بين المادية والمثالية والاسطورة، من كتاب مشروع رؤية جديد للفكر العربي في العصر الوسيط


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2015 / 8 / 15 - 11:02     

الدكتور طيب تيزيني

النشوء المعقد للفكر الفلسفي المادي المثالي
ان تاريخ الفكر النظري له خاصيته الذاتية. هذه الخاصية تكمن في عملية تكون معقد لاتجاهين فلسفيين، يكتسب كل منهما طابعاً متعارضاً مع الاخر بشكل اخذ في العمق والووح. هذان الاتجاهان هما المادي والمثالي(1). انهما لم يتكونا دفعة واحدة كشكلين من اشكال الفكر الفلسفي. فهما قد اجتازا تاريخاً خاصاً بهما، ولا يزالان يمارسان وجودهما ويتابعان بالتالي سيرهما التاريخي. وقد تم هذا، ويتم في عصرنا، ليس بمعنى انهما يضعان لنفسيهما غايات بعيدة أو قريبة بشكل قبلي ميتافيزيقي (2). ان الأخذ بهذا الرأي لا ينسجم اطلاقاً مع الوقائع التاريخية العيانية، بل يقوم على مصادر دينية تنطلق من عملية خلق الهي للتاريخ وللعالم عموماً. من طرف اخر ينبغي ابراز واقع كون عملية التطور الفكري هذه، المميزة بتشكل اتجاهين أو ميلين فلسفيين رئيسيين، لم تأخذ مداها بشكل محايد، اي دون نزاع. فالمادية والمثالية لم تتطورا بعيداً عن بعضهما او الى جانب بعضهما، وبشكل خاص، ضد بعضهما. لقد اكدتا نفسيهما وأرستا قواعدهما ليس من خلال تطور منسجم ناجز، بل ان النزاعية والعدائية هما ما يميز ذلك التطور. وفي الحقيقة، ان هذا انطلاقاً من جوهر القضية، ينسجم مع الميل الجوهري الذاتي لكلا الاتجاهين الفلسفيين الرئيسيين، هذا الميل الذي يمتلك القانونية التطورية الخاصة.
وبالطبع، فاننا اخذين بعين الاعتبار هذه الرؤية المنهجية للمضمون الداخلي لتاريخ الفكر الانساني النظري، سوف نفهم هذا التاريخ على انه تاريخ لقطبين نشا وتطورا على اساس معطيات الفعالية النظرية والعملية للانسان الاجتماعي. ونحن اذ نقول (قطبين)، لا نعني انهما الوحيدان اللذان يتمتعان بوجود نظري في الدماغ الانساني، بل الى جانبهما وحولهما تتواجد عناصر (جانبية). غير ان (قطبية) ذنيك القطبين و(جانبية) العناصر تلك ليستا مطلقتين، بل هناك علاقة وثيقة متبادلة بينهما، لها طابع جدلي، وذلك بمعنى ان العناصر الجانبية لا تزال بعد على طريق نضجها الذاتي واكتسابها هوية واضحة متميزة، اي انها لا تزال بعد في طريقها الى ان تتحول الى جزء لا يتجزأ من واحد من القطبين، بحيث يجري تمثلها مه ضمن فعالية ذاتية.
والمسألة هذه، مسألة العلاقة الوثيقة ذات الطابع الجدلي والقائمة بين القطبين والعناصر الجانبية، تتبدى من خلال كون القطبين نفسيهما نتاج تطور بطئ ومعقد للغاية للعناصر الجانبية. ولكن هذا لا يعني انهما يفهمان فقط من زاوية كونهما نتاج ذاك التطور، ذلك لأن وجود العناصر الجانبية المتناقضة بشكل خفي وجود نسبي تماماً وهذا يرتد الى انها تقوم على علاقة وجودية (أنطولوجية) عميقة مع القطبين المومى اليهما، والى أنها، من حيث مضمونها الميلي Tendentious الجوهري، تخص الواحد أو الاخر من القطبين، كما هو الحال مثلاً بالنسبة الى اللأدرية Agnosticism بموقعها من المادية والمثالية. فهذه، أي اللاأدرية تبدو ظاهرياً وكأنها تشكل قطاعاً خاصاً متميزاً عن المادية والمثالية. الا أنها، في حقيقة الأمر، ما هي الا نمو طبيعي للفكر الفلسفي المثالي. وظهورها كشيء مجانب-جانبي-للمادية والمثالية اللتين تشكلان القطبين المتميزين، لا يخفي حقيقتها القائمة على علاقة داخلية مع المثالية.


الفكر اليوناني الفلفسي والتطور الفلسفي اللاحق
ان انجلز حينما يقول (بأنه في الأشكال المتعددة للفسلفة اليونانية، توجد، مسبقاً تقريباً كل اساليب الرؤية اللاحقة بشكل بذري أولي) فان هذا لا ينبغي ان يفهم يمعنى أن التطور الأساسي للفكر النظري اقتصر على العصر اليوناني النهجي (الكلاسيكي)، وانه بالتالي سوف يظل هكذا، بحيث انه لن يجري انجاز شيء جوهري في هذا الاتجاه. ان رأياً مثل هذا يشبه ولا شك رأي يجل الصوفي، الذي يتوجب من خلاله على (العقل العالمي) ان يجد مرحلته القصوى في نظام هيجل الفلسفي نفسه. بالطبع، حين تعطى المسألة هذا الاطار الصوفي، فانها تكون قد افتقدت عنصراً جوهرياً، هو امكانية حلها حلاً متطابقاً مع معطيات التقدم العلمي والاجتماعي الانساني.
ونحن اذ أوردنا ما تقدم، فاننا لم نطمح بذلك الى أن نشير الى النوعيات الجديدة في الفلسفة لحديثة أو المعاصرة، بل أن المسألة تدور هنا حول اكتشاف وتعرية وعرض الجوانب الجديدة نوعياً في تطور الفكر الفلسفي لدى الفلاسفة الاسلاميين العرب، تقريباً من القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر، وخصوصاً بما يتعلق بالميل المادي في أنظمتهم الفلسفية. ومن خلال انجاز هذه المحاولة سوف نكتسب اليقين بأن الاستمرارية في التطور النظري الانساني بمجموعه لا تنفي ولا تستنفد اللااستمرارية النوعية الخاصة، المتمثلة بواححدة من فترات ذلك التطور. سوف نحاول ان نثبت، بدقة وثائقية، ووضوح نظري ما أمكن، على ان تينك اللحظتين أو المنحيين (اي الاستمرارية واللااستمرارية) في التطور النظري المعني يشكلان وحدة جدلية عميقة نسبية، لا يمكن بمعزل عنها فهم واستيعاب تاريخ الفلسفة في خطه العام وفي دقائقه وتفرداته فهماً واستيعاباً علميين عميقين.
ان تكون اساليب الرؤية الفلسفية اللاحقة على الفلسفة اليونانية قد وجدت تعبيرها الأولي مسبقاً في هذه الفلسفة، لا اطلاقاً القول بتطور مستقيم. ان التطور النظري الفكري، كأي تطور اخر، يتم منظوراً اليه من خلال ميله ومضمونه، ليس فقط كمياً، وانما ايضاً نوعياً. بيد ان خاصية التطور النظري الفكري الموغلة في لتجريد يمكن ان تثير الاعتقاد بأنها-بسبب الاستقلالية النسبية التي تتمتع بها تجاه الواقع الخارجي الموضوعي والتي اكتسبتها على مر الحقب التاريخية، كما وبسبب التأثير الملحوظ للتقليد المستمر داخل التطور النظري الفكري ذاك-تمثل بشكل جوهري استمرارية ذات منحى مستقيم. لكن هذا الرأي يبقى فاقد الأساس العلمي ومتعارضاً مع الوقائع التاريخية العيانية.
ان نتائج أبحاث في الحقول النظرية والتجريبية والاجتماعية السياسية والاقتصادية، وان كانت حتى الان قليلة، تقدم مادة كافية كبرهان واضح على وجود منعطفات نوعية في تاريخ الفكر النظري لدى الشعوب المختلفة، ومن ضمنها ولا شك، الشعوب العربية الاسلامية في العصر الوسيط.
ان هذه الرؤية المادية الجدلية لخاصية وطابع لتطور أو التقدم الفكري النظري تقف في تعارض حازم مع تلك التي ترى هذا التطور على انه تاريخ خطأ أو (ضلال) مليء بالمغزى. ان بتزولت (كتابه قضية العالم)، الذي ينطلق من من هذا الفهم لتاريخ الفكر، يرى الخطأ ذاك ممثلاً بمفهوم الجوهر. ونحن حيث نحاول تجنب طرح هذه المسألة بشكل جزئي مبتور، كما يفعل ممثلوا الرأيالسابق، بل نطمح الى طرحها تاريخياً عيانياً فاننا نجد ان قضايا نشوء وتطور الفكر النظري لدى اليونانيين القدماء ولدى العرب في العصر الوسيط وكذلك لتجارب الاجتماعية العملية بشكل عام تبين ان سلوك وتفكير الانسان الواقعيين، بالمعنى الأولي البدائي للمادية-والمتجهين نحو الأشياء وعلائقها استطاعا تأكيد وجودهما فقط حيث نشبت بينهما وبين العنصر الاسطوري المثالي، الاخذ بالتكور والتطور الى جانبهما، نزاعات وتناقضات ضرورية.

2- عنصران في تحديد العلاقة البدائية بين (المادية والمثالية)
هنا يتوجب الكشف عن عنصرين اساسيين، اساسيين انطلاقاً من العلاقة التاريخية الأولية الأصلية. أما العنصر الأول فانه يقوم على الرابطة الأولية البدائية بين (المادية) و(المثالية)، هذه الرابطة التي تأخذ شكل وطابع الأسطورة Myth. ان هذه الفرضية، كما سنرى في هذه الدراسة القصيرة حول الخطوات الأولى لنشوء الفكر المادي والفكر المثالي، سوف يكون الأخذ بها وتقبلها في خطوطها الأساسية العامة أكثر معقولية واقتراباً من الموقف العلمي من رفضها.
ففي البدء نجد رابطة اولية توحد نسبياً بين بذور الاتجاهين الفكريين المومى اليهما فوق. بيد انه من الضروري التأكيد على أن الحديث هنا يدور بالضبط حول البذور الجنينية للمادية والمثالية، وهذه البذور التي وجدت تعبيرها بشكل جوهري في الموقف (العملي المباشر) للانسان تلقاء العالم المادي وتلقاء ذاته هو نفسه. غير ان هذا ينبغي ان يفهم بمعنى انه لا يمكن التحدث هنا بعد عن تناقض متميز بين الميل المادي والاخر المثالي على الصعيد النظري Theoretic في تلك المرحلة التاريخية البدائية. الا انه يمكن، بل يمكن، بل يجب التحدث في هذا الاطار عن وجود حد أدنى من التفكير (النظري). ذلك لأن العامل اغلحاسم في عملية الانتقال أو الانفصال النهائية للكائن الانساني عن العالم الحيواني قد كمن في نشاطية وفعالية هذا الكائن المكتسبة اجتماعياً، والتي تبلورت في صنع واستعمال ادوات عمل وفي خلق وسيلة مشتركة للتفاهم، اي في تكوين لغة.
ان هذا تاريخياً، مفهوم بذاته، فعلى اساس المستوى البدائي للقوى المنتجة (الانسان نفسه وادوات العمل المستعملة ومنشاته وأماكنه وتوابعه) في تلك العهود، وكذلك انطلاقاً من سيطرة الملكية العامة للقوى المنتجة ولوسائل الاستهلاك، كان الناس انذاك قادرين على الابقاء على حياتهم فقط حيث كانوا ينتجون ويستهلكون بشكل جماعي. وقد اشترط هذا بطبيعة الأمر وجود لغة معينة مشتركة.
ان هذه الفعالية الانسانية الضرورية اطلاقاً والمزدوجة، اي الانتاج المادي والتفاهم اللغوي المشترك، كان يتوجب عليها ان تتضمن في نفس الان لحظة معينة من الوعيية Consciousness. ذلك لأن الوجود الواقعي لأناس ذلك العصر البدائي استطاع تحقيق ذاته، من حيث هو واقعي فعلاً، فقط ضمن اطار واتجاه محددين قائمين على قدرة اولئك الناس على استيعابهم وسيطرتهم على محيطهم Environment ذهنياً وعملياً بقدر ومستوى ضروريين.
وهكذا ففي الانسان، من حيث هو جوهر اجتماعي صانع للأدوات، يكمن بشكل ضروري وتلقائي حد أدنى من (التفكير النظري). وبهذا المعنى، وضمن هذا الاطار من فهم القضية نجد هذا (التفكير النظري) صفة فطرية خاصة بالانسان)، كما يقول فريدريك انجلز.
في وضع اجتماعي بدائي لا تنتج فيه، بشكل اساسي، قيم للتبادل والعرض وانما فقط قيم لاستعمال والاستهلاك، كحد أدنى لحفظ البقاء، يكون الوعي Consciousness (بالطبع وبالدرجة الأولى فقط وعياً للمحيط الحسي القريبnearest ووعياً للعلاقة البدائية مع اشخاص واشياء اخرى ما عدا مع الفرد الصائر على طريق وعي ذاته. كما يقول ماركس. ان الوعي الخاص بالضرورة المباشرة، اي وعي القطعان Herds ملتحم الى حد كبير بالعالم المادي المحيط والمباشر. نقول هنا (الى حد كبير) لنؤكد على أن ذلك الالتحام لم يكن (كلياً)، والا لامتنع القول بوجود (ذات انسانية) وموضوع مادي. كما أن الطبيعة والمجتمع لم يكونا في الاعتبار الأول بالنسبة الى الانسان، المتضمن ذلك الوعي القطيعي، الا شيئاً واحداً متجانسياً.
بهذا القدر وفي هذا الاتجاه كان ذلك لوعي وعياً موضوعياً Objective.
ذلك لأنه اكتسب وجوده، كما سبق وقيل، من خلال كونه وعياً للعلاقة البدائية مع ناس وأشياء اخرى ما عدا مع الفرد السلك طريق وعي ذاته. لكن موضوعية ذلك هي في الوقت نفسه نسبية Relative، وذلك لأن الوعي الانساني هو دائماً وفي مجموع الأحوال ذاتي Subjective. هذا يعني أن الناس، حتى في أوضاعهم الأكثر بدائية، لم يمارسوا وجودهم في هوية Identity مطلقة مع محيطهم، لذلك فالكل والجزء لم يستوعبا من قبلهم اطلاقاً كشيء اطلاقاً كشيء واحد، بل جرى التمييز بينهما بقدر ما.
ضمن هذا الاطار الضيق للوجود الضروري لحد أو قدر ما من الفعالية (التنظيرية) Theorize لدى الانسان البدائي، تنسم العنصر المادي (الواقعي) والعنصر المثالي (اللاواقعي أو الماورائي) خيوط وجودهما الأولي وتحركاً، ولكن، بعد، ليس في شكل تناقض متميز بوضوح ضمن ذلك الوعي.
هذا ما يخص العنصر الأول في قضيتنا. وهو يقوم كما تبين، على تحديد العلاقة الأولية، البدائية بين المادية والمثالية، التي تتحقق في (الاسطورة) ومن خلالها.

أما العنصر الثاني، فانه يستبين من خلال دياليكتيك الرؤية لتلك العلاقة البدائية الأصلية، وذلك على اساس من أن هذه العلاقة توجد في صيرورة وتحول دائمين، وأن ميل Tendency هذه الصيرورة وهذا التحول يقوم على عملية تشكل، ونمو قانوني Regular للعنصر المثالي من الطرف الاخر.
ولقد وضعت الفعالية العملية للانسان، أي العمل، الحجر الأساسي لنشوء الاسطورة، وفي نفس الوقت لانحلالها الى العنصر المادي (الواقعي) والعنصر المثالي (اللاواقعي أو الماورائي). والجدير بالملاحظة العميقة انه في عملية الانتاج Process of production ذاتها انبعث ذلك الفكر (النظري) البدائي، اي الاسطورة، وأكد ذاته. انه نشأ كرد فعل ذهني تلقائي على المثيرات الحسية المسببة عن العلاقات بين الانسان ومحيطه، هذه العلاقات التي يمكن مبعثها، هي بالتالي، في اعمال الانسان أدوات عمل بدائية، ذات افاق ضحلة، في محيطه الخارجي المحدود. ضمن هذا الحقل، وبهذا الحد استطاعت (الاسطورة) انجاز وظيفتها، التي قامت على التوجيه Orientation الضروري الهادف قليلاً او كثيراً للانسان تجاه الأشياء الخارجية المعطاة وعلائقها الموضوعية. وفي الحقيقة، استطاع الانسان كسب حياته المادية، حيث تمكن، ولو بالحد الأدنى، من تحويل لعالم الموضوعي الخارجي الى موضوع Object له، من حيث هو ذات Subject فعالة عملياً.
ومن خلال الفعل الواعي اكثر فأكثر والخاص بالانسان، هذا الفعل الذي يكتسب، من خلال استخدام ادوات العمل وبالتالي من خلال التأثير على العالم الخارجي، لا مباشرةً In-dir-ection تنحو باتجاه تعميق ذاتها اكثر فأكثر، من خلال ذلك الفعل يعيد الانسان ذهنياً تركيب ذلك العالم ثم يموضعه ثانيةً. ان هذه العملية، المنشطرة الى شقين والموحدة في نفس الوقت، تميزت بكون الانسان قد لجأ الى تمديد مقاييس وخصائص جسده ونفسه على المحيط الخارجي، وبكونه- في اتجاه معاكس- قد عمل على تمديد مقاييس وخصائص المحيط ذاك على نفسه، وقد فعل هذا بدافع من حاجاته الحياتية المادية المباشرة، التي لم يكن تحقيقها ممكناً الا من خلال اقتراب معمق من العالم المادي، اي من خلال النفاذ الى هذا العالم بقانونياته الخاصة، وتحويل ذلك الى موقف عملي منه (ساي من العالم).
هذه العملية الجدلية بين الانسان والعالم المحيط يه يمكن فهمها اذن على انها في نفس الوقت توضيع Objectification للانسان وتذييت Subjectification للعالم المادي المحيط او احياء له- بمعنى اضفاء الحياة الانسانية عليه-ز ولا شك أن هذا قد كان، ضمن الاطر التاريخية التي وجد فيها، عملية واقعية ايجابية ذات مضمون فكري، تكمن وظيفته، بشكل اساسي، في تمثل ذلك الموضوع ذهنياً والسيطرة عليه عملياً.

ان هــ.وهــ. ا. فرانكفورت، اللذين يستشهدان ب(كرولي) حيث يقول (ليس للانسان البدائي، الا اسلوب واحد للتفكير، واسلوب واحد للتعبير، واسلوب واحد للكلام-الاسلوب الشخصي) يفسران قوله هذا بتأكيدهما كما يلي: (وهذا ليس معناه (كما يحسب الكثيرون) أن الانسان البدائي، حين يحاول تفسير الظواهر الطبيعية، يغذق على عالم الجماد صفات انسانية. ان الانسان البدائي لا يعرف عالماً جماداً ابداً. ولهذا السبب عينه، لا (يشخص) ظواهر الجماد، ولا يملأ عالماً فارغاً بأشباح الموتى، كما تريدنا (الروحانية) ان نعتقد).
على هذا التفسير لقول كرولي السابق نرى ضرورة التعليق بما يلي:
1- من الضروري التمييز بين الاحيائية او الحياتية وبين الروحانية، ذلك لأن الأولى سادت الفترة الأولى من حياة الانسان، وهي العصر الحجري القديم. وفي هذه الفترة نشأ الشكل الأول للمجتمع الانساني، الممثل بمجتمع القطيع ونشأ معه الوعي الانساني البدائي، وعي القطيع او الوعي القطيعي. كان انسان ذلك العصر يرى في الظاهرات الطبيعية ينابيع قوة حية، فهو لم يضاعف هذه الظاهرات، اي ىانه لم يضف اليها قوى اخرى ماورائية وذات طبيعة روحية. انطلاقاً من هذا الواقع التاريخي تبرز حقيقة اساسية بالنسبة الينا، وهي ان وعي الانسان الأول سابق على الوعي الديني، اللاواقعي، وبالتالي الممهد للفكر المثالي اللاحق. بهذا نود القول، ان الانسان البدائي، المتوحش، لم يلجأ الى اغداق صفات ماورائية على الطبيعة المحيطة به، بل اغدق عليها الكثير من صفاته نفسه، بشكل استحالت فيه الى قوى انسانية حية يتعايش معها عبر الأدوات الحجرية البدائية.
2- ان ان هــ.وهــ. ا. فرانكفورت من خلال رأيهما بأن الانسان البدائي لا( يغدق على عالم الجماد صفات انسانية)، حين يحاول تفسير الظواهر الطبيعية، لا يدركان حقيقة العملية الجدلية التي تتم بين الانسان ذاك والظواهر الطبيعية المحيطة به. فمما لا سبيل للشك فيه أن وجود الانسان البدائي قد ارتبط بالضرورة بتلك العملية، التي كمنت في انسنة تلك الظواهر من قبله، اي في تحويل الطبيعة الى موضوع انساني، ولو بحدود دنيا. والا فوجوده ببساطة، كان عرضة للهلاك. لقد كان عليه ان يتاخى مع الطبيعة، أن ينظر اليها، من حيث هي عضوية شبيهة بعضويته. وبالطبع كان هذا، في الوقت الذي تم فيه من خلال الفعالية الأولية والمحدودة للانسان، تيحقق دون استيعاب ذهني (فهمي) قائم على استمرارية زمنية طويلة. وفي هذا المفترق من الطرق، نرى هذين الباحثين يتعرضان لمسألة الزمان والمكان في الذهنية الاسطورية، بشكل يسلب تأكيدهما السابق، حول عدم اغداق الانسان البدائي صفات انسانية على محيطه، صحته، وذلك حيث يكتبان: (والفكرة الميثوبية عن "الزمان"، كأختها عن "المكان" كيفية ومجسمة، لا كمية ومجردة. ان الفكر الميثوبي لا يعرف الزمان كبقاء متساوق، او كتعاقب لحظات متماثلة الكيفية. فالانمسان الأول... لم يعرف فكرة الزمن التي تشكل اطار التاريخ لنا).
طبيعي انه في الوقت الذي لم يعرف فيه الفكر ذاك "فكرة" الزمن التي تشكل اطار التاريخ لنا، فان تساوقاً ما، تساوقاً تاريخياً الى حدها كان لا بد من وجوده في الفكر المشار اليه هنا، بشكل يسمح للانسان البدائي مثلاً اتقاء الوحش الضاري، الذي راه سابقاً مرةً او اكثر من مرة. ان التجربة العملية اليومية للانسان هذا كانت تعمق باستمرار فهمه الزمني-التاريخي لمحيطه. اي ان ذاكرته وتذكره كانا ينموان بشكل متساوق مع نمو سيطرته على محيطه من خلال أدوات العمل البأولية، ومع نمو وتطور قدرته على التعبير الكلامي على ايجاد المفاهيم. فالذهن التاريخي الزمني، بغض النظر عن بدائيته وعن كونه لم يكتسب بعد طابعاً فكرياً متناسقاً، شكل لحظة ضرورية في تبصر الانسان الأولي البدائي (النظري) والسلوكي. وهكذا نرى، كما يلاحظ G.A. Gurew انه حتى ليفي شتراوس قال بوجود فكر منطقي في المجتمع البدائي الى جانب فكر سابق على المنطقية.
ولا شك أن فكراً منطقياً-بهذا نعني هنا الفكر الانساني البدائي الموجه لحفظ وتعميق عملية تبيؤ الانسان مع محيطه-يشترط وجود نوع ما من الاستبصار التاريخي الزمني لعلاقة الانسان البدائي مع محيطه، ووجود فعل قائم على انسنة الطبيعة من قبل الانسان، وبالتالي على اغداق واضفاء هذا الانسان صفاته الانسانية على الطبيعة. وهذا يعني ان تطور موقف المواجهة للانسان تلقاء الطبيعة من المباشرة النسبية الى اللامباشرة بمعنى ارتفاع الانسان على الطبيعة ذهنياً وعملياً-كان قد مر بمرحلة معينة، لم يستطع فيها الانسان البدائي التمييز بين الذاتي والموضوعي الا بحدود دنيا نسبية، اقتضتها طبيعة الفعالية العملية الحياتية للانسان تلقاء الطبيعة. تلك ضمن الحدود اسبغ، او بشكل ادق، توجب على الانسان ان يسبغ على الطبيعة صفاته الحية الانسانية.
مما سبق، يتبين ان الطبيعة Natute، وأدوات العمل، والفعالية الانسانية الهادفة بالضرورة والواعية نسبياً، قد مكنت مجتمعةً، من نشوء الاسطورة ومن صياغتها. لقد كتب ماركس، في حينه، في مخطوطاته الفلسفية الاقتصادية، ملقياً ضوءاً مكثفاً على العلاقة الضرورية الجدلية بين الانسان والطبيعة: (ان الطبيعة هي الجسد اللاعضوي للانسان، يعني الطبيعة بحدود كونها ليست هي نفسها جسماً انسانياً. ان يعيش الانسان من الطبيعة، يعني: ان الطبيعة هي جسده، الذي يجب ان يبقى معه في صراع مستمر، وذلك لكي لا يموت)، ثم يتابع قائلاً: (أن تكون الحياة العقلية والطبيعية متعلقة بالطبيعة، ليس له معنى اخر، سوى ان الطبيعة تتعلق بذاتها، حيث ان الانسان جزء من الطبيعة).

3- مرحلتان اساسيتان في التطور الاجتماعي للمجتمع البدائي وتأثيرهما على تطور الفكر الميثوبي-الأسطورة-
لا شك أن الكشف عن هذه العلاقة المتبادلة بين الانسان والطبيعة، في خطوطها العامة، ذو أهمية خاصة.
في البدء ينبغي الاشارة الى انه، من حيث الامكان، يكمن في تلك العلاقة عنصر لاعقلاني Irrationalistic. ذلك لأن هذا الامكان القابل للتحقق وجد ويوجد دائماً في اثناء عملية التعميم الفكري النظري وفي مجموع الفعالية الفكرية الانسانية. وبالطبع، لا يمكن اعتبار هذا العنصر اللاعقلاني فقط من حيث هو تعبير عن العجز العملي والذهني للانسان البدائي، وانما بالدرجة الأولى، من حيث هو نتاج مباشر لفعاليته الانتاجية النشيطة بهذا القدر أو ذاك، هذه الفعالية التي لا بد منها والتي تحدد بالتالي من خلال مستوى منخفض للتكنيك الموضوع تحت التصرف، كما من خلال خصائص العلاقات الاجتماعية القائمة على التملك العام البدائي.
ولقد تحددت ملامح الوعي الانساني البدائي Primitive وخصائصه العامة من خلال خلفيته الاجتماعية الاقتصادية والتكنيكية. بالطبع لا يجوز هنا فهم ذلك بمعنى (اشتقاق) الوعي ذاك من خلفيته المشار اليها اشتقاقاً ميكانيكياً، وذلك بالرغم من بدائية الوعي المعني هنا. ذلك لأن بينه وبين خلفيته تلك علاقة جدلية لا تنفي، بل تؤكد الوجود النوعي الخاص به ( اي بالوعي).
اما الوضع الاجتماعي الاقتصادي وهو ما يكون الخلفية تلك، فيمكن تحديد مضمونه الجوهري من خلال الواقع التاريخي الذي قام على كون جميع اعضاء المجموعات الانسانية البدائية قد توجب عليهم ان يمارسوا عملاً جسدياً، لكي يستطيعوا العيش. عن هذا الوضع، المتميز بالحاجة المادية المباشرة، ترتبت نتيجة هامة، وهي أن اولئك الأعضاء لم يتوفر لديهم، بشكل عام، وقت للتفكر في مسائل الوجود الجوهرية والكلية. وقد بقي هذا الحال سائداً على الأقل حتى تلاشى وتجووز اجداد القبائل Ancestry من قبل نظام الأجداد الرؤساء Chief ain ancestry. هنا، في هذا النظام الجديد، تكون تعارض (تناقض) ذو طابع نزاعي ضمن القوى الاجتماعية. وقد واكب هذا التعارض نشوء وتطور وجه ايديولوجي جديد نسبياً، أضعف من الوعي الجماعي الذي سيطر حتى ذلك الحين اضعافاً، ان لم يكن كلياً، فقد كان قوياً.
في المجتمع البدائي تدور المسألة اذاً حول فترتين اساسيتين من تطور العلاقات الاجتماعية والوضع الأيديولوجي. الفترة الأولى، وهي العصر الحجري القديم Paleolithic ، كانت تقوم على اقتصاد الضرورة، اي انتاج الحد الأدنى الضروري من القيم الاستهلاكية، دون انتاج بغاية التبادل. كما تميزت هذه الفترة التاريخية الأولى بسيطرة العمل الجماعي وشموليته. وقد امتدت حتى العصر الحجري الجديد Neolithic حيث تبدأ الفترة الثانية، اي حتى عام 4000 ق م تقريباً.
لقد كتب john lewis، متعرضاً للعصر الحجري القديم: (بأن ناس هذه الفترة قد طوروا التكنيك وفن المغائر الى درجة ملحوظة).
اما المرحلة الثانية التي تلت تلك فقد كانت مسرحاً لتحولات ذات شأن كبير ضمن بنية (الاتحاد العائلي البدائي) Matriarchy، هذه التحولات التي ارتبط نشوئها بنشوء ظواهر جديدة في الاقتصاد البدائي. فقد كان ظهور الزراعة، وتربية الدواجن من الصيد، وجمع الثمار البرية، وكذلك تحسين ادوات العمل التكنيكية طبقاً لتنامي درجة سيطرة الانسان على الطبيعة، وأخيراً تطور اشكال جديدة من تقسيم العمل-وأخص منها ظهور قبائل الرعاة على انقاض تقسيم العمل البدائي المرتبط بوجود الجماعة Community-كل هذا، مجتمعاً، ساهم في تشكل مجموعات اجتماعية معينة، سادت فيها علاقات اجتماعية ذات طابع نزاعي، وذلك الى جانب العلاقات الأخرى ذات الطابع المشاعي المتجانس. لأن ظهور قبائل الرعاة لم يكن قط تعبيراً عن تطور متنام للخيرات المادية والتكنيكية، وانما كان ايضاً الأساس العام من أجل ادخال التبادل في الخيرات المادية الاقتصادية، وبالتالي الطريقة للحصول على فائض معين في بعض المنتجات، مثل اللحم والدواجن. وفي ذلك الواقع الاجتماعي كمنت البدايات البسيطة للتطور اللاحق على اساس من الامتيازات الاجتمايعة والثقافية، التي اكتسبت من قبل الأباء الأولين (الأجدا والأسلاف) Ancestry. خلال ذلك نشأت نزاعات مختلفة عديدة بين هؤلاء الاباء. وقد احتل هؤلاء أكثر فأكثر الواقع الحاسمة ضمن جماعاتهم المتكونة من اتحاد عائلي واحد أو أكثر.
هذه هي بشكل عام الملامح الأساسية للعلاقات الاجتماعية البدائية التي يمكن فهمها-وذلك بالعلاقة مع فهم دقيق لمستوى القوى الانتاجية الخاصة بتلك العلاقات-من طرح قضية الاتجاه العام لتفسير علمي تاريخي لعالم أفكار World of thoughts الانسان المجتمعي القديم.

الاسطورة والسحر والطقس
لقد سبق وبينا انه من الأمور الواردة ان نعتبر الاسطورة اللحطة (النظرية) في الوعي الانساني البدائي. اننا نعني بهذا انه الى جانب الأسطورة قد وجد السحر Magic والطقس ضمن الوعي ذاك. لقد بحث George Thomson في كتابه حول (الفلاسفة الأول) اشكال وعي الانسان البدائي، فاعتبرت تصورات غير ناضجة حول الطبيعة. انه قصرها أولاً، على السحر (الذي توجب عليه من حيث هو انتاج وهمي، ان يعدل-يتجاوز-نواقص التكنيك Technics الواقعي، ومن طرف اخر على الأساطير...، التي كمنت بدايتها فقط في المرافقة الشفوية للسلوك السحري، هذه البدايات التي تطورت على نحو متدرج الى نظرية أولية Rudimentary حول الواقع).
لا شك انه وجدت علاقة متبادلة بين السحر والأسطورة والطقس في الشكل الذي يبرزه تومسون هنا. ولكن هل اقتصرت (الأسطورة) فعلاً على هذه المرافقة لشفوية؟ تاريخياً ونظرياً-معرفياً يمكن القول بأن الأسطورة نشأت كلحظة مؤولة في وعي ذلك الانسان، في الوقت الذي استطاع فيه هذه الأخير تأكيد نفسه، من حيث هو انسان فاعل يصنع ويستعمل، ويعيد صنع أدوات العمل. وعلى هذا الأساس قامت وظيفة الأيديولوجيا-والمعرفية الاجتماعية للأسطورة. أما هذه الوظيفة فيمكن تحديدها بالتوجيه الهادف المؤول، الضروري والبدائي للانسان بالنسبة الى محيطه الواقعي، اي بالنسبة الى موضوع Object وعملية Process الانتاج الذي يمارسه بدوافع حياتية مباشرة. وفي هذا الاطار من المسألة يمكن اعتبار الأسطورة جزءاً من عملية الانتاج، بيد انها لم تكن ملتحمةً به بشكل مطلق. اذ أن الاحاطة الأولية الضرورية بعملية الانتاج وبالواقع الطبيعي من قبل الانسان البدائي-بوعيه الميثوبي، الأسطوري-لا يمكن أن تتم اذا لم يرتفع هذا الانسان ذهنياً وبقدر ما على تلك العملية وذلك الواقع.
ونحن هنا نستطيع الافتراض بأن الأسطورة والحسر قد تطورا موازين لبعضهما، ومن خلال تأثير متبادل. والجزء المتكلم من الأسطورة كان له انعكاسه ووجوده الذهني في دماغ الانسان، ذلك لأن الكلمة أو اللغة بشكل عام (هي الواقع المباشر للفكر)، كما يقول كارل ماركس. اذن هناك عنصر (تأويلي) معين، يمكن الكشف عنه في أثناء بدايات تطور الأسطورة. كذلك السحر والطقس يمكن اعتبارهما ممارسة Practice الأسطورة. أما الأسطورة فنستطيع تحديدها من حيث هي الانعكاس (الفكري)، أو بشكل أدق، التوجيه الذهني الهادف للسحر والطقس تلقاء الواقع الطبيعي المحيط. ونحن اذ نتكلم عن (بداية) للفعالية الأسطورية لدى الانسان البدائي، فانما نفهم من خلال ذلك نشوء اتجاه، أو بدقة أكثر، نشوء ميل لتطور ذهني (نظري).
وقد تبلور هذا الميل بشكل خاص عبر عملية بطيئة قامت على انفصال الاسطورة عن عملية الانتاج المباشر، بحيث اكتسبت (أي الأسطورة)استقلالية معينة تلقاء السحر والطقس.

الاسطور في وحدتها وانشطارها
ان وضع القضية بالنسبة الى نشوء وتطور اللحظة المادية (الواقعية) واللحظة المثالية (اللاواقعية) يمكن له، في حال أخذنا ما سبق بعين الاعتبار، أن يوضح، انطلاقاً من مركبين من القضايا:
1- في المرحلة الأولى من تطور المجتمع البدائي (العصر الحجري القديم) تشكل الاسطور اسلوب نظر هادف، يتميز بالدرجة الأولى بكونه موحداً Unitary وليس منشطراً او متمايزاً. وقد اكتسب الانسان هذا الاسلوب من خلال محاولته الضرورية والدؤوبة الكشف عن (ذات) العالم الموضوعي، أي قانونيته، وبالتالي السيطرة عليه عن طريق انسنته. و(وحدة) اسلوب النظر الهادف ذاك هي نسبية، بمعنى انها لا تنفي أن تكون اساطير الانسان البدائي في المرحلة الأولى من تاريخه متعددة الأشكال والمضامين. فهي، في نسبيتها، قد عبرت عن الأسلوب Weise والميل ضمن الاسطورة للانفعال امام مؤثرات خارجية، كما للرد على هذه المؤثرات. وهكذا فانها (اي الأسطورة) تعبر عن اتجاه عملية استيعاب وفهم الواقع الموضوعي الطبيعي، أكثر مما تعبر عن نفسها كلحظة ذهنية مستقلة وعاكسة للواقع ذاك.
بيد أن (وحدة) اسلوب النظر الهادف ضمن الأسطورة اكتسبت مبررات وجودها الموضوعية من الواقع الاجتماعي، الذي ساد فترة التطور للمجتمع (اي العصر الحجري القديم)، هذه الفترة التي قامت بشكل عام وجوهري على اقتصاد الكفاف أو الحاجة المباشرة Economy of -dir-ect need، وبالتالي على ضرورة ممارسة عمل جماعي مشترك.
2- اما المركب الاخر من القضايا، الذي يلقي ضوءاً ساطعاً على نشوء وتطور اللحظة المادية والأخرى المثالية (الواقعية واللاواقعية)، فانه ينطلق من ايضاح الجذور الجذور البدائية للمسألة الأساسية للفلسفة Fundamental question of philosophy، هذه المسألة التي تعتبر الترسانة الأكثر حسماً في فهم التاريخ الفلسفي، لقد كتب فريدريك انجلز حول ذلك ما يلي: (ان مسألة علاقة الفكر بالكون، العقل بالطبيعة، لها جذرها بشكل لا يقل عن كل الأديان، في التصورات الجاهلية البدائية، الخاصة بحالة التوحش).
ان يكون للفكر الفلسفي جذوره، حسب انجلز، في هذه الفترة التاريخية الموغلة في القدم، يعني في رأينا أن نبحث عن هذه الجذور في (الأسطورة). ولقد كتب H ley مشيراً الى وجود مركبين متعارضين من حيث ميلهما ضمن الأسطورة.
ان كلا الحلين الأساسيين للمسألة الأساسية للفلسفة، المثالي والمادي، قد وجدا بذورهما الأولية في الأسطورة. وفي الوقت الذي وحدت بينهما الأسطورة، فان هذا التوحيد لم يكن مطلقاً. ان وحدة مطلقة لم توجد أبداً بينهما، اذ ان هذا غير قابل للتحقيق لا معرفياً ولا اجتماعياً. فالميل لتجاوز الوحدة تلك، من خلال انشطار وتمايز طبيعي وضروري كان قائماً في صلب الأسطورة. ذلك لأن (الوحدة) بدأت تكتسب وجودها، في الوقت الذي أخذت تفقد فيه باستمرار من وحدتها تلك لمصلحة تشكل ميل التناقض والتعارض ذاك وتعميقه. وفي الحقيقة، في هذا الميل تمركزت وتلبورت بذور فكر نظري فلسفي مستقبلي.
ان هذا يعني اذن أن (وحدة) الفكر الانساني البدائي، المتمثل بالاسطورة، احتوت في نفس الان انشطاراً بذرياً الى (اللاواقعي) المثالي و(الواقعي) المادي. بيد اننا حين نتحدث هنا عن ميل طبيعي وضروري ضمن الأسطورة لانشطارها، وبالتالي لتجاوز ذاتها، فاننا نرى أن هذا قد تم على مستوى الممارسة الاجتماعية الانتاجية أكثر مما قد تم على مستوى (النظرية). ولذا فانه لا يمكن، بعد، التحدث في اطار هذه المرحلة الانسانية عن فكر فلسفي.

التناقض بين شكل الاسطورة ومضمونها
اما الشكل الذي اكتسبه التطور الذهني للانسان البدائي، فقد وجد تعبيره في نزاعات غامضة بين المتحيين، الواقعي واللاواقعي ضمن الاسطورة. كما أن الاسطورة، التي تضمنت بذوراً أولية غامضة لعنصر فكري واقعي واخر لاواقعي، يمكن ان تظهر، من حيث الشكل الذي أخذته، غير حقيقية. وهذا ما نجده في أغلب الحالات. في هذا الصدد يكتب هــ. و هــ.أ. فرانكفورت في مدخلهما لكتاب (ما قبل الفلسفة) بأن الصورة الاسطورية في الأدب والفن (من تاج الخيال، ولكنها ليست مجرد وهم). ان هذا-ولا شك-صحيح. ذلك أنه ينبغي علينا أن نميز هنا، بقدر ما نستطيع من الدقة، شكل الاسطورة عن هدفها. فشكلها مرتبط، في ذهن البدائي، بقدرته على الارتفاع على الواقع الطبيعي والانفلات من علاقته المباشرة به، وبالتالي بامكاناته على التجريد الذهني. بيد أن التجريد هذا لا يعني تجريد الواقع الطبيعي الموضوعي بشكل منطقي وعقلي، بل الارتفاع عليه ارتفاعاً حسياً وهمياً ورمزياً، بحيث تظل علاقة محددة قائمة بين ذاك (الشكل) الاسطوري والواقع الطبيعي الموضوعي. أي أن الشكل الذي تأخذه الاسطورة ليس من الضروري أن يكون بينه وبين الواقع ذاك علاقة جوهرية. على العكس من هذا، نجد مثل هذه العلاقة الجوهرية سائدة بين مضون الاسطورة وهدفها وبين الواقع الطبيعي الموضوعي، في هذه الأغوار البعيدة السحيقة من التاريخ الفكري الانساني يمكننا، انطلاقاً مما سبق، رؤية واستجلاء التناقض النسبي الذي هيمن على العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، ولا يزال كذلك حتى الان.
بالاضافة الى ذلك، ينبغي الاشارة الى أن معياراً علمياً دقيقاً لحقيقة أو لعدم حقيقة اسطورة معينة لا يمكنه ان يكتفي بالانطلاق من مضمون وشكل الاسطورة تلك، بل أن الاجابة على السؤال حول كيفية تشكلها وتطورها وحول الظروف التي رافقت ذلك وساهمت فيه، لهو أمر لا بد منه في سبيل القاء ضوء ساطع على قضيتنا. أي أن هذا يشترط كشف وايضاح الدوافع، التي تكمن وراء عملية تكون الاسطورة. كما يشترط، من طرف اخر، تحديد واجلاء كيفية توجه الاسطورة للاستجابة والاجابة على المؤثرات الخارجية. فا (لماذا) وال(كيف) ينبغي اذاً الكشف عنهما في الاسطورة والتأكيد عليهما والتمييز بينهما.

علاقة الأسطورة بالواقع الطبيعي وعملية تلاشيها وتجاوزها
لقد طرح كارل ماركس في حينه الموضوعة التالية: (ان كل الاسطورية Mythologie تتغلب وتسيطر على القوى الطبيعية وتكيفها في الوهم ومن خلال الوهم: انها تتلاشى اذن مع السيطرة الحقيقية على هذه نفسها"اي القوى الطبيعية").
من هذه الموضوعة يمكن ابراز ناحيتين، الأولى تقوم على أن الأسطورة لها تاريخ، تاريخ خاص بها. اما الناحية الثانية فتكمن في كون الأسطورة ترفع ويجري تجاوزها، في الوقت الذي تتحول فيه سيطرة الانسان الحقيقية على الطبيعة المحيطة به الى واقع حي وواسع نسبياً. ولكن هل بامكاننا فهم هذا بمعنى أن الاسطورية تمثل شيئاً مفرغاً من اي انعكاس صحيح له؟ ان الاجابة عن هذا التساؤل باالايجاب تتضمن نتيجة لا يمكن فعلاً تبريرها والأخذ بها من وجهة نظر تاريخية معمقة. هذه النتيجة هي عدم اعترافنا للانسان البدائي بتملكه عنصراً ذهنياً (فكرياً) هادفاً، قي الحد الأدنى الضروري، الى سبر جوانب نحيطه الطبيعي واخضاعه لضرورات حياته الضرورية. ولكن انكاراً لمثل هذا التبيؤ (الفكري) الأولي والتلقائي للانسان تجاه الطبيعة المحيطة به يعني عملياً، وفي اخر تحليل، انقراض وتلاشي الانسان تحت ضغط الضرورة المعاشية اليومية، وذلك منذ (بداية) نشوئه. انه (الانسان البدائي) لم يتبيأ فقط تبيؤاً بيولوجياً، وانما ايضاً، وبشكل نسبي، تبيؤ فكري هادف واجتماعي. اذ انه بدأ يوجد، من حيث هو انسان، في الوقت الذي اخذ يمارس فيه عملاً يواسطة ادوات عمل بدائية، كالفأس الحجري أو الابرة العظمية.
ان فعالية الانسان العملية لهي فعالية متوسطة، فهي تتم بأدوات عمل ومن خلالها، ولكن ليس بشكل ميكانيكي. ذلك لأن استعمال وصنع ادوات عمل يتطلب من مستعملها ومستخدمها حداً ادنى معيناً من الهدفية الواعية، وهذا يشترط ضمناً وجود تطور ذهني (فكري) لدى الانسان.
فعملية العمل هي بشكل جوهري نشاطية هادفة مسبقاً، يقوم بها الانسان للالمام بموضوع عمله (اي الطبيعة) وأنسنته. وبذلك تقوم قدرته على استخدام وصنع ادوات عمل مرتبطة بمخطط ذهني (فكري) في دماغه، مخطط يسبق تحقيق هذه القدرة ويرافقها في نفس الان: ان (الفكري) يتحول الى (مادي). وهذا الأخير، الذي يمكن تسميته هنا ايضاً (بالذات). وهنا نجد انفسنا اما حقيقة هامة تكمن في أن سلوك الانسان البدائي وذهنه لم يكونا ابداً خاضعين لضرورة ميكانيكية مطلقة، بل كانا في مجموع مراحلهما يتمتعان بنصيب من الحرية تلقاء الواقع الطبيعي الموضوعي.
بيد انه على اساس هذه المعطيات وانطلاقاً منه انبثقت امكانية الانحراف عنها والتعالي عليها، بحيث بدا الأمر كما لو ان (الفكرة)، التي ينتجها دماغ الانسان ضمن تأثيرات عديدة معقدة، تسبق العالم المادي في الوجود، وتمنحه خصائصه الذاتية، المعبر عنها بـ(الروح) أو (النفس). فالطبيعة، حسب ذلك، ليست هي الوجود (الحقيقي) وليست هي اصل (ذاتها)، وانما الفكرة (عنها) هي التي تتمتع بذلك الوجود الحقيقي المحض، وهي بالتالي المبدعة للطبيعة.
ان واقع اقتصاد المجتمع البدائي القائمة على الكفاف والحاجة الأولية قد عبر عن نفسه بأشكال متعددة واقعية ولاواقعية في الاسطورة، التي اكتسبت الشكل الأولي لوعي الانسان البدائي، اي الشكل المتمتع بالحد الأدنى الضروري من (الوعيية). بهذا المعنى نجد الأسطورة قد اكتسبت طابعاً عمومياً، وذلك من حيث كونها قد جسدت اللحظة (النظرية) التشوفية في وعي مجموعة او عدة مجموعات انسانية بدائية. ان خلفية هذه (العمومية الاسطورية) يمكن تقصيها، حسب رأينا، في طابع عملية العمل، الذي انجزته تلك المجموعات الانسانية. فالطابع هذا كان عمومياً، اذ لم يكن بامكان الفرد تحقيق وجوده المادي الا من خلال نشاط مجموعته. لذا فان موضوع عملية العمل تلك، اي العالم الطبيعي الموضوعي، هو، اذا تكلمنا بلغة ماركس، (موضعة الحياة الجنسية "من الجنس، مفهوم يقابل النوع" للانسان). كما أن موضوع عملية العمل هو كذلك، من حيث كونه يستوعب ويتمثل من قبل الذات الانسانية العارفة والمموضعة. اما الحياة (الجنسية)، التي كونتها المجموعة الانسانية البدائية، فقد عبرت عن ذاتها من خلال الاسطورة الجنسية (الجماعية).
بيد أن عمومية أو جمايعة الاسطورة كانت قد تضمنت منذ بدء تكونها وتبلورها (اي الأسطورة) ميلاً كامناً للتمايز الذاتي، وبالتالي للانشطار الذاتي. ان سلوك الانسان البدائي قد حدد من خلال امكانات العمل الذي ينجزه. وكذلك (فكره) أكد نفسه أكثر فأكثر كمخطط واع لسلوكه، وكانعكاس فعال، بقدر ما، للعالم المحيط به. ان هذا يعني، في نهاية الأمر، ان كل اسطورة تتضمن، بشكل او اخر، شيئاً من الحقيقة. وما فن المغاور في العصر الحجري القديم الا برهان واضح على ذلك.

نتائج التقدم في التكنيك والأصوات الطبيعية والتجريد الذهني
ان الأبحاث التي قدمها بعض العلماء في مجالات العلوم المقارنة والواصفة الخاصة بالشعوب-العلوم الاثنوغرافية والاثنولوجية-ترى، بالتعاون بالتعاون مع نتائج أبحاث فلسفية أخرى، أهمية الدور الذي مارسه تطور وتمايز (الأصوات الطبيعية) لدى الانسان البدائي، هذه الأصوات التي خدمته كوسيلة للتفاهم. ولقد نشأت وتطورت هذه الأصوات ضمن ومن خلال عملية العمل، ولذا فانها تميزت نوعياً عن الأصوات الحيوانية، التي لا تربطها علاقة منطقية ما والخاوية من مضمون هادف (ذهنياً).
بالعلاقة مع تقدم تكنيك العمل ومع العمل الجماعي تطورت الأصوات الطبيعية وأكتسبت اشكالاً اكثر تمايزاً وخصباً. وقد تم هذا متاخياً مع تطور الميل للتعميم والتجريد الذهنيين في دماغ الانسان انطلاقاً من اشياء وعلائق طبيعية واجتماعية: ان نمو هذه القدرة لدى الانسان (اي التعميم والتجريد) ساهم بشكل اساسي وحاسم الى حد بعيد في تبلور وتطور الفكر الفلسفي المتميز في وقت لاحق (3)، وقد جسدت (الأسطورة) ذلك الميل واحتوته، وكانت هي بالتالي تعبيراً عنه.

تجاوز وهمي للعالم المادي، ومحاولة استيعابه نظرياً وعملياً
كما أن الميل هذا تضمن كلا اللحظتين، الواقعية واللاواقعية. وهاتان اللحظتان قادتاه بدورهما باتجاهين متعارضين. فالواحدة منهما، وهي (اللاواقعية)، انبعثت عن العجز النسبي للانسان البدائي تلقاء محيطه الطبيعي الموضوعي وتلقاء نفسه هو. اما اللحظة الأخرى فقد كانت تعبيراً عن الموقف الانساني الهادف واقعياً هذا الموقف المشترط وجوده حياتياً، كما كانت تعبيراً عن رد فعل الانسان على محيطه والتأثير عليه.
وقد عمقت اللحظة الأولى، اللاواقعية، وجودها من خلال منحها ينبوعها، الذي هو العجز، طابعاً نظرياً ناجزاً، وذلك من خلال لجوئها، في حال تعاملها مع الطبيعة، الى (قوى) ليست بذات وجود حقيقي مشخص. انها رأت في الظواهر الطبيعية، التي وقف الانسان عاجزاً تلقاءها قوىً وهمية، معتبرةً اياها المبدعة لتلك الظواهر. وهي، أي اللحظة اللاواقعية، اذ اخطت طريق تعمقها واكتسابها طابعاً متميزاً ومستقلاً عن اللحظة الواقعية، فانها ارست بذلك الحجر الأساسي للتطور اللاحق للفكر الفلسفي المثالي وللتصور الديني.
ان (روح) و(قوة) الشيء، حسب الفكر الفلسفي المثالي والتصور الديني، ليسا من هذا الشيء. فهو لا يتضمنهما بمعنى أنه أصلهما وينبوعهما، بل بمعنى أنهما يضفيان عليه وجوده الحقيقي، فهو ظل مشوه و(الروح) يتمتعان بوجود مستقل في (مكان ما) حيث يمارسان، من نا، تأثيراً على الشيء وعلائقه مع الأشياء الأخرى، هذا التأثير الذي يمتد حتى عملية الابداع من عدم مطلق.
بالطبع، لا يجوز للمرء أن يبالغ في تقدير البذور الأولى للتطور الفلسفي المثالي والوهمي، بيد انه منما لا شك فيه أن في هذه (البذور) قد كمنت اصول الأديان التي نشأت لاحقاً الى جانب المثالية الفلسفية ومن خلال فعل متبادل معها. ان الدينية Religiosity، التي استقت جذورها من العجز الانساني الموضوعي والذاتي، قد وقفت في تعارض متسع اكثر فأكثر مع مطامح الانسان الأولية في تحقيق سيطرة حقيقية لا وهمية على عالمه المادي المعطى وفي تحويل (أنسنة هذا العالم تحويلاً هادفاً. ولقد حمل هذا في أحشائه نتيجةً سلبية تلقاء عملية المعرفة، حيث أدى بها الى الشلل. لم يعد المرء يتكلم هنا عن (معرفة) حقيقية للعالم الحقيقي (المادي)، وانما عن عملية تهدف الى سلخ العالم هذا من (ماديته)، وذلك للتأثير على أحداثه وعلائقه لصالح رفع وهمي لعجز الفرد والمجموعة الانسانية البدائية (4).
ان كل هذه اللحظات قد احتضنت من قبل (الاسطورة)، بيد أن الميل الاخر المضاد، الميل الواقعي، وقف في تعارض متنام أكثر فأكثر وأعمق مع تلك اللحظات الناشئة عن العجز. وقد تم هذا الانطلاق من (عملية العمل) الانسانية اليومية وتحت تأثير متطلباتها. وحيث تم هذا، فانه اتخذ وجهةً واضحة المعالم، تمركزت في رؤية الانسان البدائي للعالم الخارجي ليس من حيث هو شريك ثان له، وليس من حيث هو ذات موجودةً خارجاً عنه، وانما-وهذا هو المهم-كتحقيق مباشر له (أي للعالم الخارجي).
ان هذه العلاقة العملية والوجودية (الأنطولوجية) بين الانسان والعالم الخارجي كانت في نفس الوقت المنطلق الأول المحول والترسانة الحقيقية-الأصلية-للتطور اللاحق الخاص بالاتجاه الفلسفي المادي وبالعلم عموماً.

هل تاريخ الفكر الفلسفي، احادي الجانب؟
اننا نستطيع، بناءاً على ما سبق، رفض الرأي القائم على أن تطور تاريخ الفكر النظري قد سار بشكل احادي، بمعنى أنه تاريخ لمفهوم اساسي واحد فقط، دون التكلم عن مفهوم اخر مضايف له. فالفيلسوف الألماني الوضعي J.patzoldt حاول أن (يقرب الى الافهام، على اساس من علم النفس، تاريخ التفكر بالعالم من حيث هو تاريخ ذو مغزى لضلالات (أخطاء)، وذلك بمعنى أنه (ذلك التاريخ) يلاحق ويتابع خطأً اصلياً منطقياً وتجريبياً موجوداً في مجموع لرؤى الفلسفيةالكونية تقريباً) ويتابع القول بأن المفكرين الذين جعلوا من ذلك لمفهوم، الذي يسميه بالجوهر Substance، المبدأ الأوحد والأشمل لنظمهم الفلسفية، لم يستطيعوا أن يستوعبوا كون هذا المبدأ غير مفهوم بذاته، لأنه يمكن تحديده والتعرف عليه فقط من خلال معالجته في علاقته العضوية مع غيره. وكذلك فالتفكير يبدأ حسب رأيه، مع نشوء وتطور التمايز والتعارض. وبما أن هذا حسب رأيه أيضاً، قد تحقق لأول مرة في تاريخ الفكر على اليد الفلاسفة الوضعيين Schuppe وAvenarius و mach فانه يدين مجموع التاريخ السابق على هؤلاء كتاريخ (ضلال أو خطأ ذي مغزى عميق) وقد كان من الممكن تجنب هذا الضلال، لو وجدت الشخصيات الفذة المؤهلة لانجاز ذلك.
على هذا النمط اللاتاريخي، وانطلاقاً من أحكام مسبقة، تعرض المسألة، ويحاول اكسابها طابع الموضوعية العلمية.
ونحن حين نفترض، بتسرلدت، أن الاتجاه المادي قد بقي الوحيد السائد في تاريخ الفكر الانساني حتى نشوء المذهب لوضعي، وأن العنصر (الفكري) أو (الروحي) بالتالي لم يتواجد مع الاتجاه ذاك كمفهوم متعارض معه، فاننا سوف نصل الى النتيجة الضرورية التالية، وهي أن كل الفترة التاريخية تلك تاريخ للفكر المادي الفلفسي فقط، القائم على الضلال والخطأ. بيد أن الأخذ بهذا الرأي والنظر الى التاريخ الفكري من هذا المنظور يشكل خطلاً مزدوجاً: فمن طرف، لأن الفكر الفلسفي المادي والمصالي، قد تشكل بالأصل انطلاقاً من (اسطورة) المجموعات الانسانة البدائية. وثانياً لأن (الفكري) أو اللحظة الفكرية نفسها في دماغ الانسان قد جرى تملكها وتفسيرها من هذين الميلين الفلسفيين الأصليين بدرجة ورؤية مختلفتين.
فاللحظة المادية في الميل المادي تضمنت، على هذا الشكل، اللحظة الروحية أو الفكرية مفهومةً ومأخوذةً من خلال رؤية واقعية.
من هذا المنطلق، يمكن أن يبدو الأمر كما لو كان وحدة مطلقة بين الوجود المادي والوجود لواعي نسبياً، أي بين الوجود المادي وانعكاسه (الوعيي) في دماغ الانسان البدائي. الا أن هذا الافتراض غير دقيق، ذلك لأنه في الوقت الذي كانت فيه هذه الوحدة المطلقة تفصح عن نفسها-وهي في الأصل من مخلفات فترة انتقال الحيوان الى انسان-، كانت ذات أهمية ثانوية، غير جوهرية. أما الأهمية الجوهرية فقد اكتسبتها، في هذه الحال، عملية انفصال الانسان عن الطبيعة وارتفاعه عليها. هذا يعني أن اللحظة الفكرية والمحيط المادي لم ينظر اليهما على أنهما الشيء نفسه، وأن اللحظة الفكرية بالتالي لم ينكر وجودها.
ان التثبت من وجود اللحظة الأخيرة تلك يعطينا اياه، كما رأينا، واقع الاسطورة البدائية ومضمون الأنظمة الفلسفية المادية لدى الفلاسفية الطبيعيين اليونان في التطور اللاحق. فهنا احتفظت اللحظة الفكرية (بخاصيتها) في اطار المادي (أي المحيط المادي)، وذلك كجزء (خاص) ضمن هذا المادي. انها استوعبت كقطاع خاص بـ(الحركة والحيوية) في العالم المادي. هذا الاتجاه في فهم القطاع الفكري شكل قاسماً مشتركاً بين وعي الانسان البدائي وبين الفكر الفلسفي للفلاسفة الطبيعيين اولئك، وعلى الأخص الذريين منهم.
ومن طرف اخر، نجد أن اللحظة الفكرية قد جرى تمثلها من قبل الاسطورة في المجموعات الانسانية البدائية ومن الاتجاه الفلسفي المثالي اللاحق بشكل لاواقعي، ماورائي. وقد تم هذا، في جوهر المسألة، على حساب المادي (المحيط المادي). من خلال ذلك، لم يستطع هذا الأخير أن يؤكد ذاته الا كمجال تمظهر للفكري.

ايهما أكثر قدميةً وأصالةً، الميل المادي أم الميل المثالي؟
والان، وبعد ما استعرضناه من امور، نرى السؤال التالي يفرض نفسه علينا بالحاح: أيهما تكون قبل، الميل المادي أم الميل المثالي؟ ان التوغل في جوهر القضية يظهر أن هذين الميلين لم يجتازا في نشوئهما تطوراً متساوياً متوازياً، بل تطوراً متمايزاً برز فيه الميل المادي قبل الاخر المثالي. وفي الحقيقة، هذا يعود الى أن الانسان (بدأ) يوجد كانسان، حيثما استطاع أن يحقق حداً أدنى لتمثل الأشياء وعلائقها المادية تمثلاً ذهنياً وبشكل (واقعي)، أي حينما استطاع تحقيق حد أدنى من التبيؤ العملي و(الذهني) مع محيطه المادي. واذا أخذنا بعين الاعتبار النتائج والانعكاسات الذهنية لعملية التبيؤ هذه في رأس الانسان البدائي، فربما ستظهر لنا غامضةً، اسرارية. بيد أن الدافع الى ذلك-وهنا تكمن العقدة-هو رد الفعل الانساني الهادف والواعي قليلاً أو كثيراً على المحيط المادي الخارجي، الذي يستثير، بالأصل، رد الفعل ذاك.
ان هذه المسألة تكتسب بعدها واطارها العلمي والفلسفي، حيثما تستوعب وتفهم بعلاقتها مع الواقع التاريخي التالي، وهو أنه مع نشوء الانسان كف رد الفعل الجسمي عن أن يكتسب لور الحاسم في عملية التبيؤ الانساني مع المحيط المادي الخارجي. فردود الفعل الأكثر بدائيةً وعفويةً (لانسان) عصر التوحش، لم يكن لها أن تبرز، من حيث هي ردود فعل انانية، دون هدفيةً واعية الى درجة ما. ذلك لأن (العفوية) في سلوك وذهنية البدائي كانت، مع تطوير وتحسين تكنيك العمل والأحرف الصوتية، ترتد شيئاً فشيئاً الى وراء. ولذا كانت عملية تعميق وتطوير (الهدفية الواعية) في سلوك وذهنية الانسان متلازمة عضوياص مع عملية تعميق الحرية الانسانية تجاه المحيط المادي، وبالتالي تجسيداً ذهنياً جدلياً حياً لمستوى وطابع التكنيك (الالات الخشبية والحجرية والعظمية الخ...) المستخدم من قبل الانسان البدائي.
هكذا نرى أن الفكر الفلسفي المادي يستمد وجوده الأصلي من الموقف الطبيعي الذي يجد الانسان نفسه مرغماً على اخذه تجاه العالم المادي المحيط. بالرغم من أن هذا الموقف، بحد ذاته، لا يؤدي الى تكوين فكر فلسفي متميز. بين أن ذلك الموقف الطبيعي كان ولا يزال احد الأسلحة الماضية في يد الفكر المادي ضج المثالية وضد (الغيبية) بكل اشكالها.
لذا فان معيار حقيقة السؤال: أيهما تكون قبل، الميل المادي أم الميل المثالي، يكمن في الاجابة على السؤال التالي: ما هي السمة الجوهرية للانسان، من حيث هو كذلك؟ ونحن نعلم، حسبما سبق، أن هذه السمة تكمن في كونه (أي الانسان) كائناً فعالاً عاملاً، في كونه يقف من العالم المادي موقفاً واقعياً Realistic من خلال تكنيك العمل. لقد كان على الانسان منذ (البدء) أن يعمل و(يفكر) واقعياً. بالطبع لا يجوز فهم هذا (البدء) بشكل لاتاريخي ولا جدلي. فأن يكون الانسان قد عمل وفكر منذ البدء واقعياً، لا يعني أن هذا يفهم بالضرورة على اساس الانعكاس الذهني للعمل الانساني الانتاجي، بل على اساس (الدافع) المحرك لفعل الانسان ولتفكيره. اما هذا الدافع المحرك فهو ضرورة التبيؤ الطبيعي بهدف حفظ واستمرار الحياة.
بيد أن ذلك يتضمن تناقضاً بين النظرية والممارسة، بين العمل المتحقق بدافع حياتي ضروري (التبيؤ الطبيعي الاجتماعي) وبين انعكاسه الذهني. والحقيقة، هذا التناقض يمكن فهمه وتبريره على اساس أن ليس هنالك اصلاً وحدة (هوية) مطلقة بين الفكر والممارسة العملية. ومن الضروري جداً أخذ ذلك التناقض بعين الاعتبار، اذا اردنا دراسة وتفحص (المادية) و(المثالية) في نشوئهما وتطورهما.

التمييز بين الهيمنة والتقدمية التاريخية، بين حقيقة الأسطورة ومشروعيتها التاريخية
الى جانب ذلك تظهر لنا دراسة ذلك التناقض أهمية لتمييز بين ناحيتين، الأولى هي (اليهمنة أو السيادة) والأخرى هي (التقدمية التاريخية). ففي اطار الممارسة العملية و(الفكر) كان الميل الواقعي ضد الأسطورة في ان واحد مهيمناً وتقدمياً، ذلك أنه قد ساهم، في اطار المكانات المعطاة، في توجيه الانسان البدائي الى عالمه المادي الحقيقي وليس الوهمي، وبالتالي في تطوير عملية المعرفة الانسانية. وبهذا المعنى، فقد كان (الميل ذاك)، اخذين بعين الاعتبار الاطار التاريخي الذي احتواه، في نفس الوقت صحيحاً معرفياً ومشروعاً من الناحية التاريخية والاجتماعية.
بيد أنه مع تعمق (وعي) العجز الانساني وتعمق انحراف الخيال Imagination والمعرفة عن الواقع الطبيعي والاجتماعي، أخذ الميل المادي يخسر من هيمنته أكثر فأكثر.
ان هذا الوضع الجديد انطلق في نموه في وقت أخذت فيه الأديان الأولى تتكون وتتبلور-تقريباً في المجموعات القبلية-. في هذه المرحلة نجد أن في طرفي النزاع: الميل المادي والميل المثالي، يبلغان مستوىً متعادلاً في الهيمنة والسيادة في المستوى الذهني (النظري). هنا تبرز مسألتان ينبغي التأكيد عليهما: 1- ان الممارسة الانتاجية المباشرة للانسان ظلت تشكل دعامةً اساسيةً وقويةً للميل المادي (الواقعي). 2- لم يتغير شيء جوهري بخصوص (حقيقة) الميل المثالي. فقد بقي هذا انعكاساً وهمياً للعالم المادي، بالرغم من أنه ظل مشروعاً، من حيث الاطار التاريخي.
كما يبرز لنا هذا حقيقةً أخرى، وهي أن طرفي النزاع المشار اليهما، منظوراً اليهما بالنسبة الى نزاعهما على المستوى النظري والعملي، لم يتعادلا. ذلك لأن الميل المادي (الواقعي) احتفظ، بشكل عام، بالهيمنة والتقدمية في توجيه الانسان البدائي.
من هنا نستطيع اكتشاف خطأ الرأي القائل بأن الميل المادي والمثالي (اللاواقعي) كانا متحدين بشكل وثيق في الأسطورة، بحيث ينتفي حينئذ القول بوجود تمايز معين بينهما(5).
ان فهماً تاريخياً جدلياً للأسطورة يتنافى مع النظر الى تاريخها من حيث هو تاريخ أوهام وضلالات ذهنية بدائية ومن حيث هو بعيد عن عملية نمو حقيقي معقد للمعرفة الانسانية(6).

وجود العالم المادي الموضوعي وانعكاسه الواعي وعوامل تكون هذا الانعكاس.
في مجمل تاريخ الاسطورة تكونت لدى الناس البدائيين، وان كان بشكل غامض ومن خلال الموقف العملي اليومي المباشر، حقيقة جوهرية، هي أن للأشياء الطبيعية، كالأشجار والأحجار والماء والمطر، التي لهم (للناس) بها علاقة يومية مباشرة وجودها المستقل عن وجودهم وخارجاً عنه. بالطبع، اذا كانت هذه الحقيقة غامضة لدى اولئك الناس البدائيين، وان تكن قد برزت لديهم بشكل اساسي من خلال ممارستهم العملية اليومية التلقائية والبسيطة، فان هذا لا يؤدي الى انكار وجودها.
لقد ساهم في ابراز وترسيخ تلك الحقيقة في ذهن انسان المجموعات البدائية عاملان اساسيان، هما الممارسة الانتاجية اليومية، وظاهرة الموت. فالانسان ذاك كان متوجباً عليه (كما هو الحال ايضاً بالنسبة للانسان المعاصر وكما سيبقى الأمر هذا في المستقبل) بضرورة طبيعية أن ينفذ الى العالم المادي المحيط بكثير أو قليل من العمق والدقة. كان يتوجب عليه أن يرتبط فيه بشكل أو اخر، ان يتملكه ويحوله بقدر ما الى ينبوع لحياته المحدودة. بيد أن ذلك العالم المادي لم يكن عديم المقاومة تلقاء السلاح (أي أدوات العمل) المشهر في وجهه من قبل الانسان البدائي.
لقد كان على الانسان أن يكشف أبعاد هذا العالم، أي (قانونيته الخاصة)، من خلال عملية طويلة ومعقدة. على هذا الطريق الشائك كانت أدوات العمل، الاخذة بالتطور كماً وكيفاً، وقدرة التفكير المتنامية شيئاً فشيئاً تشكلان المحرك الأساسي.
في مجرى هذه العملية دخل في ذهنية الانسان البدائي تحول جديد، كمن في الانتقال من مفهوم المحيط Environment الى مفهوم العالم World، وذلك لأن الانسان هذا تجاوز الأفق الضيق المحدد من خلال بنية مجموعته البشرية الموجود بينها، والتي بدورها ذات افق محدد: فمجموعته البشرية هذه، التي كونت محيط كل عضو فيها، تضمنت اتجاه تحولها الى مجموعة مؤلفة من عدة عشائر، وذلك بالعلاقة مع عملية التحول والتطور الاقتصادي، التي طرأت على المجتمع الاقتصادي.
اما ظاهرة الموت فقد ساهمت في تكوين وتعميق الحس بموضوعية العالم المادي الخارجي في ذهن الانسان البدائي، حيث كان هذا الأخير مضطراً-بطبيعة حياته اليومية-الى المقارنة المباشرة والموازنة الحسية بين ظاهرتين، هما الموضوع غير المتحرك والجامد (الذي لا يتلاشى ولا يذهب هباءاً) من طرف أول، والقوة، أو الروح التي تدخل مع الموت في حالة سكون وانعدام من طرف اخر. وبالرغم من أن افراد المجموعات البدائية كانوا ملتصقين بالمحيط المادي المعطى التصاقاً قوياً وعلى نحو مباشر، فان ذلك لم يؤد بهم الى اعتبار وجود المحيط مرهوناً بوجودهم.
ان فهم هذا ينطلق، كما اسلفنا، من مبررات وشروط عملية. فالتقاطب بين الوعي والعالم، الذي تبلور وتطور الى جانب ومن خلال نشوء وتطور تقسيم العمل الانساني الى واحد فكري واخر يدوي (جسدي) في المجتمع الجديد الطبقي، لم يصبح بامكانه تجاوز الوضع السابق (اي الاقرار العملي، والذهني المباشر بموضوعية العالم الخارجي) الا حيث فصلت الفعالية الذهنية الفكرية عن الفعالية العملية المباشرة. وبطبيعة الحال، فقد كان ذلك (التقاطب) خطوة هامة وضرورية على طريق التوصل الى (المفهوم المجرد) عن العالم المادي. كما أن (القوى)، التي اعتبرت (أرواح) الظاهرات الطبيعية، نظر اليها باعتبارها ذاتية هذه الظاهرات. فالروح، بهذا المعنى، اكتسبت اطاراً مادياً طبيعياً، بحيث اعتبرت جزءاً من العالم المادي: انها (احيائية) بدائية، ولكن ضمن حس ورؤية واقعيين (ماديين).
ان هذا التصور الأولي حول ترويح (من الروح) شامل للظاهرات الطبيعية لدى الانسان البدائي يمكن أخذها على أنها الأصل السحيق للمبدأ العلمي الخاص (بالحركة الذاتية) لهذه الظاهرات. وهذا على الرغم من الصورة (الأسطورية) التي اكتسبها ذلك التصور البدائي.
.....
ان الميل الواقعي (المادي) أكثر اصالةً وقدماً من الميل اللاواقعي (المثالي) في التاريخ الفكري الانساني، وذلك باعتبار أن نشاطية الانتاج للانسان الاجتماعي تنفي، في الأصل، كل انحراف لاواقعي، ومن طرف اخر باعتبار أن الدوافع والبواعث المباشرة لهذه النشاطية تمارس في دماغ الانسان البدائي توجيهاً واقعياً.
وبطبيعة الحال، فنحن حين تكلمنا عن ميل (مادي) ضمن الأسطورة البدائية، فاننا لا نعني بذلك سوى الأصل الطبيعي لما سوف ينشأ لاحقاً من اتجاه (فلسفي) خاص ومتميز.
ان هوية، أو وحدة مطلقة بين الوعي الانساني والعالم المادي لم توجد، ولم يكن لها أن توجد. وانه، في الحقيقة، لخطأ فاحش ان ننطلق من أن الانسان، حتى في أدنى مراحل تطوره (لم يعرف اي تناقض بين نفسه وبين محيطه الطبيعي) (7).
لا شك أن الانسان البدائي قد تعرف على العالم المادي المحيط وتلمسه في حياته المباشرة كعالم واحد. ولكن الكثرة، كثرة الظاهرات في العالم هذا، انعكست ايضاً في التفهم العملي للانسان ذاك. اما حقيقة هذا القول، فانها تكمن في الموقف العملي الواقعي للانسان تجاه عالمه الخارجي المحيط. ذلك لأن (المباشرة) الخاصة بوعيه بالنسبة الى العالم الخارجي ذاك هي، في نفس الان، تذييت-من الذات-، وتوضيع-من الموضوع-له، أي لوعيه، وليس الواحد دون الاخر، اي ليس تذييتاً دون توضيع، والعكس.
اما العام والمفرد Individual، والوحدة والكثرة، والهوية والتناقض، فان هذه جميعاً قد اكتسبت ترسانات اصلية (أولية) في الوعي الانساني، وذلك من خلال وحدة عميقة كثيراً أو قليلاً تجمع بين الواحدة والأخرى. وبالطبع، هذه الحقيقة لا تفقد شيئاً من واقعها ومفعولها حين نعلم أن التطور النظري المعرفي اللاحق قد نحا باتجاه تعميق فعالية التعميم والتجريد لدى الانسان.
ولقد فهم وعومل العالم المادي كشيء جسمي. اما الذهني (الوضع الذهني) فقد تملك خاصيته في نظر الانسان في الجسمي نفسه. ولذلك نستطيع الافتراض بأن التقسيم الدقيق اللاحق للعالم أو الوجود- الى (مادي) والى (فكري) قد اكتسب اصوله الأولية من الواقع ذاك البدائي (8).
ان الانسان البدائي قد استوعب العالم المادي في عموميته (المحسوسة). ولقد تضمنت عملية الاستيعاب هذه اتجاهاً للتجريد. وهو (أي الانسان) قد تعلم، ببطئ ومدفوعاً من حاجاته الحياتية الأولية، ان استنبات وتعميق عملية التجريد الذهني من العوامل الجوهرية لحفظ وتطوير نفسه.
..........
ونحن اذ حاولنا، فيما سبق، معالجة العلاقة بين الواقعية (المادية) والأسطورة من جهة، واللاواقعية (المثالية) من جهة أخرى لدى المجموعات الانسانية البدائية، فاننا نرى نفسنا قد توصلنا، على ضوء ذلك، الى نتيجة اساسية تتعلق بالتصور حول (المادة) أو العالم المادي لدى المجموعات تلك. ان هذه النتيجة تقوم على التصور Notion ذاك في وعي الانسان البدائي لم يتعد حسية هذا الوعي وعيانية الظواهر المادية. ان هذا التصور، الذي لبى وعكس المتطلبات الحيوية لكفاح الانسان مع الطبيعة، حقق، مع نشوء وتطور اتحاد جديد من قبائل عدة، قفزة جديدة هامة كمنت في التحول من (تصور المحيط) الى (تصور العالم).
اما معرفة (العام) في تجريده فلم تجتز انذاك الا تطوراً ضئيلاً. وقد كان على الوحدة (الهوية) الأصلية النسبية بين الانسان والعالم الخارجي ان ترغم شيئاً فشيئاً على التراجع، وبالتالي على السماح للانشطار والتناقض بالبروز بشكل أعمق. ونحن نرى من وراء ذلك عاملين، هما تطور مستوى شروط العمل الانساني، وتطور وتكامل القدرة على التفكير المجرد. وبالطبع، فكما اننا غير قادرين ابداً على التكلم عن وحدة (مطلقة) بين الانسان والعالم المادي، فاننا ايضاً غير قادرين ابداً على التكلم عن (ثنائية) مطلقة) بين الانسان والعالم المادي.
واذاً فقد توجب انقضاء فترات تاريخية كاملة، حتى استطاع الانسان رؤية العالم ذاك واستيعابه بشكل مفهومي واع في تناقضاته الحقيقية ووحدته المجردة.
وأخيراً نرى من الضروري الاشارة الى أن البحث عن اصول أولية للفكر المادي والمثالي في (اسطورة) الانسان البدائي لا يعني اننا نجد ذلك الفكر في هذه الأسطورة. ذلك لأن تفكيراً فلسفياً أخذ في التكون والتطور، حيث انقسم العمل الانساني الى واحد فكري واخر يدوي _جسدي) في المجتمع الطبقي الجديد، الذي قام على انقاض المجموعات الانسانية البدائية.
اما الذي استطعنا تقصيه في (الأسطورة) تلك ورسم ملامحه الأولى البعيدة، فهو فترة ما قبل تاريخ الفكر الفلسفي المتميز والنظم.

(1) قد يبدو من نافلة القول أن نشير الى أننا هنا نستخدم ونبحث هذين المفهومين المثالية والمادية، من حيث هما مفهومان (فلسفيان أنطولوجيان)، وليس من حيث دلالتهما الأخلاقية، هذا بالرغم من أنهما كمفهومين فلسفيين انطولوجيين، يتضمن في اثنائهما نتائج أخلاقية نظرية وموقفاً اخلاقياً عملياً.
(2) Teleologisch ان هيغل يقول بهذه الغائية القبلية الميتافيزيقية، فهو يقرر: (نحن يجب علينا أن نبحث في التاريخ عن هدف عام، عن هدف نهائي للعالم).
(3) ان الانسان (يرسم حيواناً، وهو بهذا يكون ملاحظاتاته حول هذا الحيوان، انه يعيد تركيب شكله دائماً بثقة أكبر، انه يعطي معرفته المنبثقة عن هذا الشكل صورة محددة، وبذلك يثبتها، وفي نفس الوقت يتعلم التعميم: ففي شكل وعل واحد تستجمع الخصائص "من قبل الانسان"، التي روقبت لدى وعول كثيرة)
من كتاب تاريخ عام للفن، لايبزغ، 1965
(4) ان تصور أفلاطون، الفيلسوف المثالي الكبير، عن المعرفة كـ(تذكر) يمنح عملية (سلخ العالم) تلك، وضوحاً نظرياً بارزاً. وبالطبع لم يتحقق هذا الا بعد نشوء (الفلسفة) بالمعنى المتميز
(5) في هذا الاتجاه يكتب مثلاً روجيه جارودي: (في عصر لم توجد فيه العبودية بعد ومعها تقسيم المجتمع الى طبقات متعادية لا يزال الدين والعلم، المثالية ولمادية ملتحمين في الأطسورة، ولا يوجدان بعد في تناقض مع بعضهما).
(6) ان اللاعقلاني الفرنسي (غوستاف لوبون) يرى التطور التاريخي عبارة عن تطور (الوجدية الوهمية)، بحيث يطرح كل عنصر عقلاني في التاريخ جانباً. انه يكتب: (وتقوم الوجدية على لخضوع لأوهام بالغة من القوة ما تنفلت معه من سلطان العقل، وتاريخ البشرية هو تاريخ هذه الأوهام على الخصوص، وتنمو الأمة اذا ما حازت أوهاماً دينية أو سياسية قادرة على تحريك جهودها) غوستاف لوبون: فلسفة التاريخ.
(7) ارثر دروس، تاريخ الأحادية في العصر القديم.
(8) قارن هذا بكتاب س.لوريا: بدايات فكر يوناني، دار نشر الأكاديمية، برلين 1963.