ثورة -كلشي وكلاشي- المدنيّة الديموقراطيّة


سلام عبود
2015 / 8 / 16 - 01:00     

... المحاصصة ليست مشكلة، المشكلة هي الفساد. نحن نحارب الفساد، ومطالبنا الأساسيّة ( يعني مطالب الشعب، لأنّ قائل الكلام هو الناطق باسم الشعب) هي القضاء على الفساد. الفساد وحده وليس المحاصصة، التي اعتقد أنّها طريقة في الحكم لا اعتراض عليها...
من هو القائل؟ بكل تأكيد إنه نوري المالكي. لا، أخطأت أيّها القارئ الحصيف. ربّما أيهم السامرائيّ، وقد يكون حازم الشعلان، وفي أضعف الاحتمالات باقر جبر، أو بهاء الأعرجي، نعم، بهاء وما أدراك ما بهاء!
لا، وألف لا، ليس الأمر كذلك على الإطلاق.
قائل الكلمات هو الشخص الذي يعرّف عن بطولاته السياسيّة في ويكيبيديا بالكلمات التالية: "... واجه ما بعد عام 2003 مشاكل كثيرة في السنين الماضية لمهاجمته المشروع الطائفيّ القائم على المحاصصة".
ما خطورة المحاصصة؟ يقول النائب ذاته، وبلسانه أيضاً، مجيباً "قناة الحرّة" في 11 آب 2015: على العبادي إذا أراد أن "ينجو" بحياته و"لن يتعرض الى الابتزاز"... "أن يذهب الى التكنوقراط ويبتعد عن المحاصصة".
هذا الرجل، رغماً عن طبيعته الميّالة الى الكلام بصوت صاخب ومندفع وخال من منطقيّة الأولويّات، إلا أنه "جذاب ولبق"، كما تقول موسوعة ويكيبيديا ( قرأها الحاقدون سهواً بالعامية: كذاب ودبق)، ويختزن قدراً كبيراً من الحنان. فهو، كما يؤكـّد دائماً، قائد ومؤسس الحراك المدنيَ وصاحب مشروع الدولة المدنيّة في العراق، إلا أنـّه رغماً عن توجهه العلمانيّ، ألـّف كتاب "اغتيال شعب"، تخليداً لذكرى المرجع الدينيّ محمد صادق الصدر، ونشره في مؤسسة أبحاث شعارها الرئيسيّ: الدولة اللادينيّة، العابرة للطوائف، للتعبير العمليّ عن هذا العبور. وفوق هذا وذاك هو أوّل نائب وسياسي في التاريخ يبكي حزناً على جسر، جسر حديديّ خالص. لقد سمعنا كثيراً عن شعراء بكوا على أطلال الأحبّة، ومنهم من بكى على فراق الديار، وبكى الرومانسيّون على مشهد الغروب وعلى حنين اليعاسيب، لكن هذا النائب المحاصص بكى، ولم يزل يبكي حتى لحظتنا هذه، كلـّما تذكـّر القصف الذي تعرّض له الجسر المعلـّق ببغداد.
ما الذي دفع النائب الى الفصل بين الفساد والمحاصصة؟ أو بمعنى أدقّ، ما الذي جعله يفكّ الارتباط بينهما؟ ولماذا الآن، بعد أن ناضل عقداً كاملاً، كما يقول، وبعد أن كانت المحاصصة حتى تاريخ 11 آب، أي قبل يومين، عورة سياسيّة قبيحة؟
لا أملك جواباً قاطعاً. لكنني وجدت، من نبرة النائب المتفائلة جداً جداً، أنـّه قاب قوسين أو أدنى من نصر ما، نصر مؤزّر ومحتـّم، بعد أن كانت مقابلاته التلفزيونيّة والصحافيّة كلـّها، مليئة بالإحباط واليأس والشكوى والتذمّر والبكاء على الجسور الحديديّة المهشّمة والمرممة.
ما الذي حدث؟
إنـّه الشارع الثائر، الشعب المظلوم، الذي تلقـّى دفعة ثقة سحريّة، مفاجئة، من قبل المرجعيّة، فنزل أخيراً شاكياً بؤسه، وعارضاً على الملإ مآسيه الأسطوريّة، وعريه التاريخيّ المروّع. أجّج هذا المشهد المثير، في نفس النائب، شهوة المحاصصة. لماذا لا! لا أحد أحسن من أحد! الفساد هو المشكلة، أما المحاصصة فهي طريقة نافعة للحكم. ينطقها النائب بثقة مدنيّة وديموقراطيّة، كما لو أنّ الفساد هو الذي خلق المحاصصة، وليس نظام المحاصصة القائم على ابتلاع السلطة السياسيّة والثروات، هو الذي أشاع وعمـّق و"حلـّل" الفساد حتى دينيّاً. الفساد مظهر من مظاهر عمل نظام المحاصصة، وآليّة من آليّاته. إن "تحالف" الفساد المدنيّ، مع ديموقراطيّة المحاصصة، هو الذي جعل أحد أكثر العراقيين خبرة وتأهيلاً - في الشهادة الدراسيّة وشهادات الخبرة الأميركيّة- في مجال الكهرباء، أيهم السامرائي، يصبح أكثرهم فساداً وفشلاً في موضوع تخصّصه.
ذكـّرني السيد النائب بالوالي العثمانيّ العطوف والجريء، الذي أبكاه الظلم الواقع على كاهل العراقيين، بسبب نظام الضرائب العثماني الجائر، فقرر إعفاءهم من نصف الضريبة، مخالفاً بذلك قوانين أل عثمان الصارمة. لم يصدق العراقيّون ذلك الخبر العجيب، حتى ظهر لهم الوالي الحنون بنفسه، مؤكـّداً أنّ الإعفاء يسري على كلّ شيء، يسري على "كلّ شي وكلاشي" من دون استثناء. يسري على التمّن والممّن، على الشعير والمعير، على البطيخ والمطيخ، على الخروف والمروف. باختصار شديد يسري على "كلّ شي وكلاشي". فرح الناس وراحوا يتسابقون زرافات ووحداناً في عرض ثرواتهم من محاصيل ومنتجات، بقلوب فرحة، أشبه بقلوب المتظاهرين في أقضية ونواحي العراق الخربة. فما كان من الوالي إلاّ أن قابلهم بقلب أكثر فرحاً وانشراحاً، وراح يحدد لكلّ مواطن حجم التخفيض على غلته وبضاعته، وهو يردّد من دون كلل أو ملل: بالنصف تماماً، لا أكثر ولا أقل.
هذا هو العدل! هتفت قلوب الناس وهي تلهج بالدعاء للوالي. أمّا الوالي فكان ينظر الى وجه الفلاح الفقير، صاحب غلـّة الشعير الشحيحة، ويقول له مداعباً: افرح، افرح، أسقطنا نصف الضريبة، اسقطنا عنك ضريبة المعير، ولم يبق عليك الآن سوى ضريبة الشعير. ويقول لصاحب البقرة الهزيلة: اسقطنا عنك ضريبة المقرة، ولم نـُبق عليك سوى ضريبة البقرة. وفي النهاية أسقط الوالي عن الناس ضريبة "الكلاشي" كلـّها، ولم يحمّلهم سوى دفع ضريبة "الكلشي".
نائبنا المحاصص، أسقط عنا الفساد، وأبقى لنا المحاصصة.
بيد أنّ المشكلة لم تنته عند هذا الحدّ، فقد أعلن النائب المحاصص يوم أمس، أنـّه أبقى لنا مع المحاصصة، ما هو أثمن وأعظم وأندر، أبقى لنا رئيس كتلته النيابيّة! لماذا؟ لأنّ رئيس كتلته هوأشمل وأكمل وأمثل سياسيّ في تاريخ البشريّة كلـّها. فهو موهوب بشكل إعجازي، لا مثيل له، لدرجة أنّه كان بعثيّاً، وضابطاً في جهاز القمع، وسليل محميّة بعثيّة عليا، ومعارضاً في صف العراق الحرّ، ومتحالفاً مع الطائفيين والعرقيين، ومن قادة لجنة اجتثاث البعث مع المالكي والجلبي، ومن قادة دعاة التحرير بالغزو، ومن أبرز وكلاء الموساد وأكثرهم سفوراً، قبل حادثة برلين بكثير، ومن أبرز دعاة الثورة المدنيّة أيضا. رئيس نموذجيّ، الى الحد الذي لم يبق صفة ومرتبة سياسيّة مشينة لم يحزها. باختصار شديد، إنـّه سياسيّ شاملٌ ومثاليّ في بابه، يمتلك من الصفات القياديّة الوطنيّة "كلشي وكلاشي"، من خدمة البعث الى اجتثاثهم، من الموساد الى حلم وزارة الداخليّة أو الأمن القوميّ، من غزو العراق من الخارج الى غزوه من الداخل، وأخيراً قيادة الثورة من الشعب الى المعب ( المعب مأخوذة من العبّ والتعبئة)، على حدّ تعبير الوالي العثمانيّ الحنون.
رحم الله ولاة آل عثمان، وأطال عمر أردوغان.
# # ## # #
جلّ ما أخشاه أن يأتي يوم أغبرعلى العراقيين، يخرجون فيه هاتفين: باسم "الشعب" باكونه الحراميّة!
الثورة التي لا تحمي ذاتها من الفساد، هي الحبل السريّ لفساد جديد، أكثر عفونة.