الإسلام البدوي و العقل التراثي


محمد فيصل يغان
2015 / 8 / 9 - 21:58     

من مسألة الهوية تتفرع مسألة العقل و مفهومه، التراث و الفكر الحديث نقيضان يشكلان العقل العربي الجماعي على كل المستويات، الأيديولوجيا، الفكر، العمل. و هما في حالة اشتباك جدلي من المفترض فيه أن ينتج حالة جديدة و تناقض جديد على مسار التطور. حضور النقيضين و تفاعلهما هو سر التقدم و قانون التطور في التاريخ، و الفكر الجدلي مشتق من هذا الواقع التاريخي. أما في العقل التراثي، و نقصد دوما العقل الجماعي، فالنزعة التراثية الرسمية للعقل الجماعي العربي قادرة بنفوذها على قمع مظاهر الحداثة على مستوى العقول الفردية، و نتيجة الاستبداد الفكري هذا تستجدي المحاولات الحداثية موافقة الرقيب التراثي وتمارس مناورات التقية كالإصلاح و التأصيل لتجنب العواقب كما لاحظ العروي في كتابه مفهوم العقل حيث يقول: :(... الملاحظ أن هؤلاء المتخصصين، عندما يتناولون موضوعا تراثيا، يسايرون الاتجاه العام و لا يحاولون أبدا معاكسته...) فها هو ذا الجابري في كتابه التراث و الحداثة يطرح سؤال كيف نتعامل مع التراث و من ثم يتبعه بسؤال كيف نتعامل مع الفكر المعاصر وهو بذلك يؤسس لقطبية فكرية، التعامل مع التراث في معزل عن الفكر المعاصر و مع الأخير في معزل عن التراث و دفع كلا منهما إلى نقطة وسط افتراضية (يتعايشان) فيها فبقول: (... انجاز (قراءة عربية) للفكر الأوروبي تجعل منه موضوعا لذات تريد أن تحتويه بدل أن يحتويها هو: قراءة نقدية، متجددة و متواصلة...) ، فثمة مشكلة نكران النقيض و نكران للجدل، أي نكران العقل لطبيعته ذاتها، في الفكر التراثي ثمة قطبية واحدية تتبنى التراث، أي الفكر الأسطوري الحدسي الكشفي، و ترفض و تنفي الحداثة العقلانية و التاريخية العلمية. ثمة اختزال فاحش للنظام المعرفي الى نمط معرفي واحد و النتيجة ادلجة صارخة تقيد و نشل حركة الفكر الحر (النظام المعرفي هو محصلة التفاعلات الجدلية للأنماط المعرفية المشكلة له. يميل بعض الباحثين الى الخلط و نعت النظام المعرفي باسم النمط المعرفي السائد في لحظة تاريخية معينة و في اطار موضوع محدد. أنظر كتابنا وحدة العقل البشري) . تاريخيا، تفاعل النقيضين هذا كان مخرج العقل الغربي من القروسطية إلى الحداثة، إلى مستوى جدلي جديد للتناقض على طريق التقدم. مركب العقل الغربي يسير بمجدافين، الحدس بتجلياته و أشكاله كافة و الفكر الموزون (العقلانية و العلمية بأشكالها و تجلياتها)، يترجم هذا بمجال التاريخ بمجدافي الأسطورة و التاريخية العلمية، أما العقل العربي الإسلامي التراثي فبمجداف واحد، الأسطورة، فيدور المركب حول ذاته و لا يكاد يبارح مكانه. تكرست القطبية منذ البدايات، منذ ما يدعوه البعض عصر التدوين أو عصر التكوين للفكر العربي الاسلامي، و هو بالأصح عصر الأدلجة حيث حصر الفكر الناشئ في أيديولوجيا مغلقة فيها (اليقين حاصل قبل النظر) كما يصف العروي العقل التراثي في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة. أدلجة تمت من خلال الصراع الذي نشأ لمنع العقل من ولوج المساحة التي ولجها في الغرب تحت مسمى الفلسفة و اقتصار هذه المساحة، مساحة العلوم الشريفة-علوم الوجود و التكوين، على علم الكلام و الحديث و الفقه، و قصر العقل على تسيير الأمور الحياتية اليومية أي العلوم الغير شريفة (الصنائع). و من أخطر ما نتج عن هذا القصر لدور العقل، هو الفصل التام ما بين التقنية (الصنائع) و العلم، علما بأن التصنيع و توظيفه في الاقتصاد و خلق الثروة كان هو الدافع الاساسي لتطور علوم الطبيعة في الغرب كما بين جون هرمان راندال في كتابه "تكوين العقل الحديث": (... وعندما طبق تارتاغليا عام 1537 الفنون الرياضية على المجانيق ظهرت كتابات كثيرة في معالجة هذه المشكلة الملحة بالذات. وقد كان من أثر أرخميدس بصورة خاصة أن اندفع الناس للاجتهاد في "الهندسات العملية" و"العلوم الجديدة" النافعة. وأن ما بحثوا عنه ووجدوه في الأقدمين هو بالدرجة الأولى عبارة عن أساليب فنية فعالة وطرائق مثمرة تؤدي للاكتشاف. وكان الصناعيون وأصحاب الحرف هم الذين دعموا هذا الاهتمام بالرياضيات. وما إن انصبَّ هذا الاهتمام على المشاكل الفنية حتى أخذ يعنى عناية متزايدة بمسائل ظلت حتى ذلك الحين من نطاق "الفلسفة الطبيعية". فكتاب غاليليو "العلمان الجديدان" وجد أول قرائه , بطبيعة الحال بين صناع دار السلاح في البندقية. وقد كان أمثال هؤلاء الصناع هم الذين رفعوا الرياضيات بالتدريج إلى المكانة العليا التي احتلتها في القرن السابع عشر أما غاليليو ذاته فكان أكبر "علماء الهندسة العمليين") لمزيد من البحث حول علاقة التقنية بالعلم راجع كتابنا "وحدة العقل البشري". هنا لا بد من الاشارة الى الدور الرئيسي الذي لعبته الثورة اللاهوتية (البروتستانتية) في هذا المجال، من حيث إعادة الاعتبار للعقل العملي و العمل المنتج للثروة و للعلوم الطبيعية، و أيضا الاشارة الى الحاجة الماسة الى ثورة مماثلة اسلامية تعيد للعقل العملي و العمل المنتج للثروة و العلوم الطبيعية اعتبارها في العالم الاسلامي. هكذا و بهذا الاختزال و القصر لدور العقل، تحول الصراع الجدلي داخل العقل التراثي في اتجاه واحد، غزو و استباحة الحدس و الأسطورة و الكشف لساحة العقل و العلم، فمهما حقق العقل العلمي من انجازات في هذه الساحة لا تتحول لانتصارات لاستحالة هزيمة الخصم. ألم تكن الوضعية هي تتويج لانتصار العقل و فرض سيطرته على مساحته الطبيعية في الغرب؟ ألم يسبق هذا الانتصار انتصارات جزئية للعقل في المساحة العائدة للخصم حققها العقل تحت مسمى الفلسفة (ديكارت و كانط) وحركات الاصلاح الدينية (البروتستانتية)؟ هل كان للوضعية أن تتسيد مساحتها لولا هذه الانتصارات الجزئية؟ و هل كان بإمكان الفلسفة أن تتحول لتشتبك مع الفكر الأسطوري في مجالي التاريخ و المجتمع لولا انجازاتها في مجال التكوين و الوجود ؟ أليست هذه الانجازات هي التي جردت الفكر الأسطوري من أسلحته في مساحة التاريخ و الاجتماع؟ هذا الكر و الفر، الاشتباك (هناك) في مساحة الخصم الميتافيزيقية و الاشتباك (هنا) في المساحة الذاتية الواقعية المادية للعقل هو التجلي الأوضح لمسار التطور الجدلي.
من المناسب هنا توضيح أصول و دلالة مسألة تقسيم العلوم الى شريفة (و هي كما قلنا علوم الكلام و الحديث و الفقه)، بمعنى العلوم التي تتعامل مع الكلام بعمومه و النصوص الشفهية أو المكتوبة، و التي تبدأ و تنتهي باللغة العربية (و العربية فقط) و تملك أسرارها. و تعزى هذه العلوم لأصحاب اللغة المتمرسين فيها و من حالفه الحظ بتعلم اسرارها من غير أهلها بالاستعراب و التعرب. أما العلوم غير الشريفة او الصنائع، فهي من اختصاص الاعاجم أو الموالي (و لاستخدام هذه المصطلحات لوصف غير العرب مغزى عنصري واضح) بالإضافة الى (علوم الأقدمين) بالذات الفلسفة و الفكر اليوناني و التي جابهت من الرفض و المقاومة و التبخيس ما جابهت. لنبدأ بعصر الجاهلية، عصر ما قبل الاسلام، بعرب الجزيرة الغارقين في مرحلة البداوة و نتساءل، ما هي علوم هؤلاء العقلية؟ الجواب علومهم هي الشعر و لا شيء عدا الشعر، فالشعر باللغة تعني العلم و الشاعر تعني العالم كما يوضح لنا أحمد أمين في كتابه فجر الاسلام: (يذهب بعض الباحثين الى أن الشعراء في الجاهلية كانوا "هم أهل المعرفة"، يعنون بذلك أن طبقة شعراء الجاهلية كانوا أعلم أهل زمانهم "يعترض أحمد أمين على هذه المقولة بناء على وجود -طبقة الحكام الذين يحكمون بين الناس في نزاعاتهم-، وفي هذا نقول أن الحكم بين الناس مبني على حكمة الحاكم و هي غير المقصودة بالعلم"، و ليسوا يعنون أي نوع من أنواع العلم المنظم، انما يعنون أنهم أعلم بما يتطلبه نوع معيشتهم...) و بالربط مع ما أورده ابن خلدون في المقدمة عن الفقر المدقع في العلوم الأخرى لدى أهل البداوة تتأكد لنا الخلاصة بأن الشعراء هم علماء اللغة و فن الكلام و هو علم شريف كما نرى في الاقتباس التالي الوارد في فجر الاسلام (... قال في اللسان: و الشعر منظوم القوم غلب عليه لشرفه بالوزن و القافية، و إن كان كل علم شعرا من حيث غلب الفقه على علم الشرع). في الطبيعة الصحراوية القاسية حيث تندر الحياة و مظاهرها في كل المجالات و يطغى الموات و السكون و الرتابة، و حيث يكون هم ساكنها تدبير قوت يومه مما تمنحه اياه هذه البيئة القاسية، الفاعلية الأولى و ربما الوحيدة للعقل هي صياغة الكلام، و من هنا ما يلاحظه الباحثون من ثراء في المفردات و في النحو في لغة عرب البداوة على نقيض مما قد يتوقعه المرء في بيئة فقيرة في كل شيء، فمن ما ذكره أحمد امين في كتابه المذكور ان كتاب المخصص لأبن سيده يخصص ما يعادل جزءا من سبعة عشر جزءا لكلام العرب عن الأبل! في هذه الحال يتجسد المنطق في النحو، و الاستقراء و القياس العقلي و المماثلة في البلاغة، أي أن هذا العلم البدوي تركز على (البيان و اللعب بالألفاظ) لا على (الابتكار و غزارة المعنى) حسب أمين و هو على حق فحياة الصحراء لا تقدم مادة لابتكار معنى أو حتى مبنى جديد، و من هنا جمود و محدودية الفحوى و القوالب الشعرية الجاهلية. ثم نتساءل مرة أخرى ما هو محمول عرب البداوة للحضارة الاسلامية؟ أي ما هي القيمة المضافة لعرب البداوة في هذه الحضارة؟ الجواب هو النص المقدس، القرآن، و ثانيا اللغة التي جاء فيها النص، لغة أهل البداوة عرب الجاهلية، و بالتبعية، خصال و مناقب البداوة التي حملت على التراث في فترة ما سمي التدوين او بالأصح فترة الأدلجة في ظل الصراع الذي نشأ منذ بدايات تشكل الدولة الاسلامية ما بين العنصر العربي بمحموله الثقافي (النص و اللغة على مستوى الفكر و طبيعة الحياة البدوية على مستوى الممارسة و ما يراه اهلها خصالا لها و مناقب) و العناصر الأجنبية القاطنة في بلاد الفتح بمحمولها الثقافي (الصنائع و العلوم الطبيعية و الفلسفة بتشعباتها على المستوى الفكري و طريقة الحياة المدنية على مستوى الممارسة)، مستخلص من هذا أن علماء الكلام و الحديث و الفقه (فنون معالجة الكلام و النصوص) في الاسلام هم ورثة علماء الجاهلية (الشعراء، أصحاب فنون معالجة الكلام و النصوص) ورثوا عنهم شرف المهنة، شرف لغة زادها النص المقدس شرفا على شرف، شرف التميز عن الأعاجم و علومهم و من هنا نتفهم هوس التراثيين باللغة و علومها. هذا على مستوى الصراع الفكري، اما على مستوى الممارسة السياسية و الاجتماعية نبدأ التحليل بحقيقة كون الدعوة الاسلامية الممثلة بالنص المقدس هي دعوة للمدنية، وحدة إله، وحدة مرجعية سياسية، وحدة مواطنة ، وحدة دولة، قيم عمل اجتماعية، إلخ. في مقابل الجاهلية و هي باختصار طبيعة الحياة البدوية، تعدد الآلهة و تعدد مرجعيات الولاء القبلية، قيم فردية تناحرية، إلخ. و الحقيقة الأخرى أن الانصهار أو بالأحرى الصدام ما بين القادم البدوي و القاطن الحضري (الفتوحات المتتالية في زمن قياسي) تم قبل أن تسود قيم المدنية التي حملها النص المقدس بين عرب البداوة، "فمثلا نقرأ في كتب التاريخ أن عمر بن الخطاب انشأ مدينتي الكوفة و البصرة (... كان الغرض منهما أن يكونا معسكرين يشمُ العرب منهما هواء الصحراء و يتجنبون بها وخم المدن) و نلاحظ هنا انتقاد ابن خلون في مقدمته لهندسة المدينتين و عزو الأخطاء الى عدم معرفة البدو في أصول العمران!" بل على العكس، فما ساهم في تسريع و انتشار الفتوحات هي غياب هذه الروح و القيم المدنية لدى عرب البداوة و الدوافع المتأصلة في البداوة من ثقافة الغزو و النهب و الغنيمة. من هنا كان التناقض الحاسم المؤسس لتاريخ الدولة الاسلامية السياسي، فالنص المحمول من عرب البداوة غبر قابل للتطبيق بأيديهم، هذا من جهة، و من جهة أخرى فإن أدوات تطبيقات هذا النص (بوصفه دعوة للمدنية) هي لدى شعوب الأمصار المفتوحة، يقول أحمد أمين في فجر الإسلام: (و الحق أن العرب و إن انخذلوا في النظم السياسية و الاجتماعية و ما اليها من فلسفة و علوم و نحو ذلك، فقد انتصروا في شيئين عظيمين، اللغة و الدين... و مع انتصار هذين العنصرين –اللغة و الدين- فقد تأثر كل منهما في هذه الحروب... فاللغة لم تعد سليقة و تفشى فيها اللحن... و قل مثل ذلك في الدين... فتقرق المسلمون فرقا و وضعت المذاهب المختلفة). و كون شرعية الحكم قد تأسست على النص المقدس، احتكر أبناء القبائل البدوية السلطة و الغنيمة بحكم قربهم من النص، و تولى الأعاجم أمور الإدارة بمهاراتهم و خبراتهم الموروثة (بالإضافة الى تقنينهم للغة العربية و جعلها لغة حديثة قابلة للتعلم و ادارة شؤون الحياة اليومية مما ساهم في انتشارها سريعا بين شعوب الأمصار المفتوحة التي كانت تعتمد لغات اخرى مثل السريانية و الآرامية و الفارسية، إلخ) و هذه ظاهرة في كل عصور الدولة الإسلامية، وأخيرا ما رافق هذه الظاهرة من صراعات على السلطة و انقسامات استمرت حتى اليوم في ظل الصراع الأساسي، صراع الهوية البدوية مع الهوية الحضرية . حتى يومنا هذا نجد أن الأحكام الأخلاقية السائدة في المجتمعات العربية الاسلامية، تحكم على أي تقرب من التحضر و أـسلوب الحياة الحداثي كنقص في (المروءة) هذا المفهوم البدوي الأخلاقي الجامع.
من هنا نجد الطابع البدوي الغالب على العقل التراثي، فالموضوع بالأساس صراع هوية مع الآخر و تأكيد لما هو ذاتي في وجه ما لدى الآخر، و من هنا نكران النقيض سواء في الماضي أو الحاضر و رفض الانغماس في تفاعل جدلي معه، فالمسألة تبدو للعقل التراثي مسألة هوية و بقاء. في القديم أكد الأسلاف الذات البدوية أمام الآخر الحاضر في زمانهم، فبنوا صرحا معرفيا شاملا على أساس من البداوة من خلال عملية جدلية انتقل فيها الفكر من بساطة البداوة الى تعقيد العروبة الاسلامية، و عند مجابهتنا مع الآخر الحاضر في زماننا عدنا لنحتمي بهذا الصرح تحت مسمى التراث فالجابري مثلا يقول في كتابه التراث و الحداثة: (إننا نوجد اليوم، و نحن نجابه الفكر الأوروبي الحديث، في مثل الوضعية التي وجد فيها أجدادنا أمام الفكر اليوناني و ثقافة الحضارات القديمة...) أي أننا ضمنا امتداد لعرب البداوة، لا لعرب التعرب و الاستعراب ما بعد الاسلام، نحن تشربنا التراث المحمل بالبداوة حتى أصبح في داخل كل واحد منا بدوياَ (خطت الصحراءَ لا جدوى خطاه)، حتى ان مفكرا من طراز الجابري في كتابه المذكور يقول: (إن الإسلام كعقيدة و شريعة يشكل مقوما أساسيا لوجودنا و عنصرا أساسيا في هويتنا القومية.و هذا لا يجوز تجاوزه أو انكاره أو التغاضي عنه..)، هذا الربط ما بين القومية و الإسلام يمر من خلال (الإسلام البدوي) لا شعوريا لدى معظم الباحثين العرب
صبغة البداوة هذه في التراث تفسر كون المجتمعات العربية الأقرب للبداوة حاضرا هي البيئة الأكثر حضنا للحركات الأصولية، في العراق، في سوريا، في المغرب العربي، في مالي و في الصومال.