آلية المماثلة و انتاج النصوص


محمد فيصل يغان
2015 / 7 / 8 - 04:33     

مقدمة ضرورية: إذا ما اختزلنا الوعي في لحظتين: لحظة إيمان ولحظة علم, نجد أنَّ الإيمان هو الإدراك الحدسي لوجود الشيء مع استحالة الانتقال إلى الإدراك الموزون لكيفية هذا الشيء, أي وبعبارات كانتية استحالة الانتقال من الشيء لذاتي إلى الشيء بذاته. أمّا العلم فهو بالضبط ذلك الانتقال من الشيء لذاتي اي من الإدراك الحدسي إلى الشيء بذاته أو الإدراك الموزون للكيفية.
تعريف للمماثلة: التوسع والتفرع في عملية القياس كأداة لاكتساب المعرفة (أو سواء في قراءة نص ما أو انتاجه) تصبح ما يسمى مماثلة أو تمثيل. والمماثلة عموما كأداة من أدوات العقل التحصيلية هي الآلية الرئيسة التي يقوم عليها الفكر في لحظة الحدس, ويعتمد مدى الشطط في المماثلة على درجة الغموض في المعطيات وندرتها, إذ تصبح العلة (الحد الأوسط) التي يقوم عليها الحكم العقلي واهية, والمماثلة هي آلية شعرية, وتقوم على اختصار سلسلة كاملة من القياسات العقلية بخطوة واحدة مما يمنح الشخص شعورا بالمتعة, متعة الكشف (وهذا سر كونها آلية شعرية) لا توفره عمليات القياس والاستقراء المنطقي. وإذا ما اعتبرنا أن المتعة هي تكثيف لإحساس مرغوب في لحظة زمنية قصيرة (وهي آلية مشتركة مع الألم وتفسر الارتباط ما بين الشعورين وبالأخص في الحالات المرضية), كأن نركز نكهة ما في لقمة واحدة أو تركيز الطعم الحلو في قطعة الحلوى في حالة الذائقة الفمية أو أن نكثف متعة الاكتشاف في لحظة انكشاف عرفاني (لحقيقة) ما من خلال تجاوز الألم والملل المرافق لعميات البحث والتقصي العقلي, فإنَّ المماثلة تصبح آلية ممتعة سواء كانت لوضع الفرضية ضمن البحث العلمي أو للوصول لانكشاف عرفاني وتثبيته كحقيقة مطلقة من خلال تجنّب البحث والتقصي العقلي (سمة الفكر العرفاني الحدسي)
للماثلة كما للقياس تطبيقات في مجالات واسعة عدة, ومن الأمثلة على التطبيقات العملية لهذه الآلية نجده مثلا في مجال اللغة, (و ما البلاغة لغويا الا القياس و قد أصبح مماثلة و تمثيلا) وبالذات في الشعر والخطابة حيث تكون المماثلة في الصيغ الأدبية عماد الخطاب الأدبي, وبرأينا فإنّ مصطلح (ميتافورا) الأرسطي هو المماثلة بعينها وهو مصطلح شامل لكافة أشكال تمظهر المماثلة في فنون اللغة والذي تمّت ترجمته إلى العربية بتطبيقاته الجزئية, فهو تارة النقل وتارة الاستعارة وتارة أخرى مجاز.
توظيف المماثلة أو أشكال الميتافورا في النصوص الأدبية وفي الشعر بشكل خاص هو مبرر بل ومطلوب, إذ إنَّ اللذة التي تثيرها النصوص الشعرية تتناسب حسب أرسطو مثلا وغرابة النص والتعجب الذي تثيره . فتشبيه خد الحبيبة بالوردة مثلا, هو انكشاف حدسي لكون الوردة وخد الحبيبة يثيران نفس الشعور في نفس الشاعر وذلك من خلال مماثلة حدسية تجاوزت سلسلة من التحليل العقلي المؤدي لنفس النتيجة, مع فارق أن المماثلة قد كثفت الانكشاف في لحظة قصيرة مسببة المتعة, في حين أن التحليل العقلي يفرغ هذا الانكشاف من متعته من خلال خطوات التحليل المنطقية المطولة. فمتعة الانكشاف إذن والعجب منه هما نتيجة تراكب عناصر كانت تبدو في ما سبق بيت الشعر متباعدة، فإذا بها تستقر في نفس المتلقي حدسيا و دون استئذان من العقل الموزون أو محاكمة عقلية موزونة.
أمَّا بخصوص رمزية اللغة الأدبية والحاضنة للفكر الحدسي وبالمقارنة مع رمزية اللغة (الرسمية) الحاملة للفكر الموزون, نجد أنَّ الرمز في الحالة الأولى يقوم على علة أو دالة تربط ما بين الرمز والمرموز له ناتجة عن تجربة الفرد الخاصة على مستوى الحدس (في حالة الحلم مثلا يمكن أن يرمز المطر لأشياء أو حالات مختلفة باختلاف الحالمين) أو على تجربة حدسية مشتركة بين مجموعة من الأشخاص (التصوف مثلا), أو تجربة شعب ما كما في حالة الأسطورة. أمّا في الحالة الثانية, فالرمز هو مصطلح عليه من قبل الجميع, ولا توجد ضرورة لأية علاقة دلالية سواء من تجربة أو بالتداعي ما بين الرمز والمرموز له, وبالتالي يكون الرمز المصطلح عليه حياديا بمعنى أنّه لا يحمل أيّة تداعيات حدسية خاصة بالمرسل أو المستقبل للرمز.
من هنا تتجسد المماثلة /الميتافورا من خلال توظيف الرمز المصطلح عليه بما تمليه تجربة الشاعر أو الحالم الخاصة, ومن هنا أيضًا يمكننا القول بأنَّ الشعر خصوصا والأدب عموما هو استخدام (غير شرعي) للغة, أي استخدامها لغير ما وضعت له اصطلاحا.
إذن هناك لغتان, الأولى لغة الفكر الموزون وغايتها الاتصال ولغة الفكر الحدسي وغايتها التواصل. في الحالة الأولى يتم التعامل ضمن المنظومة الجمعية للرموز المصطلح عليها, فجهاز ترميز المعلومة عند الطرف المرسل وجهاز فك الترميز عند المستقبل (حسب النظرية المعلوماتية) متجانسان, فلا مجال لإسقاطات ذاتية على الرمز في أطراف المنظومة المرسل منها أو المستقبل. وبالتالي فإن ما يقوم به المستقبل هو تفسير أو بالأصح ترجمة للنص المتلقى. هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإنَّ صحة المعلومة موضوع عملية الاتصال قابلة للتفحص و تعتمد على مرجعية العقل وأدوات الفكر الموزون, أي أنَّها قابلة للصدق والكذب وبالتالي للتحقق بالبرهان والتجربة. والنتيجة النهائية المرجوة لعملية الاتصال هي توليد إدراك حسي ووعي موزون بحدث م لدى المتلقي و مشاركته بالمعلومة.
أمّا الحالة الثانية, أي التواصل, فتعتمد لغة خاصة في إطار منظومة خاصة ومعزولة للتواصل مبنية على رموز تطغى عليها ذاتية المرسل والمستقبل في آن, وما ينتج عن هذا الوضع من تشويش للمعلومة المحمولة, والنتيجة أنْ لا مرجعية عقلية لصحة المعلومة بل المرجعية تحددها علاقة المرسل- المستقبل. أي أنَّ المستقبل يقوم بتأويل نص الخطاب حسب ما يراه هو كمحمول في رموز الخطاب. فالتواصل على مستوى الصداقة مثلا يعتمد مرجعية مبنية على طبيعة علاقة الصديقين و و مجموعة الرموز التي طوراها معا في تجربتهم المشتركة, وهكذا في الحب وفي مستويات أعمّ كالطائفة الدينية مثلا. و النتيجة المرجوة من التواصل هي انخراط المتلقي حدسيا في الظاهرة و مشاركة المرسل في معايشتها لتصبح جزءًا من ذات المتلقي وخبرته الباطنية.
إذن فالرسالة الفنية أو الأدبية لا تخاطب المستوى المتقدم من الحكم العقلي ولا تستثير أدوات الفكر الموزون , بل تتوجه مختصرة المسافة والزمن ومتجاوزة المحاكمة العقلية إلى المستوى الحدسي لتنزرع في وجدان المتلقي فيحصل التذوق و المتعة بدلا من التساؤل و النقد المتمثل في إخضاع العمل الأدبي للمحاكمة العقلية. وهذا يفسر الطابع الإبداعي لطقوس الجماعات المتدينة من شاعرية النصوص إلى مسرحية الاحتفاليات, وكون الطقوس الدينية البدائية هي أصل الفنون المدنية، و من هنا (لا عقلانية) المواقف التي تبنى على ما استساغه الحدس، و من هنا أيضا خطورة الخطاب الموجه للحدس بتغييبه للعقل لدى جمهور المتلقين و تلاعبه بالمشاعر و الغرائز. من منا لم يشاهد خطيبا مفوها يشعل حماسة الجماهير و يسيرها كالأنعام بهكذا خطاب علما أن البحث و التحليل العقلاني الموزون لمحتوى الخطاب سيكشف لاعقلانيته و هشاشته لينفض عنه جمهوره رافضا ساخطا.
تم على مدى التاريخ التوظيف الواعي لهذه القدرة على برمجة وعي الجماهير و الكامنة في الخطاب الحدسي المبني على آلية المماثلة، وغالبا ما تم توظف هذه الآلية تبريريا لتسويق موقف إيديولوجي معين, ويقع ضمن هذا السياق مثلا في الفكر المسيحي, إقحام القديس أوغسطين (أحد أهمّ مؤسسي الفكر المسيحي) للإرادة (بمعناها الغائي) INTENTIO على الحواس والعقل (الأرسطي) ليشكل ثالوثا للمعرفة في الإنسان مماثلا للثالوث المقدس. فكما أنِّ الروح القدس يلعب دورا وسيطا بين الأب والابن, فكذلك تلعب الإرادة لدى أوغسطين دور الوسيط بين الموضوع وأدوات المعرفة (العقل والحواس) أي أنه يخلق بالمماثلة شاهدا (الإنسان) على صورة تبرر تصوره للغائب (الإله). أما في الفكر الإسلامي فأمثلة توظيف المماثلة فعديدة, نذكر هنا كمثال آية النور (الله نور السماوات و الارض, مثل نوره كمشكاة فيها مصباح, المصباح في زجاجة, الزجاجة كأنها كوكب دري, يوقد من شجرة مباركة زيتونةو لا شرقية و لا غربية, يكاد زيتها يضيئ و لو لم تمسسه نار, نور على نور يهدي الله بنوره من يشاء) النور: ٣-;-٥-;-. فالمفكر العرفاني يقرأ هذه الآية في مدار بحثه عن ما يؤكد ويدعم النموذج الحدسي القائم بذهنه مسبقا, فإذا كان نموذجه الشاغل هو مكانة علي وفاطمة والحسن والحسين في نموذجه الأسطوري, فسر النص كما الإمام جعفر الصادق من خلال مماثلة المشكاة والكوكب الدري بفاطمة و علي وكذلك الحسن والحسين بالمصباح والزجاجة. أمّا إذا كان نموذجه الشاغل هو نموذج العقل الكلي العرفاني , فسر النص كما الطائفة الإسماعيلية من مماثلة العقل الكوني بالنور الإلهي والمشكاة بالنفس الكلية والمصباح بالصورة الأولى إلى آخر هذه المماثلات.
من المناسب في نهاية هذا المقال طمأنة عشاق اللغة العربية والقلقين على مصيرها أمام ما يسمونه بالغزو الثقافي وتغلغل اللغات الأجنبية إلى عقر دارها فنقول, إنَّ اللغة العربية ستبقى لغة التواصل دائما, وإنّ اللغات الأجنبية غير قادرة على القيام بهذا الدور إلا لدى قلة متمرسة جدا باللغات الاجنبية, وإنَّ دورها يقتصر على منازعة اللغة العربية كلغة اتصال (الاعتماد المتزايد على اللغات الأجنبية في العلوم الدقيقة). وكلما ازدادت وتيرة المساهمة العربية في الإنتاج العلمي العالمي, كلما تأصَّل دور اللغة العربية كلغة اتصال ليس فقط محليا وإنّما عالميا أيضًا. فمن ينتج العلوم يفرض لغته كوسيلة اتصال, ومن يقصر اهتمامه على الوجدانيات يقصر لغته على التواصل.