تجدّد النظرية النقدية


هشام عمر النور
2015 / 8 / 4 - 13:05     


كارل راشك*



ترجمة هشام عمر النور




في أواخر العشرينات، بينما الاقتصاد العالمي يتجه بسرعة إلى كارثة اقتصادية سرعان ما ستقع، اجتمع في فرانكفورت بألمانيا مجموعة من النقاد والمفكرين الأوروبيين المشبعون بالاتجاهات المثالية الألمانية والماركسية، ليوفروا هوية وسمعة للمعهد الذي تم تأسيسه حديثاً في ذاك الوقت، معهد البحوث الاجتماعية بالجامعة هناك.

وفي وقت وجيز أصبح يعرف هذا الاجتماع لفلاسفة ومنظري ثقافة التحقوا بالمعهد وأصبحوا مشهورين الآن مثل يورغن هابرماس ماكس هوركهايمر ووالتر بنجامين وهربرت ماركيوز وإريك فروم بمدرسة فرانكفورت.

وكان للمدرسة، والتي كانت في الواقع مركزاً مصاحباً لحركة فكرية عالمية بسطت نفوذ منهج واسع متعدد الأنظمة يجمع بين الإنسانيات والعلوم الاجتماعية المعادية للوضعية ويعرف بالنظرية النقدية، تأثيراً تحويلياً بطيئاً ولكنه قوياً للثقافة الغربية. وبتحديها لكل الأرثوذكسيات المهيمنة في عصرها والمشتملة على الفاشية والماركسية الستالينية والرأسمالية التعاونية، كانت النظرية النقدية مسئولة بطريقة مباشرة وغير مباشرة عن الثورات الثقافية المختلفة في الستينات من القرن الماضي والتي بدورها أعادت تشكيل المشهد الغربي الأكاديمي وكذلك السياسي الاجتماعي بدرجة مؤثرة.

جسدت النظرية النقدية شوقاً قديماً للجمع بين الفكر والفعل، النظرية والتطبيق. أصرت النظرية النقدية على أن أي نظرية لكي تستحق أن تكون نقدية لا بد أن تفترض في جهازها الإجرائي بعداً تغييرياً معيارياً وممكناً. وبتأثير ذلك، تتبعت مدرسة فرانكفورت أصولها عائدةً إلى إعلان كانط بأن كل نقد للمعرفة يجب أن يؤدي إلى تأكيد حرية الإنسان، وهو ما يردد بالطبع مانفيستو روسو الشهير لعصر الثورة نفسها: "ولد الإنسان حراً ولكنه يرزح في الأغلال في كل مكان".

وكما أعلن هوركهايمر، فإن غاية النظرية النقدية هي "تحرير الوجود الإنساني من ظروفه التي تستعبده". وقد نادى ماركس الشاب بأن الفلسفة يجب أن تنتقل من فهم العالم إلى تغييره، ولكن مدرسة فرانكفورت أدركت أن الفهم والتغيير لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض بسهولة.

وسّعت النظرية النقدية من مجال الممارسة التي تهدف لتغير العالم من الاقتصاد السياسي إلى النقد النافذ إلى الثقافة نفسها، بحيث تحيط بكل شيء من كشف البنيات الخفية للسيطرة والتي تستديمها الأيديولوجيات الشعبية إلى تحليل أشكال التواصل وأنظمة العلامات السائدة. وكان الافتراض هو أن الحركات السياسية المؤثرة غير ممكنة بدون إصلاح جذري للأطر الأخلاقية والمعرفية التي يعمل ضمنها كل فاعل اجتماعي.

أصبحت مدرسة فرانكفورت مشهورة لفهمها للكيفية التي تستطيع بها وسائل الإعلام الاجتماعية أن تستعبد أو تحرر. ولكنها أهملت التحليل النقدي العميق لدور مؤسسات التعليم، فيما عدا الاتجاه الراديكالي التلقائي للطلاب في ستينات القرن الماضي الذين كان لهم ارتباطات ضمنية بالمنظرين الرئيسيين للمدرسة. ربما يمكن أن ننسب هذا الإهمال ببساطة للدور الهامشي نسبياً للتعليم العالي بالذات في تشكيل الالتزامات الأيديولوجية الواسعة في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. أما الآن في عشريات القرن الواحد وعشرين والاقتصاد الغربي يعتمد اعتماداً كلياً على عمال المعرفة الذين تلقوا تعليماً جيداً والأرقام الفلكية لديون الطلاب، بالذات في الولايات المتحدة، تهدد ديمومة النظام ككل، فإن موجة جديدة من النظرية النقدية تبدو على وشك أن تبدأ من النظر في الخلل الوظيفي المتزايد في التفاعل بين إنتاج المعرفة والهيمنة المعولمة لشركات نخب جديدة ومؤسسات التعليم العالي.

في الشهر الماضي (أغسطس من عام 2013م)، ظهرت حركة قاعدية لإحياء النظرية النقدية وتفعيلها ضمن سياق إعادة بناء التعليم فوق الجامعي على وجه الخصوص، في الانترنت، وبأسلوب مؤسسي مكتمل في بدايته في دنفر بكولورادو. اكتسبت هذه الحركة، التي تعرف بالمركز العالمي للدراسات المتقدمة، تقديراً ودعماً وحماساً مدهشين، على الرغم من أن البداية لن تكن سوى سمنار افتتاحي يقوده اثنان من أميز مثقفي العالم ـــــــ ألان باديو وسلافوج شيشك.

وفهمي لموضوع السمنار أنه سيكون شيئاً مثل "إعادة ميلاد النظرية النقدية في القرن الواحد وعشرين".
هذا الحدث، كما سيصفه باديو نفسه، يدل على انهيار قوي للإجراءات الاقتصادية المعتادة ضمن الإنتاج المؤسسي للمعرفة بواسطة الأجهزة التعليمية التي تسيطر عليها الدولة. الحدث يدفع لفتح أفق لشيء ما غير متوقع كلياً ويكتنفه توتر الإمكانية المبدعة التي يمكن أن تولّد لأول مرة في التاريخ ذوات أصيلة، كما يسميها باديو في كتابه منطق العوالم، يعتمل فيها حس الغاية، رؤية الحقيقة.

بعض المشككين زعموا في الإنترنت أن مثل هذه المشاريع مشاريع مثالية ورومانسية مصيرها الفشل، ولكنهم في ضيق أفق خوائهم وصغره وتضخيمه للذات فات عليهم كل ما يحدث.
الحدث، هو فرادة تفتح بدايات قوى تاريخية مؤثرة ولا تقبل المقاومة، مثل الربيع العربي الآن الذي يستمر لأكثر من عامين، والذي يستعد لاختراق وتحويل ـــــــــ ربما ما بين ليلة وضحاها ـــــــــ مجال عظيم. إنه وقت الأزمة العميقة في العالم الغربي ــــــــ اقتصادياً ومؤسسياً وثقافياً وسياسياً ــــــــــ والتي سيكون التعليم العالي لها عصا تنبيه وإرشاد، كما كان في ستينات القرن الماضي. والنتيجة لن ترتبط ببساطة بأي مشروع أو طموح أو حركة الحقوق المدنية أو لحركة مقاومة واحدة شجاعة لقوانين جيم كرو، تماماً كما الربيع العربي ذاته لا يمكن أن يرتبط فقط بمحركي الشوارع.

الأزمة، التي يخرج منها الحدث ويتقدم، مرئية في كل ما حولنا. لقد شهدنا في العقود الثلاثة الأخيرة إفراغاً متجزئاً للتعليم العالي. أصبح الطلاب، بعد أن سيطر عليهم قلق الرسوم القابلة للدفع والقدرة المالية طويلة الأجل لاستثماراتهم في العملية التعليمية، يلتحقون ببرامج دراسية ليست هي اهتماماتهم ولا تضمن لهم الأمن الاقتصادي طويل الأجل الذي بسببه في المقام الأول تابعوا هذه الدراسة.

كم عدد المحامين العاطلين عن العمل والموظفين جزئياً في عالم الدول المتطورة في هذه الأيام؟ كم عدد الفنانين الموهوبين الذين تم إخبارهم أن عليهم الحصول على MFA للنجاح في مهنتهم، ليكتشفوا أن تزايد هذه الشهادات يعني أن عليهم أن يأمنوا وظيفة بدوام جزئي كمساعدي تدريس بمقابل مالي ضئيل في معاهد فنون تشكيلية ربحية، حيث سيستمرون في غسل دماغ طلاب أبرياء آخرين بنفس الهراء المخدر.

متى توقف الفن من أن يكون له قيمة خاصة وامتيازاً آخر غير ذلك الذي يهتم به جامعي الفنون في طريق الطمع لمعدلات أعلى من العائد في اللعبة العالمية المحمية للبضائع المعنوية التي يقودها الإبداع الدائم لمال التسلية في جانب البنوك المركزية التي تسعى بيأس إلى التخلص من مشهد الانهيار المالي، الذي هو نفسه نتاج للأوهام الجماعية الاجتماعية والسياسية التي تغذيها الرغبات المستحيلة والتي بدورها صنعتها وسائل الإعلام؟

متى تحولت هذه الغايات الداخلية الرفيعة للتعليم العالي كتطوير للتفكير النقدي ووضع الأساس لتعليم منتج مدى الحياة إلى ما يسمى بالمطاردة الورقية، الاندفاع الجنوني للأكثر غلاءً، ولكن بدون قيمة، من الدبلومات المهنية والتكنيكية التي تكلف أكثر من أي مرتب معقول والتي لا يأمل في دفعها ذلك الشخص الذي نجح في اجتياز إكمال المنهج والشهادة والترخيص طالما أن أفضل المتعلمين ينضمون أكثر فأكثر إلى البروليتاريا العالمية المقيدة بالديون، المقصية فكرياً، والتي لا تجد مرتبات كافية؟

والذين يحاولون مقاومة هذه التيارات بشجاعة يقعون في الغالب ضحايا لمصير حتى أسوأ باتباعهم لطريق البحث عن شهادات متقدمة في الفنون الحرة، التي يأملون في تدريسها يوماً ما في وضع جامعي، ولكن يمنعون منها في الواقع بالوفرة الزائدة من الأكاديميين المتدربين وبقلة الأماكن المدفوعة الأجر، نتيجة لنفس العوامل والظروف المزرية.

اقتصاديات التعليم العالي أصبحت تعاني من الخلل الوظيفي لدرجة كبيرة. انكسر النظام نفسه ولكنه يظل متماسكاً باليأس والخوف، خاصةً عند الجيل الطالع. ذلك الطموح العظيم الذي كان عند العالم الغربي في لحظة من لحظات الزمن لتعليم شعبه ليصبحوا مواطنين أحراراً منتجين للديمقراطية هؤلاء المواطنون تحولوا وياللسخرية من خلال التعليم التعالي إلى رقيق بمرتب وديون لنظام المال العالمي الذي تديره مصالح السادة الجدد لأجلها هي نفسها.

في خضم هذه الأزمة تنهض عنقاء النظرية النقدية المُجَدَّدة كواجدة لمدى عالمي حقيقي.

وكما قال كوامي نكروما، البطل الأفريقي لتفكيك الكولونيالية، "تتحقق الثورات بواسطة رجال، رجال يفكرون كرجال فعل ويفعلون كرجال فكر." هذا أكثر تلخيص مناسب لما كانت عليه النظرية النقدية في أصولها التاريخية ولما ستكون عليه كمجسدة لفلسفة المستقبل.

كان فرانسيس بيكون هو الذي أعلن شعار العصر الحديث في العبارة التي تقول "المعرفة سلطة". ولكن في الألفية الجديدة فإن نوع المعرفة التي لدينا لم تعد معرفة تحررية، ومن ثم تظل بلا سلطة.

وهذا الآن يقترب من التغير.

*كارل راشك بروفسيور في الدراسات الدينية في جامعة دنفر ومتخصص في الفلسفة الأوروبية والمحرر الأساسي لمجلة النظرية الدينية والثقافية. أكاديمي مرموق وكاتب معروف عالمياً. له العديد من الكتب التي تغطي موضوعات مختلفة تمتد من ما بعد الحداثة والدين الشعبي والثقافة الشعبية إلى التكنولوجيا والمجتمع.