رحلة في السياسة والأدب ( 7 )


سهر العامري
2015 / 6 / 21 - 12:05     

أمضيت بعضا من أيام العطلة الصيفية لسنة 1963م أجول مع نجيب محفوظ في عالمه الذي استهواني كثيرا ، حتى صرت أمني نفسي برؤية هذا العالم رغم صغر سني ، ورغم الظروف القاهرة التي كان يمر بها العراق ، وما كنت يوما أحسب أنني سأرى تلك المقهى الصغيرة التي تقبع في زقاق ضيق من محلة خان الخليلي التي خرج منها عالم نجيب محفوظ حين اتخذها مكانا يدون فيها جل ما كتب من روايات .
لقد وقفت أنا بباب تلك المقهى مستذكرا تلك السنوات العجاف التي مرت علي وعلى العراق، وأنا ما زلت فتى يافعا ، اندفعت بقوة نحو السياسة التي تفيض بوطنية عالية تخلى عنها الكثيرون في أيامنا هذه ، وراح يعيش في كهوف الطائفية القذرة ، وكفر بتاريخ وطن عريق كانت الدنيا كلها في القرون الوسطى لا تعرف عاصمة للعلم والثقافة غير بغداد التي وفد لها طلاب العلم من مشارق الأرض ومغاربها حين كانت أمريكا لم تلد بعد من بطن زمن لم يمر على هذه الأرض .
لم تمر علي أيام تلك العطلة الصيفية بسلام بعد آخر اعتقال لي ، فبينما كنت أنشد مع حشد من الصبية أناشيد تمجد بطولات الأمام الحسين وصحبه في كربلاء ، مثلما جرت عليه العادة في كل سنة ، وإذا بمجموعة مدججة بالسلاح من أفراد الحرس القومي تقوم باعتقالي مع ثلاثة آخرين ، ومن ثمة تقوم بتفريق ذلك الحشد بالقوة .
قادني أفراد الحرس القومي أنا ومن معي الى مقرهم ، وهناك بدأ التحقيق معنا ، وضعت أنا بغرفة ، والثلاثة الآخرين بغرفة أخرى تعرضوا فيها الى ضرب شديد من قبل أفراد الحرس أولئك ، وقد كنت أنا أعرف واحدا منهم هو عبد الصفار ، بينما راح يحقق معي معلم هو يعقوب ناصر ، وكان وقتها هو نائب رئيس الحرس القومي في مدينتنا ، وقد طرح علي بعض الشروط التي يجب أن التزم بها ، رفضتها أنا بإصرار ، ثم لجأ الى التهديد من أنني أثير الفتن الطائفية بقيادة ذلك الحشد والتظاهر في تلك الليلة ، وقد استغربت أنا هذه التهمة وقلت له: أنت نفسك كنت تتظاهر في هذه المناسبة من كل سنة ، فما الذي جرى اليوم ؟ ولا أخفي هنا هو أن تلك المناسبة كانت تستغل ، وما زالت ، للتنديد بالحكومات الجائرة والمتعاقبة على الحكم في العراق .
بعد هذا الاعتقال عمدت الى تكوين تنظيم شبابي في مدينتنا يبتعد عن البعثيين وأفكارهم ، وصرت أحمل لهؤلاء الشباب بعض الأخبار الأدبية ، وبعض الروايات ، فالمنطقة كانت مقطوعة عن الاتصال السياسي بأي حزب من أحزاب العراق سوى حزب البعث الحاكم ، والحزب الوطني الديمقراطي ، جماعة محمد حديد ، أبو المعمارية الشهيرة ، زها حديد ، كما أنني كنت انتفع من جريدة البلاد التي كانت تصل لوالدي بانتظام بعد ان اشترك هو فيها عن طريق السيد عمران السيد موسى ، وعن طريقه أيضا صار والدي يدفع لأصحاب تلك الجريدة بدل اشتراك سنوي فيها.
عملي هذا أثار حفيظة البعثيين ، ووضعوني تحت مراقبة مستمر بعد أن استطاعوا من التسلل الى التنظيم الشابي من خلال عنصرين ، هما عبد الرضا الذي كان يرفع الكرة لي في فريق كرة الطائرة الذي شكلته أنا ، وقد عرفت ذلك بعد أن كشف أمره لي قريب من الحرس القومي ، وهو طالب جوير ، أبو غائب ، فقد أخبرني وقتها أن الحرس القومي قد جند عبد الرضا كجاسوس في التنظيم الشبابي المذكور ، وذلك مقابل نصف دينار عراقي في اليوم الواحد ، وهو مبلغ كبيرة في ذلك الوقت ، وقتها كان رد فعلي شديدا ، فقمت بضرب عبد الرضا ضربا شديدا دون أن أذكر له سبب الضرب ذاك ، ومن ساعتها هجرته بشكل نهائي . أما الشخص الآخر الذي تسلل الى ذاك التنظيم من قبل الحرس القومي فهو طه فنجان ، وكان وقتها طالبا في المتوسطة ، ولم اكتشف أنه كان جاسوسا إلا بعد سقوط حكم حزب البعث على يد عبد السلام عارف في 18 تشرين الثاني سنة 1963م ، وذلك حين استلمنا صورة لضحية من ضحايا الحرس القومي في مدينة الناصرية هو الشاب سيد وليد الذي دفنه مجرمو الحرس القومي عند منطقة أم العباس حيا بملابسه ، وزرعوا على قبره قناني البيرة التي شربوها بعد دفنه مباشرة .
قمنا أنا وأخي طارق بتوزيع نسخ من تلك الصورة على أصدقائنا مع استلام تبرعات منهم للحزب الشيوعي العراقي ، ووقتها طلبت من أخي الذهاب الى طه فنجان كي يسلمه نسخة من تلك الصورة باعتبار أنه كان واحدا من تنظيمنا الشبابي ، رفض هو استلام الصورة ، واعترف لأخي بأنه كان جاسوسا للحرس القومي يتجسس على نشاطاتنا في ذلك التنظيم الشبابي ، ومن هنا عرفت وقتها لماذا كان المعلم معلق حنون ، وهو واحد من أفراد الحرس القومي ، يقول لي كلما كان يلتقيني بالطريق : أنت لا زلت تمارس نشاطا سياسيا ضدنا ، ولكنني كنت أنفي ذلك بالطبع .
في أواخر أيام الصيف هذه انتقلت للدراسة في الصف الثالث المتوسط من متوسطة الجمهورية ، وقد تحولت جميع صفوف تلك المتوسط في تلك السنة 1963م الى اعدادية الناصرية للبنين التي كان مديرها فؤاد داود ، وقد كانت الناس في المدينة تترقب سقوط حكم البعث بين يوم وآخر ، خاصة بعد الحملة الاعلامية القوية التي قام بها الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وحركات التحرر الوطني في العالم ضد انقلاب شباط الأسود الذي قام به حزب البعث ، وبمساعدة من المخابرات الأمريكية ، وشاه إيران ، وبعض من رجال الدين في مدينة النجف ، وبطلب شخصي من الشاه نفسه.
كان العراقيون على أيام حكم الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم يشمئزون من اسمي أمريكا وبريطانيا ، وهما الدولتان اللتان أرسلت الأولى منهما قواتها الى لبنان ، والثانية الى الأردن وذلك من أجل اجهاض ثورة 14 تموز التي قام بها الجيش العراقي ، وبقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ، مصحوبا بتأييد قوي من الاحزاب العراقية السرية في ذلك الوقت وخاصة الحزب الشيوعي العراقي الذي دفع بجماهيره الى شوارع مدن العراق من أجل اظهار ولاء الشعب للثورة ، وهذا الحال قد جرى على عكس ما نراه اليوم فأغلب الاحزاب العراقية تتودد الآن للأمريكان ، وتعمل على كسب رضا الحكومة الأمريكية وسفارتها في بغداد ، حتى أن تلك الاحزاب تسابقت في تسليم الثروة النفطية العراقية الى الشركات الأمريكية ، وهي ذات الثروة التي قال عنها عبد الكريم قاسم لوزرائه حين أصدر قانون 80 الخاص بتأميم مكامن النفط في الأرض العراقية : تعالوا نوقع على اعدامنا !! وفعلا تم اعدامه هو ورفاقه بعد ساعات من توقيع ذلك القانون .
حين وصل الاسطول الامريكي الى شواطئ لبنان بعيد قيام ثورة 14 تموز ، وعلى أيام وزير الخارجية الأمريكي ، جون فوستر دالاس ، الذي لعب دورا كبيرا في عمليات المخابرات الأمريكية ، تلك العمليات التي أدت الى اسقاط حكومة محمد مصدق الديمقراطية الإيرانية في عام 1953م ، نزلت الجماهير العراقية ، وفي طليعتها جماهير الحزب الشيوعي العراقي الى شوارع مدن العراق وهي تهتف :
احنا العراق احنا
كريم قائدنا
يا دلاس اسمعنا
ما انهاب اساطيلك
ولا نخاف تهديدك.
أما اليوم فكل القادة الخنع في العراق قد جلسوا في أحضان دلاس ، ولا فرق في ذلك بين رجل معتم بعمامة الشياطين ، وبين فارع الرأس ارتضى الذلة والخنوع ، ولكنهم أمام الشعب " يتنافخون شرفا " على حد تعبير الشاعر الكبير مظفر النواب .
لم تمض ِ إلا ثلاثة أشهر على السنة الدراسية 1963م – 1964م ، وفي اليوم الثامن عشر من شهر تشرين الثاني استيقظنا على بيان من اذاعة بغداد تعلن فيه اسقاط حكم البعث في العراق ، وكان قائد الانقلاب هو عبد السلام عارف الذي كان شديد الميل للرئيس المصري جمال عبد الناصر ، ولهذا كانت تتخلل البيانات التي تذاع من اذاعة بغداد ساعتها الأغنية المصرية التي تقول : عاد السلام السلام يا نيل ! للمطربة المصرية فايدة كامل .