نقد العقل الأسطوري

يزن حداد
2015 / 7 / 20 - 14:28     


تعلن الأسطورة اليوم سطوتها على الوعي في ظل غياب العقل العلمي، الذي غابت معه التنظيمات الراديكالية عن الحركات الاجتماعية العشوائية. فكرٌ مجبول بالسحر والخرافة والحلول العجائبية، يستوحي نفسه من منابر الدين بنسخه المتعددة. لذلك، يفرض علينا منطق التاريخ مقارعة بُناه الكابحة للتقدم، والتي تضرب بجذورها في سيكولوجيا الإنسان المقهور، المغيَّب، والمستلَب.


النقد، سلاح ثوري

يلتبس الأمر عادةً على الكثيرين عند الحديث عن نقد البنى الدينية وآثار انعكاساتها على الوعي، فإما أن يتخذ قارئ النص هنا موقفاً دفاعياً من النقد قبل محاورته، أو أن يمر بجوار البحث على أساس امتلاك “الحقيقة المطلقة”، فلا يعطيه وزناً يستحقه.

لكن أولاً وللتوضيح، أنا لست ضد التدين كخيار شخصي بلا شك، ولست معنياً بتفنيد هذه القناعات (التي تمثّل “مبدأ الأمل” بالنسبة للبعض، على حد تعبير الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ)، لكنني ضد تعميم هذا الخيار على المجتمع ومأسسة الخطاب الملازم له، ومن ثم تأطيره سياسياً. وبمعنى آخر، فإن النقد هنا يعبر جدار “المقدّس” ليخترق الوعي القائم بغرض بناء وعي مادي ثوري بديل، لكنه لا يضيع في غياهب “النص” الديني وإشكالياته التي لا تنتهي.

لا بد أنَّ من اطلع على كتاب رأس المال، العمل الأضخم والأهم لكارل ماركس، قد لاحظ عنوانه الفرعي، وهو “نقد الاقتصاد السياسي”. لقد استوعب ماركس جيداً التراث النقدي للفلاسفة الذين سبقوه (بيكون، كانط وفويرباخ مثلاً)، وأدرك تماماً أن تخطي المنظومة الرأسمالية نحو نمط الإنتاج الاشتراكي الجديد غير ممكن إلا بتملّك أدوات النقد العلمي والثوري، والنقد العلمي هنا يعني تفكيكاً نافذاً للبنى التقليدية القائمة، واقتلاع جذري لمنبت القوى المعطّلة لسيرورة التقدم.

إذن، فإن النقد المنهجي العلمي سلاح ثوري في مواجهة كل ما ينتصب حاجزاً أمام العقل البشري، أمام قوى التغيير في المجتمع، أمام التقدّم والحرية وتفجير طاقات الإنسان الإنتاجية، بصورة تطرح جانباً مفردات الخلاص الفردي. ومن جملة هذه الحواجز والأطر، يقف الموروث الديني والثقافي اليوم ليغرس براثنه في وعينا وفهمنا للواقع، ينحت طواطمه في مسرح العقل ونحن من يشاهد ويعاني النتائج.

في معنى الأسطورة

هل العقل الديني أسطوري بالضرورة؟ وما معنى الأسطورة في سياق طرحنا للمسألة؟

يعرّف المفكّر السوري فراس السواح الأسطورة بأنها نسج أدبي لحكاية تاريخية، تلعب فيها الآلهة والرموز الدينية دوراً رئيسياً، وتقوم على مبدأ التقديس وما يتبعه من ممارسات “روحانية” ترتبط بهذه الأسطورة.

فالأسطورة هنا، بالمعنى الواسع للكلمة، تؤلف بالتالي السجلّ التاريخي لميثولوجيا سردية عن تاريخ حضارة من الحضارات، لها رموزها المقدسة طبقاً لما يؤمن به المجتمع الذي أنتج هذه الرواية. ومن هذا المقام، تنبع العلة الرئيسية لطبيعة الفكر الأسطوري، الذي يقرأ الماضي بعدسة نصوصه الجامدة، ويفهم الحاضر بوحي الأساطير التي تطبع طفولتنا بخصالها النفسية المميزة لتلك المرحلة.

في محاكاة للميثولوجيا الإغريقية، كتب غوته قصيدة حملت عنوان “بروميثيوس”، يخاطب فيها زيوس مشيراً لحسد الآلهة تجاه البشر. ذلك الإله “الغني” الذي يعوز الإنسان لتكريس خلوده، يقف عاجزاً إزاءه عندما يختار مغادرة وهم الآلهة والأساطير؛ الأساطير التي كانت تحوم طفولتنا حولها يوماً ما:

ولكم كان يَنالُ منكُم الفقرُ، لو لَم

يكنْ الأطفالُ والمتسوِّلُونَ

حمقَى مفعَمينَ أمَلاً

وإذا أردنا اشتقاق رمزية الأساطير الدينية بدلالة نموذج عياني محدد، يمكننا أن نعرج بالحديث على طقوس قبائل الزولو في الجنوب الأفريقي، على سبيل المثال. حيث يستخدم كهنة هذه المجموعة ثلاثة عقاقير مختلفة بتسلسل معيّن عند علاج بعض الأمراض؛ الأسود، الأحمر، ومن ثم الأبيض. والتركيب الكيميائي لهذه الأدوية غير مهم، فالأهم هنا هو لونها، وما يرمز إليه كل لون منها. الأسود يرمز إلى الظلام والخوف والمرض، الأحمر يرمز إلى شروق الشمس ونضوج الجسد، أمّا الأبيض في رمز إلى الخير والصحة.



تعبّر تلك الحالة عن لغة رمزية جامعة تنسحب تجريدياً على الأديان بمختلف تفرعاتها وما تحمله من عقائد وممارسات “روحانية” تلتف حول أسطورة ما. فبهذه الآلية تنبني الأساطير والخرافات الدينية بتجلياتها وتعدد أشكالها في جُل الخلفيات الثقافية، من جزيرة كريت إلى روما والفاتيكان مروراً بفتاوى العصر الحديث، أي وفق ما ترمز له كدلالات لفظية ترتبط داخلياً بمعنى من المعاني الغيبية، لا وفق ماهيتها الحقيقية وإمكانات قياس هذه الأسطورة على الواقع.

إذن، فإن العقل الأسطوري هو نقيض العقل العلمي بطبيعة الحال. والعقل العلمي هو عقل مادي جدلي بالضرورة، في معناه الفلسفي، كما أنه عقل نقدي دائم الحركة والتطوّر، في حين أن العقل الديني هو التعبير المباشر والأمثل عن الوعي الغيبي الميتافيزيقي الذي يسلّم بظواهر الأمور ويعتمد على الما ورائيات والأساطير في جوهر بنائه الداخلي وتكوينه.

ومع كل الاختلاف بين الميثولوجيات التي أفرزها عقل الإنسان ليفسّر بها ظاهرة طبيعية ما، أو ليحقن خوفه بجرعة من الأمل في حياة أُخرى، أضف إلى ذلك الحاضنة الاجتماعية والعوامل الثقافية المتنوعة التي تنمو في باطنها الروايات التاريخية، وهو ما ينعكس على اللغة الرمزية التي تنطق بها هذه الأسطورة أو تلك، بحيث يصبح تناسخ الأساطير بين الأديان مع تباين أسماء الآلهة والشخصيات فقط، أمر غير مستغرب. مع ذلك الاختلاف، هنالك قاسم مشترك لدى مخرجات العقل الأسطوري على امتداد التاريخ البشري، يتمثل بالدرجة الأولى في منشأ الدافع الديني وبواعثه السيكولوجية، والتي تهيّء التربة الخصبة لنشوء الأساطير ونسج الخرافات حول قصص الخلق وغيرها.

ومن ذلك مثلاً قصة الخلق في الحضارة البابلية، التي سبقت الأديان الإبراهيمية “التوحيدية” بما يقارب الثمانية عشر قرناً. فقد تحدثت ألواح ملحمة جلجامش الطينية المكتشفة في القرن التاسع عشر، بصياغة أدبية مذهلة، تحدثت عن كيفية خلق الآلهة للعالم، الأمر الذي استلهمه سفر “التكوين” في التوراة. حيث جاء في أحد الألواح البابلية التي عُثر عليها في مدينة سيبار، العراق اليوم، عن الإله مردوخ:

ثم وضع مردوخ مغرفة من قصب وضعها على وجه الماء

وعجن طيناً وسكبه مستعملاً المغرفة

فلكي يخلد الآلهة ويهدأوا في مساكنهم

خلق لهم الإنسان.

إلى جانبهم خلق لهم بذور البشر

ثم خلق حيوانات “سوموقان”

وخلق دجلة والفرات وحدد مجراهما

وأعلن اسميهما



ومن آلهة الأولمب إلى طواطم القبيلة البدائية وآلهة الهندوس الذين يعدّون بالمئات وربما الآلاف، إلى موروثنا الثقافي الذي يعجّ اليوم بروايات السحر والخرافة، تتنوع صور الميثولوجيا وتتداخل مع بعضها البعض لتوجيه الوعي الجمعي، الذي يعزو مصائب عصرنا إلى ما وراء الواقع، ويذهب للبحث عن مفاتيح الحل هناك أيضاً.

ومن هنا تبرز راهنية نقد العقل الأسطوري الذي يخطّ قاموس الوعي لدينا بمفاهيمه وينزع الغائية عن حركة الشعوب، ناهيك عن الهجمة غير المسبوقة لقوى الدين الفاشية على المنطقة في سياق ما يسمّى “الربيع العربي”، من التيارات التكفيرية الإرهابية إلى الإسلام السياسي “المعتدل” ومنابر الدين الخطابية. بالتالي، يصبح تنوير العقول في إطار العلمانية ضرورة ذات أسبقية، وليس خياراً مرغوباً وحسب.

جدل التنوير والعلمانية

منذر فجر التاريخ وظهور الإنسان العاقل Homosapien، عندما بدأت شذرات الوعي البشري بالتشكّل والتقولب لتتكيف مع الطبيعة، امتزج خوف الإنسان من هذه القوى مع أسئلة الحياة والموت التي أرقته لآلاف السنين، لتظهر أساطير عديدة حاول الإنسان من خلالها أن يبحث عن أجوبة ترضي عطشه للمعرفة. ولكن أي معرفة تلك؟

في المجتمعات القديمة، قبل انبثاق الثورة العلمية التي سبقت انحسار الإقطاع وتطور الرأسمالية من رحمه، لم تكن المعرفة العلمية ناجزة بعد ولم يكن لها ثقل يذكر في الفكر السائد. فالمعرفة التي تعطش لها الإنسان القديم تمحورت حول العالم الآخر الذي افترضه العقل الأسطوري، لأن فكرة الفناء على الأرض كانت بمثابة كابوس بالنسبة لمعاصري لتلك الحقبة، وما زالت إلى هذا اليوم تشكّل هاجساً كبيراً أنسى البشر أن يعيشوا واقعهم، بدلاً من التفتيش عنه بين الغيوم.

فالعقل الذي ساد لقرونٍ عدّة في الحضارة الهيلينية مثلاً أو العربية الإسلامية، لم يكن عقلاً علمياً بالمعنى الدقيق للكلمة (مع استثناء ابن خلدون الذي وصفه مهدي عامل في كتابه بأنه فكر علمي). كان بالأحرى عقلاً فلسفياً يسعى إلى فهم العالم ويستوحي العناصر العقلانية من أساطير القدماء لذلك الغرض، في حين أن اقتفاء أثر عصر التنوير العلمي يبدأ من القرون الوسطى الحالكة، حينما ثارت شعوب أوروبا على سلطة الملوك والإكليروس، أي الدين المؤسسي.

يعرض ماكس هوركهايمر وثيودر أدورنو في كتابهما (جدل التنوير) مهمة العقلنة وجدلية العلم والأسطورة، ويصفان ببراعة فحوى التنوير والغاية من نقد العقل الأسطوري: “يعتبر التنوير، وعلى مر الزمن، وبالمعنى العريض تعبيراً عن فكرة التقدم، وهدفه تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيداً. أما الأرض التي تنورت كلياً، فهي أرض تشع بشكل يوحي بالانتصار. كان برنامج التنوير برنامجاً يهدف لفك السحر عن العالم. لقد أراد التحرر من الأساطير وأن يحمل للمخيلة سند العلم”.

فالخوف من المجهول هو منشأ العقل الأسطوري بالأساس، وعند سبر أغوار المجهول وإنارتها لن يبقى ثمة وجود له. وهو ما يضطلع به العلم الحديث اليوم ويحاول إجابته بجدلية متصاعدة.

وحتى لا نبقى عالقين في فضاء المجرد؛ في مجرى الانتقال من العام إلى الخاص، تجدر الإشارة إلى بعض النقاط والاستنتاجات العملية، بهدف تفعيل النقد السابق ضمن ممارسة نظرية ونضالية لقوى التغيير الثوري، بعيداً عن الكليشيهات المستهلكة:

1. الدول التي تشعر بالتهديد من حرب الإقليم اليوم، تجابه التيارات الدينية المتشددة بنفس الآلية والأدوات البائدة، فتنزلق معها إلى تطبيق سياسات دينية صارمة كإجراءات احترازية (أحكام رمضان مثلاً)، ظناً بأن ذلك سيردع موجة التطرف التي اجتاحت المنطقة مؤخراً.

2. مواجهة النار بالنار لن تؤتى ثمارها سوى بالنار، كون الحالة التي يكتوي بنيرانها أبناء المنطقة بحاجة إلى عقل علمي نقدي وتنويري بارد، بعيداً عن الفهم الأسطوري للأمور.

3. استفحال موجة التطرف الديني في الآونة الأخيرة لا ينم عن أزمة في تضخم أجهزة الدين الرسمي وغير الرسمي فحسب، بل عن أزمة معقدة تعتلي النخب التقدمية التي أخلت الساحة منذ عقود. لا مناص من رد الاعتبار إلى المقاربة العلمية العلمانية في منهجية كافة الأحزاب الطليعية والثورية، كي لا يستمر تآكلها من الداخل نتيجة الضعف النظري والتنظيمي.

4. التغيير الثوري عليه أن يشمل كافة بنى المجتمع، لكي لا ننجرف إلى نزعة اقتصادوية بحتة بإقصاء البناء الفوقي من الممارسة العلمية الثورية. بمعنى أن نقد الاقتصادات التابعة والمتخلفة لدول المنطقة، ينبغي أن يكون متزامناً مع آليات نظرية تتصدى بالنقد للموروث التاريخي والثقافي المركّب، ووعيه الأسطوري الذي يهيمن على الحياة العقلية للمجتمع.

الأسطورة وقعت ضحية للتنوير، والعلم يوجّه طعناته لها في الخاصرة يومياً. فهنيئاً لنا “بالمتهم” الذي صار هو القاضي، وطوق النجاة في حياتنا. آن لنا أن نتجاوز الآن خوف الماضي ونصنع مستقبلنا بأدوات العلم الثوري، وبالحلم الذي لا يغادر رؤيتنا لهذا المستقبل.

______________________________________________________

المراجع والمصادر

1) الأسطورة والتاريخ – فراس السواح.

2) جدل التنوير – هوركهايمر وأدورنو.

3) غوته، مختارات شعرية ونثرية.

4) اللغة المنسية – إريك فروم.

* صورة المادة لوحة تجسّد أسطورة إغريقية عن ثيسيوس والمينوتور.