الايديولوجيا، الموهبة، النتاج


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2015 / 8 / 15 - 11:04     

فيليكس كوزنيتسوف، الدكتور في علوم اللغة والاداب، سكرتير ادارة اتحاد كتاب الاتحاد السوفييتي.

منذ نصف قرن، في اواسط عام 1935، عقد في باريس مؤتمر عالمي لحماية الثقافة. كان ذلك أول ندوة في التاريخ بذل فيها اساتذة فنون من بلدان عديدة، وذوي قناعات مختلفة محاولةً لتوحيد الجهود من أجل وضع حاجز في وجه الحرب العالمية الثانية التي كان شبحها يلوح بوضوح متزايد بعد وصول الفاشيين الى السلطة في ألمانيا. ولم يتسن حينذاك وقف الحرب، ولم يكن الكثيرون قد أدركوا بعد، ادراكاً كافياً أبعاد خطرها، ولكن الشخصيات الاجتماعية التقدمية، ومن بينها مكسيم غوركي، كلاسيكي الأدب الروسي والسوفييتي، كانت تصور بوضوح مدى التهديد المتسلط.
ان غوركي، أحد منظمي اتحاد الكتاب السوفييت الذي كان قد تأسس لتوه، نشر عقب المؤتمر مقالةً (عن الثقافات). في هذه المقالة أعاد الكاتب الى الأذهان الحرب العالمية الأولى: (في عام 1914 ارسلت البرجوازية الأوروبية الوف المثقفين الى الجبهة جنوداً اعتياديين وأرغمتهم على أن يفني بعضهم البعض. وكان (أساتذة الثقافة) قبل أن يشوهوا ويسمحوا بالغاز ويقتلوا، قد ساهموا قدر استطاعتهم بتدمير المدن، في اتلاف الأرض الخصبة، وغير ذلك من وقائع تخريب الثقافة). وحذر غوركي من المذبحة المقبلة أيضاً: (كم سيدمر من المدن والمعامل والمصانع ويتحول الى انقاض ورماد، وكم سيغرق من البواخر الرائعة ويتلف من الأرض. سوف يباد الكثير من الأطفال. وفي نهاية المطاف سيؤدي الجنون الاجرامي لطبقة الناس المترهلين الى أن يرغموا العمال والفلاحين والمثقفين على العمل لابادة نتاج العمل والانتحار المتبادل).
وللأسف تحققت نبؤة مكسيم غوركي. ولكن ما هو أشد مدعاةً للأسى كون البشرية تنسى دروس التاريخ، حيث يبرز اليوم بحدة خطر حرب تتوعد البشرية بالفناء الكامل في حريق نووي. ومشعلوه المحتملون، هم هذه المرة، ممثلوا الأوساط العسكرية اليمينية المتطرفة للامبريالية. ولا جدال أن قوى السلام، التي تضم جبروت المنظومة الاشتراكية بأسرها، تتمتع اليوم بقدر أكبر بكثير من تلك التي كانت لديها منذ نصف قرن. ولكن عدداً معيناً من مثقفي الغرب الابداعيين يتمسك، وان كان نفسه لا يريد الحرب، بموقف سلبي: ليس من شأن الأدب والفن، كما يقول، ممارسة السياسة حتى وان كان الأمر يتعلق بصيانة السلام والحياة على الأرض.
واليهم بالذات، وجه حزبنا كلمته في الاجتماع اليوبيلي لادارة اتحاد كتاب الاتحاد السوفييتي: (اليوم... اليوم يرن بقلق واصرار أكبر من أي وقت مضى سؤال غوركي ونداءه: (مع من أنتم يا اساتذة الثقافة؟)، ولا يتلخص الأمر طبعاً في مجرد خيار بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، كما يصوره المعادون للشيوعية في حالات ليست بالنادرة. الأمر يتلخص في الخيار بين حياة حضارتنا أو فنائها. ولا مجال هنا لأي خيار ينطلق من قاعدة (خير الأمور أوسطها) فاما أن تكون مع الذين يستعدون للحرب، واما مع الذين يرفضون السياسة المغامرة للامبريالية ويناضلون في سبيل التعايش السلمي، في سبيل نزع السلاح).

لقد شق الفكر الفلسفي الأدبي الماركسي في اعداد موقف صحيح من النتاج الفني طريقاً لنفسه بين رمضاء ونار الانتقائية الأيديولوجية والسوسيولوجية المبتذلة. الأولى تتجلى غالباً في محاولات الربط بين نظرتين متنافرتين الى الفن: المادية والمثالية. ان المادية، وتدخل ضمنها الفلسفة الماركسية ايضاً، تفسر الفن بمثابة شكل خاص للنتاج الاجتماعي الذي يتغذى برحيق الحياة الواقعية ويخلق هذه الحياة نفسها، العلاقات بين الناس. ومفاهيم الفن المثالية-عدد ولا حرج!-تصور الفن كأنه عبارة عن تخاطب ما مع (روح أزلية) واقتراب وهمي من بداية العالم التي لا يدرك كنهها الا اخره وهلمجرا. اما الانتقائية فانها، اذ توزع هداياها على كل أخت، تسعى الى توحيد هذين الموقفين المتعارضين باسلوب منمق ومتفنن ومعقد. انها لجهود عقيمة وبعيدة عن مقتضيات الحياة.
اما بخصوص السوسيلوجيا المبتذلة، فانها تعبر بالحاح عن ايمانها الماركسي الصرف، كما تزعم، مصورةً بغظابة وبرتابة تبعية الفن المباشرة للمحيط الاجتماعي والمصالح الطبقية. ان اتباع هذا المفهوم قد أعلنوا، مثلاً، أن بوشكين هو منظر السادة المنحطين، وأن ليف تولستوي هو ممثل النبلاء المتوسطين القريبين من الأرستقراطية، وهنا ينتهي ورهما في الثقافة. وبهذا نفت السوسيولوجيا المبتذلة قيمة تراث الماتضي الثقافي بالنسبة لمجتمعنا، وعللت شرعية تصوير الحياة الساذج والمبسط في الأدب والفن، مما لا يتجاوب ومتطلبات الحضارة.
ان التناول الماركسي اللينيني الصحيح للنتاج الأدبي، والذي وضع مؤسسو الاشتراكية العلمية مبادئه الرئيسية، يرفض الاتجاهين المذكورين كلاهما. وهذا التناول للفن، لا يعني التسوية بين هذه وتلك من وجهات النظر.
نحن نعتبر تصوير الحياة الواثعي أحد أهم المعايير لدى تقييم مؤلفات الفن والأدب. ومن المفهوم في غضون ذلك أن الصلة بين ايديولوجيا الفنان ونتاجه تبدو أعقد بكثير من مجرد انعكاس في مراة. لقد أدرك ماركس وأنجلز طبيعة هذه الصلة جيداً. فالأخير مثلاً، اذ اشار الى ان اونيريه دي بلزاك كان ملكياً من حيث رؤاه السياسية ويتعاطف مع طبقة حكم عليها التاريخ بالزوال، نوه في الوقت نفسه بأن (هجاءه مع ذلك كان أقذع ما يكون، وسخريته اشد ما تكون حين يحرك اولئك الرجال والنساء الذين يتعاطف معهم أكثر من أي كان، النبلاء. والناس الوحيدون الذين يتحدث عنهم باعجاب صريح، هم ألد اعداءه سياسياً، الجمهوريون... وكون بلزاك كان مضطراً على هذا النحو للوقوف ضد عواطفه الطبقية الخاصة وأوهامه السياسية، وكونه رأى حتمية سقوط أرستقراطية المحبوبين ووصفهم كأناس لا يستحقون أفضل مصير. وكونه رأى اناس المستقبل الحقيقيين في الوسط الوحيد الذي كان يمكن رؤيتهم فيه انذاك، أمر أرى فيه أعظم انتصارات الواقعية وأحد أعظم ملامح بلزاك الشيخ).
نوه كلاسيكيو الماركسية بأن الشعور بالحقيقة الفنية، الصفة الملازمة للموهبة الحقيقية، كان يقود كتاب الماضي العظام. وهذا ما يجعل مؤلفات أفضل فناني الماضي قيمة لا تفنى في الكنز الانساني العام لمعرفة العالم بوسائل الفن.
والماركسية، طبعاً، لا تستوعب تراث الماضي بعجزه وبجره، فبعض جوانب نتاج أساتذة العصور السابقة عزيز علينا: تأكيد الانسانية، الانجذاب الى الثاقفة، الدعوة الى النشاط الفعال لخير الناس، وتقف من جوانب أخرى موقف الانتاقد: من المثالية الدينية، النخبوية الفنية، تمجيد الفردية، الخ.

من بين تراث الماضي اقرب ما يكون الى ممارسي ومنظري الأدب السوفييتي نتاج الديمقراطيين الثوريين الروس في أواسط القرن التاسع عشر: بيلينسكي، دوبرولوبوف، تشيرنيشيفسكي وغيرهم. لم يكونوا ماركسيين، ولكنهم اقتربوا اقراباً شديداً من الاشتراكية لعلمية، فأكدوا المادية في الفلسفة ووصلوا الى دياليكتيك تطور الطبيعة والتاريخ البشري ووقفوا الى جانب الأساليب الثورية لتحرير الشغيلة.
وأكثر من ذلك، نحن نعتبر انفسنا خلفاء الديمقراطيين الثوريين في تطوير بعض اهم مبادئ التعاليم الفلسفية الجمالية التي أخذها عنهم وعلجها بعمق الماركسيين الروس، ولا سيما فلاديمير لينين.
واذا كان لينين يدرك جيداً أن الموهبة تنطوي على مغزىً كبير في نجاح الفنان، فقد قال في رسالته الى غوركي: (لا تشددوا، أيها الأصدقاء، في نقاط ضعف الانسان! فالموهبة أمر نادر. ويجب دعمها بانتظام وحذر). والى جانب ذلك كان الديمقراطيون الثوريون والنقاد الماركسيين ينفون (لاتحزب ولاأيديولوجيا) الفن، وما كان يؤكده فلاسفة وفناون اخرون من انعدام مغزى التحزب بالنسبة للتناج الفني.
ولما كانت الكلمة والصورة الفنية سواءاً بسواء، جوهريتين دوماً وتحملان شحنة معنوية معينة، وبالتالي شحنة ايديولوجية، فان الأدب، كما كتب تشيرنيشيفسكي، (لا يمكن الا أن يكون خادماً لهذا الاتجاه من الأفكار أو ذاك، وهي وظيفة ليس بوسعه أن يتخلى عنها حتى وان اراد ذلك). ان شعار (الفن الخالص) و(الفن للفن) المعارض لاراء التقدمية لا يصلح، كما أكد، الا (حينما يقتضي الأمر... البرهان على انه ينبغي للشاعر ان لا يكتب قصائد رائعة، كما ينبغي له ان لا يشوه الواقع من أجل مختلف لمواعظ الارادوية والمعسولة) اي حينما يوضع قلم الكاتب تحت خذمة الكذب الرسمي، وفيما عدا ذلك، فان الأساتذة، الذين يفترضون أن (خدمة اي مصالح اخرى غير المصالح الخاصة أمر مهين ووبيل بالنسبة للفن، يحولونه الى لعبة فارغة وينتزعون منه أي مغزى عملي)، كما يقول تشيرنيشيفسكي.
هذه الأفكار حيوية بالنسبة لواقعهنا ايضاً، شأنها شأن القناعة بأنه اذا اراد الفن أن يكون حقيقياً وعظيماً فعليه أن يخدم أفكار العصر التقدمية. ان الأفكار التي تلبي متطلبات العصر الكملحة لا تملأ المؤلف بمضمون اجتماعي جدي فقط، بل وأيضاً تساعد الفنان على ادراك الواقع بمزيد من العمق والصدق. أما الملامح الرجعية في الأيديولوجيا فعلى العكس من ذلك، تمنع الموهبة من التغلغل في جوهر حقيقة الحياة وتكبح تطورها، اذا ما أخذت هذه الملامح صفة مطلقة، تسوق الفنان الى أزمة ابداعية وحياتية عنيفة لا تقبل الحل، كما حدث مثلاً مع غوغول، وتنعكس الأيديولوجيا الرجعية على مستوى المؤلف الفني، فتضعف تأثيره الجمالي.
ان شخصيات الأدب والفن في الاتحاد الفسوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى والكثير من الفنانين التقدميين في العالم بأسره الذين يشاطرون اراؤنا قد اختاروا الواقعية الاشتراكية بمثابة منهج فني لهم. وكان الكتاب المرموقون في القرن الماضي قد اتبعوا من حيث الأساس اسلوب الواقعية الانتقادية، وكان من خصائصه المميزة الكشف عن تناقض المجتمع الاستغلالي وفضح الوجه الحقيقي للاستغلاليين والدفاع عن مصالح فئات الشعب المضطهدة والكادحة. ومبدعوا زمننا يقيمون ويطورون منجزات الواقعية الانتقادية، وهم لا يتخلون عن انتقاد كل ما يعرقل نهوض الانسان. بيد ان انصار الواقعية الاشتراكية يسترشدون بمثل المجتمع الجديد والمفهوم الحزبي للفن سواءاً في عملهم الانتقادي، او في تحليلهم الفني لذلك الجديد الذي يولد في الحياة. واذ تقيم الواقعية الاشتراكية عالياً مغزى الأيديولوجيا الطليعية في الابداع، فانها في الوقت نفسه بعيدة عن القوالب في استخدام الوسائل الفنية، انها تفترض حرية الاستقصاء في هذا الميدان وتنوع تجلي الملامح الفردية، بما في ذلك في مسائل مثل التفاعل بين الأيديولوجيا والأسس الجمالية في العمل الفني، والترابط الدياليكتيكي العميق بين المضمون والشكل فيه، وابراز مثال الفنان الأيديولوجي الجمالي وموقفه الخلقي، الاجتماعي في الابداع. وفي هذا المجال ثمة الكثير من القضايا التي تخضع للنقاش. وهكذا تجري مناقشة حول العلاقة الصحيحة في العمل الفني بين ما هو ملح واني وبين المسائل الفلسفية (الأزلية). اذ يحدث ان يرجح الأديب قليلاً كفة الاني في ميزان الابداع فيكتسب العمل الفني مسحة عابرة غير مقبولة، ويحدث ان يركز كثيراً على المسائل (الأزلية) فيفقد نتاجه روح العصر، فيبرز في المقام الأول التجريد والعقلانية الباردة، ويتضائل اهتمام القارئ. ان التحليل الماهر والدقيق للابداع من هذه الزاوية يساعد الفنان على ايجاد الطرق الصحيحة في العمل.
وقد يكون اكثر اثارةً للنقاش قضية تقييم الاستقصاءات والتجارب في مجال الشكل التي تجري باستمرار في فن الواقعية الاشتراكية؟ فأية استقصاءات منها تتجاوب مع الاتجاهات الرئيسية لتطوره، واية استقصاءات تبعد الفنان عنها؟ اين يجب الابقاء على التمسك بالتقاليد، واين ينبغي تذليلها؟ لا يزال الكثير هنا يحتاج الى جواب.
وعموماً، فان أغلبية فلاسفتنا وادباءنا ونقادنا تجمع، في صدد ميدان هذه المسائل التي يجري النقاش حولها، على ان محاولات تحديد الاأساليب الابداعية للواقعية الاشتراكية بصورة متحجرة، وبالتالي تقييدها، هي محاولات عقيمة، ومنهجنا التاريخي هو نظام منفتح تاريخياً للتصوير الصادق للحياة يستوعب الاتجاهات التقدمية للعملية الفنية العالمية ويجد طرقاً جديدة للتعبير عنها. وهذه الطرق بعيدة عن التقوقع والانغلاق الاجتماعي وانسلاخ الفنان عن الحياة الشعبية، وبعيدة عن التجربة من أجل التجربة، وعن لعبة (الفن الخالص) القديمة قدم التاريخ والتي تؤدي به الى الابتعاد عن الحياة وفقد جمهور القراء والمستمعين والمتفرجين، وبالتالي الى انتحار الفن.

ان مركز الصدارة في اهتمام الأدب السوفييتي يشغله الانسان. واذ يتوجه ادبنا الى هذا الموضوع الدائم، يبرز اليوم في أهم مؤلفاته جانبه الروحي-الخلقي في صلته الوثيقة بمهمات التحويل الاجتماعي للواقع.
وانه ليستحيل هنا التحدث حتى عن أهم منجزات الاتجاه المذكور. بعضها، مثل روايات وقصص يوري بونداريف وفاسيل بيكوف، يربط في عقدة محكمة مسؤولية الانسان ازاء التاريخ والوطن، وازاء ضميره، حيث يحل النزاعات في مواد تتحدث عن سنوات الحرب وزمننا. وبعضها الاخر كتلك التي خطها جنكيز ايتماتوف، تركب عمليات تطور الشعب العائدة الى عصور الحكايات والأساطير، الى عصور تكاد تصل الى أزمنة ما قبل التاريخ، مع التطلعات الحالية الى عهد الفضاء. ان القرية الشمالية أو السيبيرية في مؤلفات فيودور ابراموف وفاسيلي بيلوف وفالنتين راسبوتين، والمدينة الحديثة في قصص تريفونوف، وكل أوجه الحياة تنعكس وتعالج في قصص النثر السوفييتي المتعدد القوميات في أيامنا.
واذ يتابع نثرنا التقاليد الرفيعة للأدب الروسي في الماضي، نجده ايضاً في الطور التاريخي الجديد، يوقظ روح الانسان، المرة تلو المرة، بأسئلته المثيرة (الأزلية): هل تعيش كما ينبغي لك أن تعيش؟ ما هو مغزى وجودك؟ كيف تتجلى مسؤوليتك المدنية الشخصية ازاء المجتمع والشعب والوطن، وازاء الانسانية أخيراً؟
ام مسألة مغزى الحياة تطرح كمسألة جذرية في نظام القيم الروحية العامة، أما مسألة المسؤولية ازاء الضمير فتبرز مسألة رئيسية في نظام القيم الخلقية. أي ان الأدب يظهر الترابط بين جانبين: من أجل ماذا يعيش الانسان وكيف؟ وهو يؤكد انه اذا كانت تبرز في المقام الأول-عند الانسان-تلبية الحاجات المادية والانتفاع على حساب المغزى الاجتماعي والمدني للنشاط، فان هذا يؤدي الى البهرج والانحطاط وتفاهة السلوك. وبهذا، يجري من حيث الجوهر، بالوسائل الأدبية، تحليل (طريقة انتقال) مجمل العلاقات الاجتماعية، اي الانسان في نهاية المطاف، الى كيان لروحه وخلقه، والى كيفية تحقيقه في الممارسة لمفاهيم الانسان والخير والضمير.
نعترف بأن بعض نقادنا وفلاسفتنا، بل وادبائنا، اذ كانوا منذ أمد غير بعيد يحاربون المثالية، كانوا يحصرون تلك المفاهيم بين قوسين مهينين، ليشيروا بهذا الى ما يعتقدونه من (عدم صلاحيتها لزمننا). والان تخلص المجتمع والأدب على حد سواء من هذه (المنحنيات) مدركين كل عمق المفهوم اللينيني للأخلاق الذي جمع في كل لا يتجزأ بين المعايير الاجتماعية الطبقية لتناولها، وبين ادراك المغزى العميق الذي يتنطوي عليه المعايير البسيطة لخلق الانساني العام وثروات الروح البشرية التي صنعتها حضارتنا على امتداد الاف السنين.
بديهي أننا لا ننسى أن الدين بمختلف مظاهره والأنظمة الأيديولوجية الفلسفية القائمة عليه، بقيت عشرات القرون تحتكر مجال النفس البشرية، وكذلك طرح وحل القضايا الأخلاقية. ومن الطبيعي أن الأدب ايضاً، كالأدب الروسي في القرن التاسع عشر، مثلاً، قد طرح بلا وجل مسائل روحية (أزلية)، ولكن حتى عمالقته غوغول ودوستويفسكي وتولستوي، لم يستطيعوا في البحث عن جواب لها تجاوز اطار العقيدة الدينية.
لقد فكر دستويفسكي، والحق يقال، فيما اذا كانت الاشتراكية تستطيع أن تعطي جواباً كهذا، ولكنه على اية حال، قرر في نهاية المطاف ان المجتمع الاشتراكي يستطيع ضمان الخبز والمساواة المادية للانسان، ولكن لا يعلمه الهدف الذي يعيش من أجله وكيفية العيش بوحي من ضميره. وفي اطاره يفكر الناس في أن اكتشافات العلوم الدقيقة واقتناء الأشياء المريحة لا تعفي من هذا السؤال: لماذا يعيش الانسان؟
وكأنما كان هذا السؤال، الذي شغل بال دوستويفسكي نفسه، كان موجهاً الى الواقع المعاصر له، ولا سيما مجتمع الاستهلاك البرجوازي، ولكنه موجه الينا ايضاً. وتجيب الاشتراكية وأدبها: لا يستطيع الانسان التغلب على لعنه غربة الفرد عن المجتمع واكتساب كنه الحياة الرفيع مع التحسين المستمر لرفاهيته المادية الا بتحويل المجتمع وفق المثل الاشتراكية السامية. وعندئذ سوف تحل المسائل الفلسفية (الأزلية) هنا في الأرض، لا في عالم الغيب الوهمي، على مستوى يليق بالانسان أكثر فأكثر. ولن يحدث هذا بصورة تلقائية طبعاً. فالمجتمع عموماً وكل انسان على حدة وحدهما اللذات يستطيعان بعملهما المتنوع تحويل الامكان الى واقع. وتتلخص رسالة الفن والأدب في أن يبينا فنياً كيف يتجسد هذا التحول في الممارسة ويلهما الانسان ويغرسا فيه الثقة بقواه، ولا يحق للأدب في غضون ذلك ان يبسط أو يهون ما يظهر هنا من نزاعات وتناقضات.
تتميز الاشتراكية عن مجتمع الاستهلاك بسمة معينة من سمات تطورها: كلما حلت قضية (خبز اليوم)، بمزيد من الكمال أعارت كل مؤسساتها الاجتماعية (الخبز الروحي) اهتماماً أكبر. ويبرز الأدب الاشتراكي اليوم في الخط الأمامي من العملية الأدبية العالمية من حيث حداثة طرح المسائل المتعلقة باغناء حياة الفرد الروحية في الظروف الجديدة، ومن حيث عمق الحلول المقترحة.
ان رد الاشتراكية على سؤال دستويفسكي فيه من الوضوح، رغم تعقده، قدر ما في الرد الذي يقترحه (مجتمع الاستهلاك) من تناقض، ومن عداء للانسان، وهذا هو الأمر الرئيسي. فهذا المجتمع، يبدو من جهة، وكأنه لا يرفض التفسير الديني-المثالي لمغزى الحياة الذي يعد (عباد الله) بالسعادة الحقيقية في (السماء) فقط، لا في الأرض، ويستخلص هنا القيم الخلقية الدينية التقليدية. ولكنه من الجهة الأخرى، يفسد الانسان بالدعاية لسلم مقلوب للقيم تربع على الدرجة العليا للخيرات الاستهلاكية المادية البحتة والمتدنية. وهكذا يناسب الرأسمالية الفنان كلاهما، الدين والروح التجارية، وأي شيء كان، فالمهم هو صرف الجماهير الكادحة عن طرق التحرر الحقيقي من استغلال الطبقات المالكة.
ولسلم القيم المقلوب ايضاً وسائله لجذب الأنصار، وأهمها (الثقافة بالجملة)، وهي ظاهرة اجتماعية جديدة نسبياً. ان نجاح الاشتراكية وقدرتها التي تجلت بوضوح في الحرب العالمية الثانية التي انتهت قبل 40 عاماً بانتصار القوى التقدمية للبشرية، قد أخافت اسياد المجتمع القديم. هذا الخوف ارغمهم على التخلي للشغيلة عن جزء من الرفاهية المادية أكبر من السابق، الأمر الذي رافقه ولا زال يرافقه نهب الدول الأقل تطوراً.
ويقرن اصحاب رأس المال (صدقتهم) بتسعير الغرائز الاستهلاكية والشهوات المنحطة وسط الجماهير: التعطش الى الربح، تقديس العنف، الخلاعة، وتسليات (الفن الرخيص) الواطئة. واذ يدعم رأس المال (الثقافة بالجملة) يدنس القيم التي طرحها بنفسه في فجر تاريخه، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: احترام الانسان، الثقافة، نفي حقوق الطبقة التي تعيش على حساب الاخرين. ان الكتاب الواقعيين، الذين يحافظون على اخلاصهم لهذه القيم في مجتمع الاستغلال، حيث تسيطر (الثقافة بالجملة) يجدون أنفسهم في وضع المنبوذين.
اننا نرى بأن مكافحة هذه الطفيليات الأيديولوجية والثقافية يمكن عن طريق معارضتها بمؤلفات صادقة، ساطعة، عميقة، ممتعة، تؤكد المثل العظيمة للاشتراكية والانسانية، ومغزى الحياة الرفيع، اي كل الصفات التي تجعل الانسان انساناً.
وفي رأينا أن هذه المؤلفات يستطيع ابداعها مبدعون ذوو ثقافة وتعليم رفيعين. وعدم ترك يوم بدون قراءة، بدون تفكير، بدون عمل للروح هو أهم مقدمة للعمل الناجح، للكاتب الجدي. ويكتسب الكاتب الحقيقي بالقدرة على التمعن العميق في التاريخ والحاضر من وجهة نظر الماركسية اللينينية، وهنا يتجلى موقفه الحزبي في الأدب، وفناعات الانسان الذي يهتم بشعبه وبلاده أمر تقليدي بالنسبة للكاتب السوفييتي.
وانه لغريب عنا نمط الأديب الأناني ومقدس الجمال المعرض عن السياسة. وأعتقد أن مبدع الثقافة في مجتمعنا هو دائماً سياسي ورجل دولة، وسأغامر باثارة نقمة مقدسي الجمال، أو بالأحرى تفهاء الأدب وأقول أن ليس من أدب عظيم من غير سياسة.
ينبغي طبعاً، الا نفهم ضرورة تسييس تفكير الكاتب بصورة مبسطة، متحجرة. اذ أن تجاهله لخاصية الأدب والروح الفنية يخلق في العمل الأدبي تصويرية باردة ويسمه بالسطحية. فكيف يمكن الجمع في العمل الأدبي بين خطورة المهمة وحدة الموضوع والمستوى الجمالي الرفيع وجدة الحلول الفنية والسلاسة؟ أمر صعب. ولكن التجربة تساعد على القيام به، بما في ذلك تجربة سنوات الحرب الشاقة والمجيدة. حينذاك رفع الفن والأدب السوفييتيان معنويات الشعب الى ذرى الوطنية التي لا تنفصل في ظل الاشتراكية عن التطلعات الأممية، وربيا في الناس الاستعداد لبذل كل شيء، حتى الحياة، من أجل الدفاع عن الوطن الاشتراكي. وأن فهم المهمة على هذا النحو، وحلها على هذا لنحو كذلك أمر جدير، في رأينا، بالكاتب الحقيقي، الكاتب السياسي والفنان.
تحتفظ كلمات تشيرنيشيفسكي التالية بكل قوتها بالنسبة لزمننا أيضاً: (في كل فروع النشاط البشري لا يحقق تطوراً رائعاً الا تلك الفروع ذات الصلة الحية بحياة المجتمع. وما لا جذور له في تربة الحياة يبقى ذاوياً وشاحباً، ولا يكتسب مغزىً تاريخياً، لا بل هو بحد ذاته، من دون صلة بالتأثير في المجتمع، شيء تافه).