التعصّب صَنْعَة فاشيّة


سعد محمد رحيم
2015 / 7 / 25 - 10:18     

في عصر العولمة، والثورة المعلوماتية، حيث تطوّرت وسائل الاتصال إلى حد مذهل، وتحققت ثورات هائلة في مجالات العلوم المختلفة، والإعلام الجماهيري، تزداد، ويا للمفارقة، في المحيط البشري الذي يضم سبعة مليارات من السكّان، جزر التعصّب وتتنوع. ومعها تتصدّع منظومات القيم القديمة ذات المحتوى الإنساني الغني، لتستبدل بمنظومات تبدو أكثـر تجريداً وجفافاً، تُكرِّس، عند كثـر من الأفراد الأنانية والجشع والميل إلى ممارسة العنف.. فنحن نعيش اليوم في عالم يتعرض لانشطارات متسلسلة، ويؤشر تداعي قيم الحداثة والمدنية والتنوير والأنسنية القائمة على فكرة الذاتية، والحريات العامة، ومبادئ حقوق الإنسان، وسلطة العقل.. وهو عالم تتذرذر فيه السلطات، وتتعدد الخنادق المتقاتلة،ويشتد الصراع على الثـروة والنفوذ. في مقابل أن تلك السلطات التقليدية، في كثر من دول العالم، لاسيما المتأخرة منها، لم تعد تمتلك القدرة الكافية على السيطرة، والكفاءة اللازمة لتسيير شؤون البشر المنتمين لمجالها الجيوسياسي، وتحقيق فرص الحياة اللائقة والأمن لهم، وإدارة مواردهم. بعدما أتاحت التكنولوجيا الحديثة وسائل فعالة لتكوين الجماعات الخارجة على القانون، وتلك التي تستقل عن إرادة السلطات السياسية وتنشئ أنطقتها الحيوية الخاصة بها.
وأمام هذا السيل المريع من الأشياء المعروضة ( المادية منها وغير المادية ) في دنيا الأسواق المزوّقة، والمعلن عنها عبر قنوات الإعلام،يرتفع، إلى مستويات عالية، منحنى الحاجات، وهي في أغلبها زائفة وغير ضرورية، لكنها تُشعر المرء بالعجز، وعدم الإشباع، والضآلة. وبذا لن نكون مضلِّين إذا ما قلنا أن أعداد الذين يفقدون الأمل في جهات العالم الأربع، أولئك الذين يُغرقهم الشعور بالخواء والعدميةآخذة بالازدياد، وهو ازدياد مخيف، يضفي مسحة من القتامة على حاضرنا وصورة مستقبلنا.لكن هناك ما هو أسوأ من هذا، وهو تحصيل حاصل له، وأعني الوباء المهلك الذي بات يضرب رئة العالم وقلبه ويهدده في سلامه ووجوده.. الوباء الذي اسمه التعصّب.
والتعصّب ورم غير حميد في جسم كثر من المجتمعات، ومنها مجتمعنا العراقي حيث نجده ينتشر بين فئاتٍ من جماعاته المختلفة التي تبرز هوياتها ما قبل الدولتية القاتلة على حساب هويتها الوطنية الجامعة. منبثاً بأشكال شتى من مؤسسات ومفاصل عديدة؛ سياسية وثقافية ودينية واجتماعية.
لا أعرف إن كان الأفراد يختلفون في استعداداتهم السيكولوجية والفيزيولوجية ليصبحوا متعصّبين. وحتى مع افتراض وجود جينات خاصة أو خلايا عصبية معينة منشِّطة للتعصّب عند الأفراد تتفاوت في درجة قوتها وفاعليتها بين الفرد والآخر فإن تأثير مثل هذه الاستعدادات أقل بكثير من تأثير العوامل البيئية الاجتماعية والثقافية في جعل شخص ما متعصِّباً، ميالاً للعنف، أو متسامحاً ومسالماً ومحبّاً للنوع البشري. ولذا، فإن التعصّب باعتقادي صناعة سياسية، مؤسساتية مهما تقنّع بالدين، أو بغيره.
يتغذى فكر التعصب، في الغالب، على سرديات ملفّقة وتاريخ جرى تزويره. وهو فكر ينشط وينتشر عبر عمل مؤسسي منظّم، في أكثر الأحايين.. مؤسسة تعتمد آليات دقيقة وفعّالة، منها تكرار مقولات وقصص بعينها موجّهة لجمهور جاهل أو نصف متعلم، أو محدود الوعي يسهل توجيهه واقتياده حتى إلى الهلاك. ومنها التخويف من الآخر وتصويره مصدراً للتهديد الدائم. ومنها تعزيز فكرة الظلم الواقع عليه من الآخر. وهناك ما يمكن تسميته بتعميم المسؤولية. فإن يقترف شخص ما جرماً في سبيل المثال فإن مسؤولية الجريمة تتحمله، بحسب منظور المتعصّبين، جميع أفراد الجماعة التي ينتمي إليها المجرم.
ليست الإيديولوجيا هي التي تخلق الحركات العنفية المتعصّبة وإنما مجموعة العوامل المادية التاريخية التي تفعِّل الإيديولوجيا وتجعلها محرِّضاً ودافعاً للسلوك العدواني. وقد تبقى الإيديولوجيا ماكثة في الكتب عشرات ومئات السنين قبل أن تتوافر شروط تفعيلها في مكان وزمان معينين. وأحياناً لا تكون الإيديولوجيا ذات منحىً تعصبي عدواني في محتواها ولكن تأويلها يكون كذلك. وهذا التأويل يخضع للحاجات الواقعية والنفسية للمؤِوِّل. وهنا يبرز دور المؤسسة المتبنية والمستثمرة للإيديولوجيا، التي تسعى لتحقيق مصالح وأهداف لا علاقة مباشرة لها بالإيديولوجيا تلك... مصالح وأهداف هي سياسية واقتصادية في طابعها وحقيقتها.
يصح هذا التوصيف على الحركات الدينية المتعصِّبة، كما يصح على الحركات غير الدينية المتعصِّبة.. فلا يمكن تفسير الإجراءات الدموية المرعبة لحركة الخمير الحمر الشيوعية في كمبوديا، في سبيل المثال، بوجود نظريات كارل ماركس. إذ حتى مع افتراض عدم وجود هذا المفكر ونظريته إطلاقاً فإن جماعة الخمير الحمر كانوا سيعثرون على مرجعية فكرية أخرى تضفي الشرعية على سياساتهم، بسياق آخر، وأشكال أخرى ومسمّيات ملائمة. كذلك لا يمكن تفسير ظاهرة داعش بوجود مذهب أحمد ابن حنبل ببساطة.إذ حتى مع افتراض عدم وجود شخصية دينية تاريخية باسم ابن حنبل ومذهبه، ومن ثم تفسير ابن تيمية له، وانبثاق الحركة الوهابية فيما بعد، لوُجدت حركة داعش، وهذه المرة بمرجعية إيديولوجية أخرى، وأطروحات ربما مغايرة ولكن بالسلوك العنيف نفسه.. ما أريد تأكيده، على وفق اعتقادي الشخصي، أن الواقع التاريخي هو الذي يخلق الحركات العنفية المتعصِّبة، ووجود الإيديولوجية الملهِمة والساندة،والمؤوِّلة، والمسوِّغة هو عامل واحد لا يمكن تفسير وجود الظاهرة به وحده.
التعصّب يختزل من يوجّه ضده من الفئات والجماعات في صورة مقزّمة شائهة وكريهة، فتعمم الصورة تلك على جميع أفراد تلكم الفئات والجماعات. فالمتعصب لا يرى الفروق الشخصية الدقيقة بين الأفراد سواءًفي النوايا،أو في السلوك والمواقف.. لا ينظر إلى الأفراد ككائنات متفردة مائزة، كتيارات وطبقات وحالات نفسية وفكرية متنوعة. فالمتعصِّب يكره الصورة المختزلة الثابتة المكوّنة في ذهنه عن الآخر؛ الجماعة الأخرى التي يتراءى جميع أفرادها في نسخة واحدة مكررة، حتى وإن كانوا بمئات الملايين.
المتعصِّب ضيّق الأفق بالضرورة..
إن وعي المتعصّب متحيّز وانتقائي.. إنه لا يرى إلا ما يرغب برؤيته، ما يدعم أحكامه المسبقة ويعزز الصورة القبلية التي في ذهنه عن الآخر. ويستبعد أي إشارة إيجابية عن ذلك الآخر، حتى وإنْ كانت هي الطاغية، ويؤولها بالشكل الذي يرضي قناعته العصيّة على التبدل.
التعصّب هو حالة حَوَل عقلي شديد
والمؤسسة الراعية للتعصّب، والصانعة له، تضفي على نفسها هالة من القداسة التي لا يمكن المساس بها إن كانت دينية، أو هالة من القوة والرهبة إن كانت دنيوية. وفي كلتا الحالتين تكون المؤسسة في حالة حرب لا نهاية لها، أو إنذار بحرب وشيكة الوقوع مع آخر ( ها ). يتجلى التعصّب بعدِّه هوساً مرضياً بالهوية.. إنّ تعصّب المرء لهويته مردّه إلى ما يعتقد ( أو جعلوه يعتقد )، بوجود تهديد لها. وقد يكون التهديد حقيقياً، أو مبالغاً به، أو مفتعلاً. ويكون التعصّب معدياً في المجتمعات المحبَطة. والفرد الذي يفتقد الفرصة الإيجابية قد يجد في الجماعات المتعصِّبة بديلاً من الممكن أن توفر له وظيفةُ ما، ومكانةً ما، ودوراً ما. وإذا كانت الثقافة كلها من وجهة نظر جيرارد تمرّ عبر المحاكاة، فإن الثقافة التي سيلفي المتعصب نفسه في دائرتها تقدم نموذجاً يمكن محاكاته بطريقة تحقق له الإحساس بالانتماء.. وبذا ستكون هناك نسخة واحدة مكررة من متعصِّبين عصابيين يتنافسون للتشبّه بالنموذج الأصلي.. فليس ثمة من تفرّد، وإلا حُسب خروجاً على الجماعة. وبطبيعة الحال ليست ثمة حرية أيضاً للتفكير المستقل. وإذن ليس هناك من حوار بشأن الموجِّهات الفكرية. ليس هناك سوى الإيمان الأعمى القاتل.. ولأن منطلق المتعصِّب البدئي هو الشعور بالدونية، وعدم احترام الذات فإن من الطبيعي أن يفتقر المتعصب للشعور باحترام الآخرين، وباحترام الحياة التي يحيونها. وبالتالي فإن كره الحياة هي سمة المتعصِّبين عبر الأزمان.
حين يخفق بعض الأفراد في عالم طابعه التنافس، في الظروف الطبيعية، فإن التحاقهم بجماعات عنفية متعصِّبة يتيح لهم فرصة تنافس أخرى، وهذه المرة على تبني إيديولوجية الجماعة والمزاودة بها على الآخرين.. فإنْ تفشل في تحقيق أهداف من قبيل ( تحصيل علمي راقٍ، وظيفة جيدة، مكانة اجتماعية محترمة، علاقة حب متبادلة نقية، الخ.. ) ربما يكون استبدال حقل المنافسة حلاً نفسياً واقعياً لبعضهم. والمنافسة البديلة هذه، تحقق، ناهيك عن المزايدة الإيديولوجية، الانتقام من الآخر، من المجتمع، من العالم.. وهذا يُفسِّر ظاهرة الوشايات القاتلة، والتصفيات الدموية في إطار الجماعة المتعصِّبة ذاتها، بين قادتها وأعضائها.
والغريب أن التعصّب يظهر ويترسخ ويأخذ مداه الأقصى من الفعل العنيف في إطار الحقل نفسه باحتمالات أكبر. فالصراع على التحكّم بالحقل يفوق الصراع مع الذين هم خارجه حتى وإن كانت المشتركات واسعة مع من هم في الحقل عينه. وضئيلة ومعدومة مع من هم خارجه. فالصراع بين مذاهب الدين الواحد، أو الإيديولوجية الواحدة، يكون أشد حدّة وعنفاً من الصراع مع أتباع الأديان الأخرى، أو أصحاب الإيديولوجيات الأخرى. والسبب، كما نوّهنا، هو أن الصراع يحتدم للاستحواذ على الحقل المشترك في ضوء عمل وتأثير وحسابات معادلة؛ السلطة، الثروة، النفوذ.
التعصّب نتاج عملية غسل مخ، تتم على وفق برنامج مصمَّم، وبوساطة لغة منتهكة، مشبعة بجراثيم الكراهية واللاتسامح والميل إلى العنف. لغة تتسبب بتضييق أفق الوعي، وتجفيفه قدر الإمكان، وإزالة البعد الإنساني منه. فنحن قد نتعصب ضد الآخر لأننا نسيء فهمه، نضعه في القالب الذي أعددناه له، نضفي عليه صفات من خيالنا، ونكرهه بتأثير هذه الصفات المزيّفة. ففي معظم الأحوال لا يقوم الكره على مسوِّغات موضوعية، وإذن لابد من أن يتجه نحو أهداف بريئة.
التعصّب إفراز عَوَق أخلاقي. وهو حالة عصابية أعراضها سطوة الشك على النفس، والكراهية، والميل لممارسة العنف، والابتهاج برؤية الآخر ( حتى وإن كان بريئاً ) مدمَّراً ومقضياً عليه.
والمتعصِّب هو الشخص الذي لا يقدر على تحمّل مسؤولية تفرّده، وحريته، فيتنصل منهما، ولذا تراه تابعاً بالضرورة.. التابعون الذين يُقادون مذعنين، برضاهم، لسياسات سلطة أعلى يقدسونها ( ليست بالضرورة دينية سياسية )،ومن غير أن يسألوا، ومن غير أن يهتموا لمصائرهم الشخصية، هم من يمهِّدون لخلق البيئة التي تنتعش فيها الفاشية..