هذا الحراك المدني


سعد محمد رحيم
2015 / 8 / 11 - 09:37     

وعود كبيرة، وردية، انطوت عليها العملية السياسية المنطلقة بعد ربيع العام 2003.. بدا وكأن الأجيال المحبطة بفعل الاستبداد والحروب ستُمسك أخيراً بأذيال أحلامها، وستسمع أجراس السلام والحرية تُقرع في آناء لياليها القلقة، وأطراف نهاراتها الغبراء الكئيبة، لتشرق على حيواتها شمس جديدة، نظيفة. وعندها كنا سنتحدث عن دولة المواطنة والمؤسسات، وعن مجتمع المعرفة والإنتاج والوفرة، الحامل لمسؤولية التنمية والبناء والإبداع والتقدّم.. غير أن الصورة، في الواقع، كانت مغايرة تماماً، سيئة إلى حد بعيد، لاسيما بعد تسمم الجسم السياسي العراقي بجرثومتي العنف والفساد. حتى أن بعضهم رأى العلّة في الديمقراطية نفسها.. الديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً قائماً على مبادئ الانتخاب الحر، والتمثيل النيابي، وتداول السلطة، والحريات العامة، وحقوق الإنسان، الخ.. وكانت هذه علامة خسارة أخرى، مضافة. فإن يتلاشى الإيمان بالديمقراطية، ويتمنى قسم من الناس في هذا البلد انبثاق نظام ديكتاتوري يضيّق حدود الحياة للمحافظة على الأمن ليس إلا ( والأمان مطلب عزيز لا شك )، نكون قد أهدرنا فرصة في التاريخ، لا تعوّض بيُسر.
ولدت العملية السياسية عرجاء، تعاني من مواطن قصور غاية في الخطورة ولهذا كانت العثرات التي واجهتها لا تعد ولا تحصى. وقد نلقي اللوم في هذا بنسبة معينة على قوى خارجية لم ترد لهذه التجربة ان تنجح. لكن علينا الاعتراف بأن أعداء الديمقراطية الرئيسيين هم في الداخل، وأغلبهم ممن ركبوا موجتها، أو تسللوا من ثغراتها الكثيرة ليفتكوا لا بالتجربة وحدها، بل بالبلاد. وأعداء الداخل، ونحن نتحدث عن العملية السياسية، يكونون أشد وبالاً من أعداء الخارج لأنهم يشلّون حركة الدولة من حيث لا نحتسب.
وإذن، ليست مشكلة الواقع السياسي العراقي، في الأشخاص المتبوئين للمناصب الحساسة في الدولة وحدهم.. إنها بنيوية.. إن بنية الدولة العراقية الحالية هي التي تسمح ببروز مثل أولئك الأشخاص الذين إن أزيحوا سيأتي من يشبههم أو من هم ألعن منهم ليحلّوا محلهم. هذا فيما إذا ظلت البنية ذاتها قائمة من غير تغيير جوهري. من هنا تتطلب الإصلاحات في هيكلية الحكومة وآليات عملها إصلاحات جذرية في قواعد العملية السياسية ذاتها؛ تغييرات في بنود الدستور المملوء بالثغرات، وبالقوانين التي لم تعد تلائم المرحلة الحالية وتحولاتها، ناهيك عن الفراغ القانوني المريع الذي يعطل جزءاً حيوياً من مشروع الدولة العراقية الديمقراطية ( مع التحفظ على اصطلاح الدولة الديمقراطية في هذا السياق ). وقبل هذا وذاك في المبدأ السيئ الصيت الذي وضعته إدارة الاحتلال ورجلها السيئ الصيت بريمر.. المبدأ الذي مثّل جرثومة الخراب في الجسم السياسي العراقي، وأعني؛ المحاصصة بأشكالها القاتلة كافة ( طائفية، عرقية، عشائرية، حزبية، مناطقية، الخ.. ). فالمحاصصة أنعشت مافيات سياسية تخفّت وراء أقنعة الدين والطائفة والعشيرة والحزب، لتحقق مصالح فردية أوجهوية/ فئوية ضيقة.. ففي النتيجة لم يستفد أبناء الطائفة أو العشيرة أو المنتمون للملل والنحل المختلفة، وإنما المتاجرون بآلام الناس ومعاناتهم وتضحياتهم.
كان واحد من أسباب تلكؤ الممارسة الديمقراطية في العراق هو ضعف الحراك المدني الذي يؤدي دوراً نقدياً رقابياً واضحاً على الأرض، ينبه إلى وجود مواضع الخلل والفساد، ويساعد في ترسيخ أركان الدولة المدنية.
يعد الحراك المدني أحد أهم تجليات الممارسة الديمقراطية. فلا ديمقراطية حقيقية من غير ذلك الحراك.. إنه صمّام الأمان الذي يُبقي الديمقراطية فعالة وعلى السكة الصحيحة. ويُخرج الجسم السياسي من حالة الخدر والوهن واللا فاعلية. وهو دالة على عافية الدولة ومستوى عصريتها.. وفي حالتنا العراقية يقف الحراك المدني على الطرف النقيض من النزعة الطائفية المسيِّسة للدين، وأي نقطة نجاح لصالحه لابد من أن تؤشر نقطة تراجع لتلك النزعة الهدّامة. وفي ضمن هذه المعادلة المتحركة باتجاهها الآنف الذكر يمكننا تأكيد ديمقراطية الممارسات السياسية وتحديث مؤسسات الدولة وآليات عملها، وضمان أن تكون عادلة ومنتجة.
نحن لا نمتلك، بسبب حكم العسكريتاريا الطويل، ميراثاً رصيناً من تقاليد الحراك المدني المستقل خارج أطر عمل الأحزاب السياسية. ولذا فإن الخبرة المتراكمة، عندنا، بهذا الصدد، متواضعة إلى حد ما. غير أن تجارب الحراك المدني، منذ 2011، في دول أخرى، في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في مصر، وما حصل فيها من انتفاضات وثورات أفرزت دروساً وعبراً، أصبحت رافداً يغذي الوعي المديني ويمنحه جرعة من الثقة ليسلك على وفق قواعد تجنبه أكبر قدر ممكن من احتمالات الوقوع في الأخطاء. فيما كان الحراك المدني العراقي ذاته على الرغم من تشرذمه نسبياً في جزر منفصلة يكتسب خبرات جديدة، ليجد في مناسبات ومنها هذا الذي يحدث الآن، نوعاً من التنسيق، والتناغم في الأداء.. الأداء الذي طابعه سلمي، ونسغه الانضباط العالي في السلوك. فالحراك اليوم، مثلما يسعنا القول، مدني بامتياز، ومستقل في أغلب مفاصله، ومؤثر أكثر من أي وقت مضى. وتأثيره متأتٍ من عاملين؛ الأول ذاتي يتعلق بشكل فاعليته وشعاراته، والثاني موضوعي يتعلق بتوقيته، أي بنضج شروط انطلاقه القوي، وهو ما يجعله يجد صدى إعلامياً ملموساً، وتعاطفاً من الجمهور العريض ليس بالمستطاع إنكاره.
أما ما هي الرهانات الضامنة لنجاح هذا الحراك واستمراره، وتوسيع دائرته ومديات تأثيره.. شخصياً أراها في:
1ـ الحفاظ على سلميته أولاً. فأي جنوح نحو ممارسة العنف وتخريب الممتلكات الخاصة والعامة لن يقضي على طابعه المدني وحسب، وإنما سيتسبب بفوضى عارمة، يصعب السيطرة عليها.. فوضى ستضع الوطن برمته على حافة الهاوية إن لم تدفعه إليها.
2ـ الحذر من احتسابه على أي جهة أو مؤسسة سياسية أو دينية أو اجتماعية. فالبعد الوطني المستقل هو الذي يجعله ذا جاذبية شعبية، ويمنحه قوة الديمومة والفاعلية.
3ـ أن تكون أهدافه واضحة ملموسة، قريبة من الضمير الشعبي مع توسيع أفق هذه الأهداف، وعدم اقتصارها على المطالب الخدمية.. ذلك أن العلة في الوضع السياسي العراقي، كما نوّهنا، ليس في الأشخاص وإنما في البنى، ولابد من إحداث تغيير في هذه البنى لتعزيز أسس الدولة؛ الديمقراطية، المدنية، الحديثة.
4ـ توسيع أفق الأهداف يجب أن يظل في حدود الممكن والمتاح، ولا يطلب المستحيل، ولا يستعجل تحقيق كل شيء في زمن قصير، لئلا يصاب القائمون عليه باليأس والإحباط.
5ـ من هنا لابد من أن يتواصل الحراك بأشكال مختلفة، ويتمأسس، ولا يقتصر في أدائه على التظاهر والاعتصام فقط، ويفرز قيادات مسؤولة، ويُدعم بزخم ثقافي إعلامي كبير، ومتعدد القنوات. ويكون جزءاً، حتى بعد تحقيق المطالب أو أغلبها، من المنظومة المجتمعية التي تنهض بالبلاد، تنقذها من حالة الانحطاط، وتدخلها القرن الحادي والعشرين.