برنامج الحزب الشيوعي السوداني - العدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية - من يصالح من؟


نجاة طلحة
2015 / 6 / 25 - 10:21     


بعد رصد وتقييم سيناريو الحلقة الشيطانية التي تمثلت في سلسة الأنظمة الإستبدادية التي أجهضت الديمقراطية في البلاد عقب كل الثورات وكل تضحيات الثوار ليذهب المجرمون طلقاء ويتكرر نفس السيناريو، إتفقت المعارضة بمختلف تياراتها علي ضرورة المحاسبة الصارمة عند ذهاب نظام "الإنقاذ". إن ورود المصالحة الوطنية ضمن مقترح العدالة الإنتقالية في برنامج الحزب إستنساخ لنموذج لا ينطبق علي الحالة السودانية وقد يشكل ممرا آمنا يمهد لإفلات الطغمة الإجرامية الحاكمة من العقاب ويشوش على مسار الملاحقات القضائية. فالحالة السودانية لا تحتمل وجود المصالحة ضمن بنود هذا المقترح وكم من تجارب مرت علي السودان أفلت المجرمون من العقاب جراء مثل هذه المفاهيم. صحيح أن المقترح يتضمن تقديم من تثبت إدانته للعقاب لكن في التجارب المماثلة إستفاد المجرمون من الثغرات التي تمثلت في إعتماد أساليب متراخية للعدالة الإنتقالية وإعتماد وسائل إستثنائية. مثال لذلك تجربةغواتيمالا فبحسب المركز الدولي للعدالة الإنتقالية " بعد سنين بذل خلالها الضحايا جهودهم كلّها، لم تتمّ مقاضاة سوى القليل من القضايا ، بينما لا تزال عشرات منها في متاهة من الإهمال المؤسّساتي وفقدان الأدلّة وتكتيكات التأجيل القضائي." فما بالك وتجربتنا المتكررة في السودان خير شاهد على فلتان المجرمين من العقاب. إن التصدي لتعقيدات العدالة الإنتقالية هو أول إستحقاقات الديمقراطية وفيه تكمن الضمانة الأُولى لإستدامتها وأولى خطوات طريق الخلاص من الدائرة الشيطانية، وفشله يعني بداية الإنتكاس ووصل حلقات هذة الدائرة.
المصالحة الوطنية هي معالجة إستثنائية لظروف غاية في التعقيد فالإحتكام الي مبدأ المصالحة الوطنية في كل التجارب التي طبق فيها جاء تحت ظروف معينة لا تترك كثيرا من الخيارات غير لملمة الجراح والإنطلاق فوق تراكمات الماضي. خصوصية الظروف التي فرضت هذا الحل تجعل إستنساخه أوإعتباره نموذج قابل للنقل في كل تجارب العدالة الإنتقالية مستحيلا, فليست كل تجارب الشعوب متشابهة ولكل تجربة ظروفها وعمقها التاريخي وطبيعتها. مثال لذلك لجان الحقيقة والمصارحة التي كُشفت بمساعدتها أماكن المختطفين في التجربة المغربية والجرائم الغامضة التي وقعت قبل مرحلة المصالحة الوطنية فكانت هذه اللجان ضرورة إقتضتها الحاجة لكشف تلك الخبايا. لكن في حالة طغمة "الإنقاذ" فكل الجرائم مرصودة وكثير من ضحاياها وشهودها أحياءً ومعظم الجرائم موثقة بواسطة منظمات حقوق الانسان. هذه الطغمة كانت سافرة في إرتكاب جرائمها من قتل خارج نطاق القانون وحرق القرى بساكنيها وإستهداف المدنيين بابادتهم لأغراض ترك المجال الجغرافي مفتوحا للتنقيب عن البترول تارة والإستهداف بالإبادة العنصرية تارة أخرى أولإسكات الصوت المطالب بالعدالة في توزيع السلطة والثورة كما يحدث في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. مثال لذلك جرائم حرق القري بمن فيها في جبال النوبة فشهود تلك الجريمة أحياء والتجربة مرصودة بالعديد من منظمات ونشطاء حقوق الإنسان. أما جرائم الإغتيالات والتعذيب والإغتصاب في بيوت الأشباح وقتل المتظاهرين السلميين بدم بارد فهي مثبتة ولا تحتاج للإعتراف والمصارحة.
هنالك عامل مشترك في طبيعة معظم الصراعات التي طبق فيها مبدأ المصالحة الوطنية ونجح الي حد ما حتى في تجربة جنوب أفريقيا وهي أشهر تجارب المصالحة الوطنية. فبحسب المركز الدولي للعدالة الانتقالية "لعبت تجربة جنوب أفريقيا في مواجهة إرث من التمييز العنصري دورًا هامًّا في تطوير مجال العدالة الإنتقالية، ولكن ثمّة قضايا كثيرة بحاجة للمحاسبة حتّى الآن. يعمل المركز الدولي للعدالة الإنتقالية في جنوب أفريقيا في دعم حقوق الضحايا والطعن بإفلات مرتكبي الجرائم من العقاب." العامل المشترك في غالبية هذه التجارب هو أن المجتمع عانى من صراع دموي بين مكوناته وتأتي المصالحة الوطنية لإنهاء حالة العداء والعنف بين الفرقاء الذين مارسوا عنفا متبادلا.
ففي حالة جنوب أفريقيا إشتدت وتيرة العنف بين الجانبين بعد أن تبنت بعض فصائل السود المقاومة المسلحة والإغتيالات فكان صراع دموي تبناه الجانبان بعد أن كان نظام التفرقة العنصرية لقرون يمارس العنف من جانب واحد والذي أصبح تحت غطاء قانوني كفله نظام الأبارتايد منذ العام 1948. كذلك ظهرت مشكلة في تطبيق المحاكمات التقليدية وهي عدم إمكانية تحديد الفترة الزمنية التي ستشملها المحاكامات فالقضية إستمرت لثلاثة قرون ومحاسبة الجيل الحالي علي ثقافة وأعراف هي أرث لمئات السنين قد يحمل بعض الظلم لهؤلاء. كل هذا شكل واقعا إستثنائيا وجب معه البحث عن حلول إستثنائية. فجاء مقترح المصالحة في سياق التحضير لنهاية نظام التمييز العنصري وترسيخ نظام جديد بالمطلق بتغيير نهج الإضطهاد العنصري الذي تأسست عليه دولة جنوب أفريقيا منذ قيامها قبل ثلاث قرون. فخصوصية النموذج الجنوب إفريقي فرضت المصالحة الوطنية كشكل للعدالة الإنتقالية لذلك فإن المحاكمات الشعبية توصلت في غالبية الأحيان الى تسويات غير جزائية.
كذلك في تجربة البيرو كانت هنالك نذاعات داخلية عنيفة خلفت آلاف القتلي والمختفين فكان الصراع بين الحكومة والحركة الثورية (توباك أمارو) وموجات العصيان العنيفة التي أطلقها "الممرّ المضيء" أُرتُكِبت خلالها إنتهاكات مريعة ضد المدنيين جراء العنف بين الطرفين. فالعنف في التجارب التي طُبقت فيها المصالحة الوطنية غالباً كان بين أطراف وليس من طرف واحد وديباجة هذا البند في مشروع البرنامج كفيلة بالإجابة: "مارس نظام الإنقاذ مدى ربع قرن من الزمان، انتهاكاً لا مثيل له للحريات والحقوق، وتنكيلاً لم يعرفه تاريخنا الوطني، بكل من اشتبه بمعارضة له، فاغتال وعذب وسجن واعتقل في السجون الرسمية وفي بيوت الأشباح ، كما شرد من الخدمة آلاف القادة السياسيين والنقابيين والعسكريين وناشطي المجتمع المدني و العاملين." هل نطلب من ضحايا "الإنقاذ" وهم مجمل الشعب السوداني المصالحة مع هؤلاء القتلة. كل من أجرم في حق الشعب السوداني بطريق مباشر أو غير مباشر يجب أن يخضع للمساءلة والمحاكمة. إن تطبيق العدالة الإنتقالية بعد نهاية الأنظمة التي مارست الإرهاب ضد مواطنيها يكون دائماً من خلال الملاحقات القضائية والدعاوى الجنائية التي تخضع لقواعد القانون الجنائي، أوقواعد القانون المدني لرد الحقوق المدنية العامة و الحقوق المدنية للأفراد الذين تضرروا من النظام.
يمكن أن يقال أن التجربة السودانية من حيث إعتبارالإنتقال من النظام الديكتاتوري الي الديمقراطي تشابه التجربة الأرجنتينية في أعقاب سلسلة الإنقلابات العسكرية من العام 1976 إلى العام 1983، والتي أُرتكبت فيها جرائم القتل والتعذيب والإختطاف. التجربة الأرجنتينية تشابه السودانية في أشكال القمع والجرائم ضد المواطنين ولكن كان هنالك عائق لتنفيذ المحاكمات القانونية التقليدية فتلك الجرائم أًرتكبت خلال سلسلة من الأنظمة العسكرية التي إستغلت صغار الضباط والموظفين الحكوميين في تنفيذ جرائمها فأصبح هؤلاء مسئولين غير مباشرين تجب محاكمتهم حين الإحتكام الي القانون التقليدي الذي لا يفسح الطريق لأي إستثناءات لكن من وجهة أخرى هم كانوا بدورهم ضحايا للقمع, لكن هذا لا يعفيهم من المساءلة القانونية. وبذلك تشكل الظرف الخاص الذي فرض شكل محاكمة إستثنائي. وحتى في هذا الظرف الإستثنائي فقد نُفذت معالجة لم تكن المصالحة جزء منها وطُبق نظام أطلق عليه "العدالة الاصلاحية" ومن هنا نجد أنه حتي وفي حالة الإضطرار الي تطبيق العدالة الإستثنائية تُبتكر الوسائل التي تمكن من محاسبة المسئولين عن الجرائم ضد شعوبهم، وتعزيز سيادة القانون. و بحسب المركز الدولي للعدالة الانتقالية "في العام 1985، جرت بنجاح ملاحقة قضائية لتسعة أعضاء سابقين من الطغمة العسكرية في محكمة تاريخية أدّت إلى إدانة الرئيسَين السابقَين، جورج رفائيل فيدلا وروبرتو إدواردو فيولا، والأدميرالَين إميليو إدواردو ماسييرا وأرماندو لامبروشيني، والعميد في الجيش أورلندو رامون أغوستي." لكن برغم ما بُذل من جهود في ملاحقة الجناة ومنع مرتكبى الجرائم من الإفلات من العقاب فإن هذه المهمة لم تكتمل حتى الآن ومنذ العام 2010 رُفعت دعاوى جنائية ضدّ 800 متّهم، وصدرت أحكام بحقّ 200 متّهم. لذلك فإن تلك الوسيلة الإستثنائية والتي أُطلق عليها العدالة الإصلاحية لا زالت تتعثر حتى الآن وبعد مرور إثنين وثلاثون عاما علي إنطلاقها. إن التجربة الأرجنتينية رغم تشابهها من حيث الإنتقال من اليكتاتورية الى الديمقراطية فأن التعقيدات التي عاقت إستخدام وسيلة العدالة الكلاسيكية لا تنطبق علي التجربة السودانية إذ لا يوجد عسكريين أو مدنيين أجبروا علي إرتكاب الجرائم بل المسؤولون الوحيدون هم قادة ومنسوبو النظام والذين يمكن ملاحقتهم بشكل مباشر ومعاقبتهم على ما إرتكبوا من جرائم.
كذلك يُحتكم لمبدأ المصالحة الوطنية عند اليأس من التغيير والعجزعن إسقاط الأنظمة القمعية بعد طول نضال لإزالتها فتلجأ المعارضة لطرح المصالحة الوطنية. إذا كان هذا هو الأساس الذي اُستند اليه في إقتراح المصالحة الوطنية فهذه صفعة غادرة لكل التضحيات التي قدمها الشعب السوداني في معركته مع هذا النظام. لا يمكن أن نصل الي هذه الخاتمة والشعب لازال يناضل ويستبسل بمختلف الوسائل العسكرية والسياسية. وهنالك مسألة يجب الإنتباه لها فانه حتى في حالة تطبيق هذا المبدأ الميكافيلي البغيض بالمصالحة مع النظام كوسيلة للوصول للديمقراطية فإن هذا النظام لن يستسلم. فهل نطلب من مطارد من المحكمة الجنائية الدولية هو وكبار مسئولي حكومته الجلوس الي طاولة المصالحة، وهل يمكن أصلاً أن توفر المصالحة حماية له من المطاردة الدولية. هذا ما يجب أن يوضع في الإعتبار عند طرح هذه العملية كمشجع لتخلي الطغمة الحاكمة عن السلطة بضمان هروبها من المحاسبة كما حدث في تجارب بعض الدول التي إعتمدت المصالحة كوسيلة للتغيير. لذلك لن يجدِي هذا الطرح بالوصول لإتفاق مع مجرمي طغمة الإسلام السياسي.
هنالك إحتمال تفسير آخرلإقتراح المصالحة الوطنية وهو إستثناء الشرائح المنشقة من صفوف المؤتمر الوطني والتي إختلفت حول إقتسام كعكة السلطة والثروة أو تلك التي قفذت من مركب النظام الغرقي بعد أن أستحكمت حلقات الفشل حول عنق النظام فآثرت الهروب والإنضمام الى المعارضة، وجميع هؤلاء وأولئك "عين في الجنة وعين في النار" يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى. الجلي في الأمر والذي لا يختلف حوله إثنان أن هؤلاء هم من الصناع الأساسيين لهذا الكابوس الجاثم على صدر الشعب السوداني. كذلك وما هو أهم أن هؤلاء كانوا جزءا أصيلا من النظام في سِني توحشه الأولي وأثناء أقبح جرائمة من إغتيالات وإعتقال وتعذيب وإبادة. إن وجودهم خارج المركب عند التغيير لا يغسل أرزال ما إرتكبوه. لم يكن هنالك مجال لورود وإحتمال هذا الإستثناء لولا أنه وبعد أن إنفضح مشروع الإسلام السياسي المعادي لتطلعات الجماهير للديمقراطية والذي تحركه شريحة الرأسمالية الطفيلية ومصالحها، وتحت شعار توحيد الصفوف لإنهاء سلطة "الإنقاذ", نتحالف مع فصائل الإسلام السياسي ونساعدها في ترميم تاريخها ووجهها الشائه ونساعدها لتقف علي أقدامها لتظهر خلف قناع جديد. أما دعوة الترابي للإعتراف بالإشتراك في جرائم عصابة الإنقاذ والإعتذار للشعب السوداني فهي دعوة جانبها الصواب فإن مشاركته وأتباعة في هذه الجرائم غير قابله للمسامحة ولا تسقط بالتقادم أو الإعتذار.
إن إستبعاد الشكل التقليدي (الكلاسيكي) للمحاسبة والعقاب يكون في حالات النزاع بين طرفين تبادلا العنف فتكون المصالحة الوطنية هي الخيار الأمثل أو في حالة إستحالة تحديد المجرمين أو تحديد الفترة الزمنية التي ستشملها المساءلة لكن من كل ما تقدم فإن التجربة السودانية لا يشملها هذا التوصيف ولا تحتاج للأشكال الإستثنائية للعدالة الإنتقالية فإن المجرمين هم قتلة وسفاحون مارسوا أسوأ أنواع الإجرام في حق الشعب السوداني أفراداً شملهم الإغتيال, التعذيب, السجن, التشريد والإغتصاب أو جماعات حُرقوا أحياءً باستخدام أسلحة الدمار الشامل ومُسحت قراهم من على وجه الأرض وشُردوا وأُذلوا بواسطة هذا النظام بكل مكوناته قيادة وسدنة. أما إستعمال العنف القاتل وزهق أرواح المتظاهرين السلميين فهي جريمة ما زالت حاضرة وماثلة للعيان ودم شهداء كجبار, سبتمبر, الجريف والقائمة تطول لا يزال ندياً على تراب الوطن شاهداً علي بسالتهم وبربرية جلاديهم. إن الإدانة الواضحة من القضاء الجنائي الدولي وبالنظر الى حيثياتها تؤكد ضلوع هؤلاء في جرائم ضد الإنسانية – ولو لم يكن هنالك مصطلح كهذا لأُبتكِر في حالة الجرم الأشنع إطلاقاً الذي إرتكبه هؤلاء . كل ذلك يؤكد أن المسألة ليست لها أي جانب من التعقيد يُدخلها في صف الموجبات للعدالة الإستثنائية فنحن أمام مجرمين وقانون ليس إلا. فقد ارتكبت هذه العصابة فظائع لم تشهد الإنسانية المعاصرة مثيلا لها. ونقل تجربة المصالحة الوطنية هي طوق نجاة يمكن إستخدام ثغراته للإفلات من العقاب فبحسب المركز الدولي للعدالة الإنتقالية في دراسة قدمت في 2003: "إن لجان الحقيقة هي هيئات غير قضائية ولهذا فصلاحياتها بالطبع أقل كثيراً من سلطات المحاكم. فليس لها سلطة السجن، وليس لها سلطة إنفاذ توصياتها، بل إن معظمها يفتقر حتى إلى سلطة إلزام أي شخص بالمثول أمامها." إن السياق الذي سمح بالمصالحة الوطنية عند الشعوب التي طبقتها ينتفي تماما في التجربة السودانية حيث يُمثل إعتماد هذا الشكل الإستثنائي للعدالة تطبيق حرفي للمثل المصري "قالوا للحرامي أحلف قال جاء الفرج" الشاهد إني قد بحثت في كل ما يمكنني به التعبير الصادق عن هذه الحالة فلم أجد أصدق من هذا المثل.
كلمة أخيرة ذات أهمية قصوى وهي أن هذا لا يشمل بأي وجهٍ عملية جبر الضرر والتي هي سابقة منصفة يمكن نقلها بما يتلاءم مع الحالة السودانية. وأهم ما فيها هو تقديم المجرمين للعقاب, التعويض ورد الحقوق لأصحابها وإصلاح ما يمكن إصلاحه بحق الضحايا.