من معاني المنفى... إلى خليل شوقي وهو يرحل غريباً في منفاه...


أحمد الناصري
2015 / 6 / 29 - 13:39     

1-
المنفى، ذلك الجب (المقلب والبئر الذي لا مخرج أو مفر منه) الآخر، البعيد والعميق والمختلف... فما أن يخرب وطنك، مكانك الأول، ويطردك ويطاردك ويلاحق بقاياك وأحلامك، حتى يخرب المكان البديل، بالتوالي والتتابع اللامنطقي ذاته...
المنفى، زنزانة مفتوحة على داخلها، تخرج منه لتعود إليه، كما في متاهة الضياع وعدم الشعور بالاستقرار...
المنفى هو أن تكون (بعيداً عن السماء) والأشياء الأولى. المنفى عملية تخريب العلاقة بالمكان الأول، وعبث عنيف ومؤلم به.
المنفى، نقار خشب دؤوب وعنيد، يحفر في خشب الذاكرة والذكريات، دون كلل أو ملل، حتى يحيلها إلى رماد، ويلتهمها دون توقف، كي تقترب النهاية بانتهاء طاقة وكمية الذكريات، التي هي طاقة الجسد وحطامه وبقاياه...
المنفى، طاحونة ذكريات وعقارب ساعة، لا تتوقف عن صريرها المدوي والمؤلم...
المنفى تخريب لوظائف الروح والعين، وهما تستديران وتبحثان دون جدوى. تبحثان وتحدقان، عن وفي المكان الأول.
المنفى شعور وتحسس دائم بشوكة الحزن تنغرس عميقاً في حلقك وروحك من الصباح إلى المساء...
المنفى مكان معاكس وغريب عنك وعن رغباتك وبيتك وأشياءك الأولى واسمائها المحلية ولكنتها المحببة، وما تركته من شوارع وجذور وعادات واخطاء يومية ونهر وشبابيك مضيئة في عتمة الليل في مدينتك البعيدة...
المنفى أرجوحة الأحلام والأمنيات المعلقة أو الضائعة في هواء البعد ومجازه...
المنفى هو العلاقة التي تبقى مرتبكة وغامضة وقلقة بالمكان الأول والثاني، ومحاولة فاشلة لبناء وترميم الجسور المتقطعة مع المكان الأول والسماء الأولى... لأن المنفى في معانيه العميقة هو الفراغ بين مكانين، الأول طردك ولاحقت، والثاني لا يعرفك، وهو ليس لك، رغم وجودك فيه...
المنفى الحل الناقص لمشكلة وجودك وعيشك وحريتك ورغباتك العميقة...
المنفى ليس خيارك الحر، فهو الحل الإجباري والشرك الملون (الغواية) قبل أن تدخله وتعرف حقيقة المأزق، التي تبقى من دون حل...
المنفى، حالة من الانتظار والعزلة (أن تمل من الانتظار والضجر). أن تظل تنتظر وراء بابك الغريب الموصد، خبراً أو رسالة، قد لا يأتي ولا تصل، وتنتظر زائراً لا يطرق بابك. ففي سنين المنفى طالما تتحسس أعضائك ومفاتيحك القديمة فتجدها موجودة خارج المكان الأول...
الحنين والقبض والسيطرة عليه والتخلص منه (تجميده أو تعليبه أو نفيه) عملية غير ممكنة لا تنجح إلا بتحطيم الذاكرة ذاتها او تلفها وهذا امر آخر. حتى من يدعي التخلص من الحنين إنما يمارسه (يحن) بقوله هذا.
المنفى نزف (نضح) خفي لا تبصره العين...
أخيراً، المنفى، محطات الصدى. كل أشيائك المؤجلة والمعقلة والمنتظرة. المنفى بيتك الأخير، المستعار، غير الحقيقي. مكانك القلق والمرتج غير الثابت. قد يصبح قبرك القادم، البارد والغريب، رغم كل أناقته...
إذا أردت أن تستزيد عن معاني المنفى فاحسم أمرك واقرأ رسالة التوحيدي في الغربة والاغتراب، فهي جامعة مانعة!

2-
بعد كل هذا، وبهذا المعنى المعروض والمحدد عن معاني المنفى ودلالاته. وهو قليل. ماذا ستكون تجربة الفنان خليل شوقي في الخارج أو المنفى؟
سيرة الفنان خليل شوقي الفنية والشخصية معروفة وشائعة إلى حد كبير، وهو من أعمدة الفن والثقافة العراقية، ومن علاماتها المضيئة والراسخة في جيل الرواد والتأسيس والبناء والاكتشاف والتنوع المذهل. فهو ممثل ومخرج وكاتب، عمل في المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما، وساهم في تأسيس الفرق المسرحية وأقسام الإذاعة والتلفزيون والسينما، على مدار ستين عام.
خليل شوقي صاحب تجربة غنية وعميقة، بمستوى عربي وعالمي مذهل، بخصائص شخصية وفنية نادرة. ذلك بيته وكيانه ومعنى وجوده الذي أقامه على المسرح ومن خشبه وكلماته. أنه بناء ووجود شامخ ومعروف ومؤثر، احتاج إلى جهود فردية وجماعية دؤوبة ومتواصلة لكي يتحقق ويستمر ويؤثر بأجيال من الناس، ممثلين ومتلقين.
كل ذاك الوجود والبناء الضخم والجميل، بشواهده ومعالمه البارزة ودلالاته، مع كل ما كان يقف عليه ويشترك به ويشاركه، قد ابتعد عنه وأصبح خارجه وليس له، ثم شاهده ينهار ويحترق ويتحطم ثم يتبدد، دون ان يستطيع الوصول أليه أو انقاذه أو حتى مشاهدة وجمع الحطام، عدا عن المشاركة في الترميم وإعادة البناء الغائب والمفقود.
كيف لكائن مسرحي حقيقي مثله أن يترك خشبة المسرح ويعيش خارجها دون مواعيد التدريب والعروض والحوار والنقد ومعزوفة تصفيق الجمهور المتواصل والطويل؟ هل يعيش طائر الماء خارج الماء مثلاً؟ أم سيفقد اسمه وصفاته؟
كأنها تلك محنة وحالة خليل شوقي (الإنسان والفنان وما بينهما) في وضعه الجديد البعيد عن كل أشياءه، وكل ما تركه هناك، وفي عمره المثقل بالأحلام والهموم والآمال العريضة والجميلة وحالته الصحية الجديدة...
هو الان جاري في مدينة لاهاي الهولندية في شارع توسكنيني (الموسيقار الايطالي الذي رفض العزف لموسليني ولم يقتله!) وهو حي هادئ وجميل وبسيط، يتكون من شوارع للموسيقيين مثل باخونيني وروسليني وشارع كبير باسم موزارت. أنها مجرد مصادفة عابرة، ربما تحمل شيئاً من دلالة وفرح ورمزية ما جميلة، ان يقيم فنان ومثقف في حي يحمل اسماء الموسيقيين!
كانت نافذة مطبخي تطل على حديقة بيته الصغيرة، وكنت اراه في الصيف السريع والخاطف، وهو يقرأ أو يسقي زهوره الجميلة. وقد صورته دون ان يدري ومزحت معه بأنني أتجسس عليه صداقياً وضحكنا.
كنت أزوره أو نلتقي دائماً عند الباب، وهو يسير بطيئاً وئيداً في مشاويره القصيرة، التي هي رياضته وفسحته المتبقية. فنتحدث عن العراق وألم الفراق وذكريات بغداد الأزل والمسرح والثقافة والفن والناس والأصحاب والغربة. ويبقى الحديث يدور عن العراق. فليس سوى عراق.
كان بتجربته العميقة والطويلة والواضحة، بالوعي العملي التطبيقي المتراكم، يعرف أسس الوضع والأزمة والنتائج بشكل واضح ودقيق ومتسلسل. كان يعرف أصل الحكاية والنهاية. وهذا ما يزيده حزناً وألماً وهو يرى مدينته بغداد وهي تحترق وتتلطخ بالدم والأوساخ والتخلف والخراب العميم!
خليل شوقي عاش كما يريد لكنه مات لا كما يريد، لأنه مات بعيداً عن بغداد. فقد ملأ ايامه بعبق المسرح والفن والثقافة وجدل الحياة وقضايا الناس وأحلامهم وهمومهم، في يوم مزدحم لا يكفي وقته للعمل والتنقل بين الكتابة والاخراج والتمثيل في المسرح والاذاعة والتلفزيون ودائرة السينما والنشاطات الفنية والثقافية الأخرى، في سلسلة متصلة ومنسقة بشكل دقيق. أنها دائرة وشبكة من العمل والإبداع والنشاط لا تتوقف ولا تنقطع، إلى أن توقفت وانقطعت فجأة وبشكل كامل وتام ومحزن وربما غير متوقع، ولم يبق منها غير الصدى والذكريات والصور...
لقد فشلت محاولات كثيرة لإقناع الفنان خليل شوقي كي يسجل تجربته الطويلة بالكتابة أو بالصوت والصورة، لكنه قاوم هذه المحاولات وتهرب منها. ربما كان صحيحاً ما طرحته أبنته الفنانة مي خليل شوقي، عندما قالت إن طول تجربة خليل شوقي وتنوعها وثرائها جعلته مترددا وربما حائراً من أين يبدأ! وقد جربت معه محاولة التسجيل وفشلت.
وقد نجح الصديق زهير الجزائري في تسجيل أكثر من عشرين ساعة معه حول التجربة بعدسة الفنان قتيبة الجنابي، ستكون مفيدة لكنها ناقصة حتماً. ومن المؤكد إن الفنان خليل شوقي قد ترك أوراقاً وأشرطةً كثيرةً يمكن الاستفادة منها في عرض ومعرفة تجربته الغنية والنادرة، مع هذا فقد خسرنا الكثير من تفاصيل تجربة كان لا يمل من سردها وتكرارها، كمعادل ناقص وتعويض عن وجوده خارج المكان، دون أن يسجلها.
كان الفنان الراحل خليل شوقي محباً كبيراً للحياة والناس والفن والثقافة، وقبل كل شيء لمدينته بغداد ووطنه العراق. وقد مات حزينا، لآنه مات خارجها وبعيداً عنها!
خليل شوقي، الإنسان والفنان والمثقف، عاش بطاقة الحلم والعقل، وبقلب طفل نظيف، لا يمل من شيء. وهو عاش كما يريد ومات لا كما يريد، لآنه مات خارج وبعيد عن مدينته بغداد، وقد اغلق عيناه على وطن مدمر!