المثقف محتجّاً مدنيّاً


سعد محمد رحيم
2015 / 8 / 20 - 02:40     

باتت كلمة المثقف في التداول العام مرتبطة بعمليات التحوّل الاجتماعي والسياسي، فعند عتبة تلك العمليات يبرز المثقف فاعلاً اجتماعياً له موقع ودور ووظيفة.. وتاريخياً مع تغير المراحل والسياق والظروف يتغير، بهذه الدرجة أو تلك، موقع المثقف ودوره ووظيفته.
يفرِّق إدغار موران بين فضاءين تاريخيين مختلفين أنتجا المثقف المعاصر.. المثقفون Intellectuals بالمعنى الفرنسي، وهم نتاج مجتمعات متعلمة مستقرة حققت مستوى مقبولاً من التطور الاقتصادي والحضاري، وتحكمها سلطات ديمقراطية منتخبة، والمثقفون Intelligentsia بالمعنى الروسي، وهم نتاج مجتمعات يسودها الفقر والأمية وتحكمها سلطات استبدادية، حيث يتحدر المثقفون من طبقة ارستقراطية متعلمة تفصلهم هوّة عميقة عن عامة المجتمع، ولذا يأخذون على عاتقهم مسؤولية الثورة والخلاص. واليوم لم يعد مثل هذا التصنيف صالحاً تماماً، بالمعايير عينها، لاسيما حين نطبِّقه على مجتمعات في القرن الحادي والعشرين (مثل مجتمعنا العراقي ) تعيش تناقضات وتناشزات حادة في بنياتها الاقتصادية والاجتماعية، وأشكال مؤسساتها، وتعاني من حالات اضطراب سياسي تصل إلى حد ممارسة العنف، وشيوع الإرهاب.
ارتبطت ولادة المثقف الجديد في أوروبا بالتنوير، وقيام الجامعة، وظهور الإيديولوجيات، وكذلك، كما يقول جيرار ليكلرك في كتابه ( سوسيولوجيا المثقفين )؛ "بعلمنة المجتمع، بالسياسة، بالثقافة... يُربط المثقفون بالحداثة، أي بالعلمانية، بالتعددية الدينية، بحرية الأفكار، وبظهور الطباعة في نهاية القرن الثامن عشر، بالثورة الفرنسية، وبضغط ما يُعرف بحقوق الإنسان". في هذا الخضم من المنعطفات المحايثة لنهاية عصر الإقطاع وبزوغ الرأسمالية أطلَّ هذا الكائن العارف، المتسائل، الناقد، النخبوي، المتمرد، الرائي، والشكّاك. أما في البلاد العربية فارتبطت ولادة المثقفين بصدمة الاستعمار، وانتشار فكر النهضة الذي صار يشع من قلب المؤسسة الدينية، مهدداً التقاليد الفكرية والمناهج القديمة باطروحات صادمة كانت إلى حد بعيد صدى لفكر التنوير الغربي ذاته.. كان عقل التنوير، هنا وهناك، يرمي، في الجوهر، إلى "فك السحر عن العالم" بتعبير ماكس فيبر.
في العراق، وحتى قبل تأسيس الدولة 1921، ألفى المثقفون أنفسهم مهمومين بالسياسة.. كان الوضع العام يتطلب من المثقف أن يحدد موقفه مما يحدث.. كان عليه أن يقول كلمته، وأن يخرج إلى الشارع ليهز وعي الناس ويحثّهم على الفعل المعارض.. أسس ذلك لحتمية ولوج المثقف العراقي حقل السياسة.. ومنذ ذلك الحين، وحتى الآن؛ لا صراع سياسيا ذا طابع حاسم من غير حضور الثقافي، وتورط المثقفين.
مع الاهتمام المبكر بالسياسة، وتأثير الشروط الموضوعية للواقع الضاج بالتناقضات والصراعات، ومفاعيل الأحداث الإقليمية والدولية، ومن ثم الاحتكاك مع القادم من شذرات الفكر الغربي بين الحربين العالميتين، وبخاصة بعد الحرب الثانية، وجد جلّ المثقفين العراقيين أنفسهم ميالين لجهة اليسار في تبني الإيديولوجية السياسية ومولعين بفكرة الالتزام على وفق ما فُهم من أدبيات الماركسية بمختلف مشاربها أولاً، والوجودية بالمنظور السارتري فيما بعد.. واستمرت فكرة ( المثقف الملتزم ) لصيقة بالسلوك العام للمثقفين ومواقفهم منذ ذلك الحين، وإنْ تبدل مضمون تلك الفكرة وكيفية استيعابه وترجمته فعلاً على الأرض بين هذا المثقف وذاك، وبحسب توالي الحقب وتقلبات الأحداث.
واليوم، حين نقول ( المثقفون ) فإنما نتحدث عن الشريحة الاجتماعية المتنورة التي حصلت على قدر كافِ من التعليم، وتشتغل في مهن فكرية، وتتعاطى مع الرموز، ولها رؤية للحياة، وموقف من قضايا المجتمع، وما يجري من حوله؛ في بلاده والعالم، طالما أن جزءاً مهماً من الصراع الدائر في كل عصر ومكان هو على المعاني والرموز.. إنه في هذا الجانب، صراع بلاغة وسرديات، كما هو في الجانب الآخر؛ صراع من أجل السلطة، وشكل السلطة ومضمونها.
تتكئ بنية السلطة على آلية الهيمنة، الهيمنة التي تعتمد كما يقول شيلي واليا على تسليم الآخر، وتعمل بحسب غرامشي "عبر خلق خليط من الأفكار المتضاربة، والزج بها داخل عقول الجماهير، في الوقت الذي يتشربون فيه المعتقدات والقيم الثقافية للطبقة المسيطرة، وهي تقصد إلى جعل التابع يقبل باللامساواة والاضطهاد بوصفهما ظاهرتين طبيعيتين وغير قابلتين للتغيير".
في المجتمع المعاصر، ومع تطور وسائل الاتصال والإعلام وأنظمة التعليم والثورة المعلوماتية من الصعب الحديث عن جموع جاهلة.. لقد بات الجمهور الغالب على قدر من الثقافة العصرية، له وجهة نظره، وموقفه المبني على قناعات، وهذا ما أطاح إلى حد بعيد بفكرة النخب العارفة القائدة بمعناها التقليدي السائد.. فتمييز المثقفين، عن الآخرين، في المجتمعات المعاصرة، ومنها كثر من مجتمعات ما عرف بالعالم الثالث، لا يخضع للمعايير التي تؤسس للتراتبية. فالمثقف لم يعد يحتل موقعاً فوق عامة المجتمع، وإنما بينها، وإلى جانبها، ويكون التمييز على أساس الدور والوظيفة المحددين للموقع. والمثقف الذي هو منتج للمعارف ومبدع للفنون الجميلة والمختص بالعلوم الإنسانية وخلق الأفكار والرموز ما عادت المسافة شاسعة بينه وبين الجمهور في المسائل التي تتعلق بقضايا الشأن العام، لاسيما السياسة. لكنه يبقى، بالمقابل، منشِّطاً للنقاش العام، ومصدر طاقة في الحراك المدني.. هكذا تجلت، أخيراً، صورة المثقف في المشهد السياسي العام الآني؛ محتجّاً مدنيّاً، "يقول الحق بوجه السلطة" على حد تعبير إدوارد سعيد.
ما يفرِّق بين مثقف اليوم ( الفاعل الاجتماعي )، ومثقف الأمس النخبوي هو أن الأول قد كفّ عن الادّعاء بأنه يمتلك الأجوبة الصحيحة كلها ومفاتيح الحل، وعلى الآخرين أن يتبعوه.. مثقف اليوم هو المثقف الذي يطرح أفكاراً ورؤى للحوار، ويكون مستعداً لتغييرها إذا ما اقتنع بوجهة النظر الأخرى.. وما يميّزه، عن غيره، في لحظات الصراع المصيرية أنه يرى الظاهرة في سياقها بالعلاقة مع الظاهرات الأخرى، ويتمثّلها في صورتها الشاملة بموجِّهاتها وتحوّلاتها ومآلاتها، وهذا يتطلب منه القدرة على التأمل المنطقي البارد بأقل نسبة ممكنة من الانفعال والحماس. وفي سبيل المثال ( عراقياً ) لا يحلل المثقف ظاهرة الفساد بوصفها مجرد دالة للانحراف الأخلاقي لأشخاص بعينهم بقدر ما يفسِّرها معطىً لمشكلة بنيوية.. مشكلة تتعلق ببنية السلطة القائمة وآليات عملها، واستراتيجيات المتصارعين حولها والماسكين بمفاصلها، وإيحاءات الإيديولوجية الخفية التي تلهمهم، وجملة المصالح المتعارضة التي توجِّههم.. من هنا يغدو ( الإصلاح ) في نظره عملية مركّبة ـ مستدامة. وهو ( في مثال ثانٍ ) في حديثه عن الفساد لا ينسى الوجه الآخر البشع له، أي الإرهاب. حيث التواطؤ بين الإرهاب والفساد، حتى وإن لم يجرِ بالتفاوض المباشر، يُعد أخطر ما يواجه المجتمع العراقي في راهنه ومستقبله.
مثال آخر؛ نعرف أنه حتى وقت قريب كانت السلطات السياسية تكرِّس هيمنتها بالسيطرة على وسائل الإعلام وصناعة الأخبار وتسويق المعلومات، ومن خلالها تقوم بالترويج لإيديولوجيتها لتعيد صياغة قناعات الناس، أو شرائح واسعة منهم، وهم في نسبتهم الغالبة، في العالم الثالث، كانوا من أشباه المتعلمين أو الأميين.. لكن الميديا الحديثة في زمن العولمة جعلت قوى الحراك المدني، وهذا ما حصل في معظم بقاع العالم، تنتزع جزءاً مهماً من احتكار الحكومات لتسويق الأخبار والمعلومات. غير أن هذا الأمر لم يصب دائماً في صالح الحقيقة؛ الحقائق المختفية وراء ضباب كثيف من التشويش والتناقض والخداع.. هنا يتحدد موقع المثقف، ووظيفته؛ أن يستثمر رؤيته الثاقبة وذكاءه وكفاءته البلاغية في قشع ذلك الضباب.
ثمة نوع آخر من التوظيف للثقافي في صراعات السياسة، وهو ما ظهر في عصر العولمة والميديا الحديثة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية.. هذا النوع أوجدته السلطات على وفق قواعد ماكرة ومراوغة، فهو ( أي المثقف ) لا يعمد إلى الدفاع المباشر المفضوح عن السلطة ومصالحها لأن القائمين به سيصنفون حالا في خانة المتملقين الانتهازيين المنتفعين ولن يصغي إليهم أحد، وإنما يقوم بإخفاء نواياه ومقاصده بدهاء شديد.. يرتدي جبة الناقد للسلطة لكن طريقته ترسِّخ أركانها وتوجهاتها ومصالحها. فهو يشوش أكثر مما يوضِّح، ويخلط الأوراق بدلاً من فرزها، ويؤدي دور حصان طروادة ثقافياً، يصطف إلى جانب المعارضين والمنتقدين ونصب عينه تضليلهم والإساءة لسمعتهم.
اللافت في الاحتجاجات المدنية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أنها في الأعم الأغلب ذا طابع شبابي، فهي من أجل ديمومتها تتطلب قوة اندفاع الشباب وطموحهم، لكنها في الوقت نفسه تبقى بحاجة إلى ناظم ثقافي يجنبها التشرذم والوهن واللاوضوح والفوضى.. هذا الناظم الثقافي يستدعي نسغاً من الحكمة والرؤية الشفافة التي يوفرها الشيوخ والشباب معاً.. هنا أتحدث وفي ذهني صورة الاحتجاجات المدنية العراقية المنطلقة منذ أسابيع في مدن العراق الكبيرة.
يتجه جزء من احتجاج الشباب إلى إخفاق الآباء في صنع وطن حقيقي؛ آمن وقوي ومنتج وجميل.. الأمر يتجاوز العتاب إلى اللوم، وربما إلى التقريع أيضاً، وكأن لسان حالهم يقول؛ دعونا نغيّر ما أفسدتموه.
لا يتحقق النضج السياسي لأي مجتمع بين ليلة وضحاها.. إنه بحاجة إلى عقود طويلة من التجارب، والتعلم من الأخطاء، وتنمية حس الواقع وحس التاريخ عند الأفراد والجماعات. والمناخ الديمقراطي الذي يتخلله الحراك المدني الفاعل هو الأمثل لتسريع حالة النضج تلك. وفي هذه اللحظة المفصلية من تاريخنا تؤسس ساحات الاحتجاج لذاكرة سياسية عراقية جديدة، فنحن معها على عتبة مغايرة تنبئ عن ترسيمة مختلفة، أنضج وأكثر فاعلية، للخطاب والأداء السياسيين.