مصر : كانَ و الآنَ


شوكت جميل
2015 / 7 / 11 - 17:38     

باختصار ،ضاقت الرؤية قبل أن تضيق الصدور ، و ضاقت العقول قبل أن تتحرج الأفئدة ، و تعمَمت و تقلنست النخبة ، كما يتعمم و يتقلنس رجال الدين و سدنته ، فباتت حرية الرأي معلقة _أو قل مكبلة_ بالدين من ناحية ، و بالسياسة من ناحية أخرى.


إنصرم قرابة القرن من الزمن على إطلاق "إسماعيل أدهم "(1911_1940م) ، المفكر الفذ ، و عالم الرياضيات و الطبيعيات ، رسالته الضاجة في مصر " لماذا أنا ملحد ؟" ، و قد ذهب إلحاده فيها مذهباً فلسفياً علمياً ، يرتكن إلى نظرية الإحتمالات و المصادفة ، و قد كانت هذه إحدي موضعات رسائله للدكتوراة في الفيزياء النظرية عن حركة الغازات و الإحتمالات ، و قد حصلها من جامعة موسكو في حوالي العشرين من عمره !، و من هنا رفض قانون السببية و الحتمية ، فرفض أن تكون ثمّ علة أولى للكون أو قل رفض الغائية الإلهية من ناحية ، ثم رفض الحتمية المادية من ناحية أخرى ؛ فليس من علة في كوننا هذا سوى نظرية الإحتمالات و الصدفة...و يصنف أدهم الإلحاد إلى صنفين : إلحادٍ سلبي ، و إلحادٍ إيجابي.


أما الأول فأقرب إلى العدمية ، يكتفي بإنكار وجود الله ، ثم يقف عاجزاً أمام الكون تفسيراً أو تغييراً ، و هذا ما يرفضه فيلسوفنا النابه ،ثم إلحادٍ إيجابي ، و هذا مذهبه ، و يحمل لوناً من الإيمان و لكنه إيمان بالكون و بالعلم كمفسرٍ و مغيرٍ له ، كمعادل موضوعي للإيمان بالله عند الصوفي ، فيقول في تعريفه لإلحاده :( الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون في ذاته ، و أنه لا ثمة شيء وراء هذا العالم )....أما في إيمانه بالعلم فيقول :( ..خرجت عن الأديان و تخليت عن كل المعتقدات و استعنت بالعلم وحده و بالمنطق العلمي و أشد ما كانت دهشتي و عجبي أني وجدت نفسي أسعد حالاً و أكثر اطمئناناً ...)حتى يقول :(فأنا ملحد و نفسي ساكنة لهذا الإلحاد ، و مرتاحة إليه فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف في إيمانه"..!


و بطبيعة الحال في البيئات النشطة فكرياً ، و هكذا يجب أن تكون ، لم يعجب مذهب إسماعيل أدهم الكثيرين ، فانبروا للرد عليه ، فاطلق أحمد زكي أبو شادي رسالته ردا عليه "لماذا أنا مؤمن ؟" ، و اطلق محمد فريد وجدي رسالةً مفندا فيها مذهب أدهم أسماها "لماذا هو ملحد؟" ، و الحق لقد ارتكز كلاهما على المنهج العلمي في تفنيده ، و استعانوا برجال شتى من أهل الفلسفة و العلم الطبيعي و التاريخ الذين يذهبون غير مذهبه ، و يؤمنون بوجود الله...فغدت المسألة ترجيح رأيٍ على رأي ، و فكرٍ على فكر ، و عقلٍ على عقل ... و ليس مقصدنا هنا الدخول في تفاصيل المعركة ، فمعرفتها أمرُ يسير لمن شاء ؛ إنما اللافت و المفارقة هنا ، فعندما أدلى سدنة الدين برأيهم في المعركة ، و هذا هو غرض المقال ،فماذا حدث؟


بطبيعة الحال ، لم يكن للأزهر أن يفوت هذه المعركة دون أن يشارك فيها بسهم و أن يدلوا فيها بدلوٍ، فقام سدنة الدين كديدنهم بخلط الإمور ، و الإلحاد بالقضية إلى منحى سياسي ديني، ومن ثم استعداء القوى السياسية على المفكر إسماعيل أدهم ، فكتب شيخٌ من شيوخ الأزهر "يوسف الدجوي " سلسلةً من المقالات في مجلة الأزهر موسومه بـ" حدث جلل لا يمكن الصبر عليه " ، وكانت كل دفوعه لا تزيد عن التالي "(..رسالة أدهم درب من السخف و أن صاحبها يطعن في "دين الدولة" ،و مليكها حامي الدين و العلم ، و أن ما جاء يتناقض مع الفطرة الإسلامية التي جبل عليها سائر البشر ".،...و ما إن قرأ "الفرقاء التنويرين " مفردات كدين الدولة_ كذا كانت في دستور 1923_...و المليك حامي الدين و العلم..حتى ثارت الدنيا و لم تقعد ، فاجتمع الفرقاء على اختلافهم ،و قد ابصروا القيود على حرية الرأي تزف إليهم زفاً ،فانبروا في الدفاع عن أدهم ، و حقه في التعبير عن رأيه و إن اختلفوا معه ،فماذا قالوا؟...

أما أبو شادي عدو أدهم اللدود ، فقد اتهم الأزهريين بالعنت و الجهل و التعصب! ،و أوضح أن التمحك بمواد الدستور دون أخرى(يقصد بنود حرية الرأي_إضافة الكاتب) ،و استعداء الساسة على رجال الفكر يعد لوناً من الإرهاب و الاستبداد ،الأمر الذي يتعارض مع الدين و الدستور معاً..!

أما محمد فريد وجدي، وهو من التيار المحافظ فقال :(..بينما يكمن الخطر في قمع المجترئين على الدين ...و الحق أن من يسلك هذا المسلك لا يكشف إلا ضعف حجته و قلة علمه و يخفي جهله وراء حتمية التعصب )..

أما سلامة موسى ، و هو الرائد الكبير الذي ضرب قصبة السباق في مضمار التنوير ، فقد لفت نظره الإستقواء بالدستور الذي يكفل الحريات في تكبيل الحريات !،ففي دستور 1923 تنص مادة (49) (ان دين الدولة الإسلام ) ، بينما مواد (12) ، (14) ،(16) تكفل حرية الاعتقاد و الرأي و الفكر
_و كذا الدستور المصري الراهن و إن تغير من البنود ترتيبها_ فقال :( إلى أن الاعتراف بأن دين الدولة هو الإسلام لا يعني الحجر على حرية الملحد أو البهائي أو البوذي أو المسيحي)..إلى أن يصف أسلوب يوسف الدجوي بأنه( يفتقد أدب الكتابة و أصول النقد شأن المتعصبين من شيوخ الأزهر الذين يسيئون للإسلام بكتاباتهم و حجرهم على حرية الفكر)..


سؤال المقال
كم من النخبة المصرية من سيقفون بجوار مفكر حر أو حتى مجدد ديني ،تجره المؤسسات الدينية إلى المحاكم و السجن _طبقا للدستور _لإخراسه ،حتى و إن اختلفوا معه في الرأي؟!