ، وما المعبد والكهنة سوى تبع له لا غير ، وهو في زمن تعدد الآلهة هذا لا يختلف ، عن الملوك الذين جاءوا في زمن وحدانية الله التي بدأت مع دعوة النبي إبراهيم لها زمن الملك نمرود التي رفضها لأنها دعوة تهدد حكمه ، وتسلب منه ملكه على حد قول الملك المذكور ، وهو هنا لا يختلف عن الخليفة أبو جعفر المنصور حين خاطب العراقيين قائلا : " أيها النـاس، إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسـديده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقـد جعلنى اللـه عليه قفلا، إذا شـاء أن يفتحنى فتحنى لإعطائكم، وإذا شـاء أن يقفلني عليـه قفلني" .! وبعده بمئات السنين قال ملك فرنسا ، لويس السادس عشر للشعب الفرنسي ، إنه ظل الله على هذه الأرض .
حين نافس الأنبياء الملوك في علاقتهم مع الله بعد أن بشروا الناس بأنهم هم الذين انتدبهم الرب لتبليغ رسائله لهم بعيدا عن حاكميه ثارت ثائرة أولئك الملوك والحكام ، واعتبروا ذلك تعديا عليهم ، وعلى مصالحهم التي قد يفقدونها ، ومن يمثلهم في الرقعة الجغرافية التي يتحكمون بها .
والملاحظ هنا أن الأنبياء هؤلاء الذين حملوا رسالة السماء ظهروا في مجتمعات متقدمة من حيث الحرفة ومستقرة بسبب من كونها مجتمعات زراعية تعيش على فلاحة الأرض ، وكانت تقدم الكثير مما تنتجه الى المعبد والملك وحاشيته ، وبذا أصبح ظهور الدعوات الدينية الجديدة تهديدا جديا للحكم والحكام بدء ً من حكومة نمرود والمجتمع السومري في مدينة أور من جنوب العراق ، حينما بشر ابراهيم بدعوته الجديدة ثم موسى في مصر ، وعيسى في فلسطين ، وانتهاءً بالنبي محمد الذي تفردت دعوته بأنها ظهرت في مجتمع رعوي " بواد غير ذي زرع " أي في مكة التي كانت تعد مركزا دينيا وتجاريا ، ولكن مع ذلك كان المجتمع المكي منقسما بشكل حاد أكثر مما كان عليه المجتمع السومري في مدينة أور من جنوب العراق ، ولهذا صادفت دعوته قبولا لدى الكثير من فقراء مكة خاصة بعد اعلان النبي محمد لمبدأ المساواة الذي رحب به صعاليك مكة من الذين كان الواحد منهم لا يجد قوت يومه فيذهب الى وديان مكة ليموت هناك بعيدا عن أعين الناس ، هذا في وقت لاقت فيه تلك الدعوة رفضا قاطعا من قبل رجال السلطة في تلك المدينة وكان في طليعتهم ابو سيفيان الذي قال بصوت عال ٍ : " أيريد محمد أن يساوينا بعبيدنا "
وإذا كان النبي ابراهيم قد فر بجلده من الملك نمرود وظلمه نجد أن النبي محمد قد فر وله اتباع اصطحبوه ، وآخرون تخلفوا عنه ، لكنهم لحقوا به فيما بعد حين حل بيثرب المدينة التي نهض فيها مجتمع زراعي خلافا للمجتمع الرعوي الذي كان سائدا في شبه جزيرة العرب ، وذلك بعد أن استوطنت تلك المدينة بطون وقبائل جاءت من مجتمعات زراعية ، مثل تلك الاقوام التي قدمت لها من بابل في العراق ، أو قبيلتي الأوس والخزرج اللتين قدمتا من اليمن بعد خراب سد مأرب ، وأهل اليمن ، مثلما هو معروف ، كانوا قد احترفوا الزراعة التي استخدموا فيها المحراث الحديدي ، بينما كان المجتمع السومري في جنوب العراق يستخدم فكوك الحيوانات في حراثة الأرض ، وذلك لاختلاف طبيعة الأرض في كل من العراق الجنوبي واليمن .
في هذا المجتمع الزراعي الجديد أستقبل النبي وأتباعه بحفاوة ، وسرعان ما أخذ يقود هو السلطة في مدينة يثرب التي لم تقدها سلطة قبله ، فقد بادر الى بناء أول مسجد يشاد بها بعد أن احتز قسما منه ، وجعله مسكنا لفقراء المسلمين ، ذلك الجزء الذي عرف فيما بعد بـ " الصفة " مثلما عرف من سكن به بأصحاب الصفة ، وهم الفقراء الذين ناصروا النبي محمد ودعوته التي بشرت بمبدأ المساواة بين الناس ، ولولا هذه الدعوة لما عرفت اسماء من فقراء مكة " الصعاليك " في تاريخ تلك الحقبة من الزمان ، ولا في تاريخ الاسلام ، مثل بلال الحبشي وعمار بن ياسر وصهيب الرومي وآخرين غيرهم .
لقد كسر مبدأ المساواة ذاك حدة الصراع الذي كان قائما بين تجار مكة وبين صعاليكها ، وصار هو الدافع الأساسي لدخول الفقراء في الدين الجديد أفواجا ، ولم تكن العوامل الأخرى مثل مبدأ التوحيد هي التي لعبت ذلك الدور الأساسي ، فشبه جزيرة العرب قد عرفت التوحيد قبل أن يبشر النبي محمد بالدعوة الإسلامية ، إذ المعروف أن الديانتين المسيحية واليهودية كانتا معروفتين فيها ، ولها أتباع كثيرون ، يضاف لهما الأحناف الموحدون من أتباع النبي ابراهيم الخليل ، والذين كان أبو النبي محمد واحدا منهم . وهذا الأمر يقودنا بعد ذلك الى مسألة مهمة أخرى ، وهي نعت الحقبة الزمنية التي سبقت الإسلام ، والتي استظهرها الجاحظ بمئة وخمسين سنة ، أو بمئتي سنة ، بـ "العصر الجاهلي " ، والحقيقة هي أنه لا يوجد عصر منسوب الى الجهل عند العرب قبل الإسلام أبدا ، وإنني سآتي على ذلك في الجزء الثاني من مقالتي هذه .