التعاون فى ظل قواعد السوق الرأسمالى المهيمنة


سامح سعيد عبود
2015 / 6 / 20 - 16:20     




تفشل كثير من التعاونيات فى الصمود والبقاء فى ظل شروط وظروف السوق الرأسمالى المهيمن والمنافسة الحادة، مع مشاريع غير ملتزمة بنفس المبادىء التى تلتزم بها، ولأنها لم تعتمد فى تحديد نشاطها على دراسة جدوى قوية، ولم يأخذ مؤسسيها فى اعتبارهم من سيستهلك منتجاتها وخدماتها". ومن أين وكيف سوف يحصلون على المواد الخام بأجود نوعية وأرخص أسعار، ومن أين وكيف سوف يوفرون تدفق سيل الأموال الضرورى بهدف استمرار الإنتاج لا انقطاعه لنفاذها، وكيف سوف يسوقون المنتجات والخدمات وبأى سعر، وهذا يتطلب دراسة أسواق تلك السلع والخدمات المتاحة، وقياس الطلب الفعال على السلع والخدمات فى السوق، ومعرفة هل تعانى السلع والخدمات من كساد أم ندرة، ومدى وشدة المنافسة مع المشاريع التى تنتج نفس تلك السلع والخدمات، فاستمرارية أى تعاونية لا يعتمد فقط على حافز العمل الحر، وما يمنحه من إنتاجية أعلى، ولكن على المعايير والفرص المحيطة بالتعاونية، والتي غالبية مصادرها ليست تحت سيطرتها، مثل مصادر التمويل ومصادر المواد الخام والألات والآراضى والمبانى ومنافذ التوزيع.
وكان ماركس قد كتب فى رأسالمال " إن المصانع التعاونية للعمال أنفسهم تمثل البدايات الأولى للجديد داخل الشكل القديم. على الرغم من أنها تفرخ ويجب أن تفرخ في كل مكان من تنظيمها الفعلي كل عيوب النظام السائد" ، وعلق فى مكان آخر على التعاونيات ب" الملكية الزراعية الصغيرة التي هي الشكل العادي للإنتاج الفردى الصغير تتدهور وتبيد وتهلك تحت سيادة العلاقات الرأسمالية الإنتاجية. ذلك لأن الملكية الصغيرة للأرض تحول بحكم طبيعتها دون تطور قوى العمل الإنتاجية، وأشكال العمل الاجتماعية، وتحول دون تطور وسائل الإنتاج، وتحول دون تطبيق العلم تطبيقا مطردا. كما إن الربا ونظام الضرائب يحتمان خراب الملكية الزراعية الصغيرة في كل مكان، وتتجزأ وتتفتت وسائل الإنتاج إلى ما لا نهاية، ومن ثم يتبعثر المنتجون الأفراد المستقلون، أما التعاونيات فيمكنها فقط ان تضعف هذا الاتجاه دون أن تمحوه، ويجب أن لا ننسى أيضا أن هذه التعاونيات تعطي كثيرا للفلاحين الميسورين، ولكنها تعطي قليلا جدا لجمهور الفلاحين الفقراء او لا تعطيهم شيئا تقريبا ثم أن الأمر ينتهي بهذه الجمعيات إلى أن تستثمر بنفسها العمل المأجور" .
و يحد من قدرة التعاونيات الإنتاجية على أن تحل محل الرأسمالية كنمط إنتاج، أنها مجرد وحدات صغيرة للإنتاج اللاتنافسى غير الساعى للربح، محاصرة فى نفس الوقت بسوق التبادل الرأسمالي التنافسى الساعى للربح، وبما أن التبادل من أجل الربح يسيطر على الإنتاج في الاقتصاد الرأسمالي، فأن الإنتاج يعتمد على قوانين السوق، والذى يتم الإنتاج فيه بغرض التبادل لتحقيق الربح، لا بغرض إشباع الحاجات الاستعمالية التى لا تهدف للربح، ونتيجة لواقع التنافس والسعى للربح تصبح مصالح رأس المال فى تعاظم الأرباح، وتراكم رأسالمال، مسيطرة على عمليات الإنتاج والتبادل والتوزيع، فى المجتمع، وتصبح شرطا لدوام كل مشروع ونجاحه، وفى ذلك تستخدم كل السبل التي تمكن المشروع التعاونى من الصمود في وجه منافسيه الآخرين في السوق، والخضوع لمتطلباته التنافسية، باستخدام العمل المأجور، وبطول يوم العمل، وبرفع الأسعار لتحقيق الأرباح، ولمواجهة مشكلة تمويل المشروع تعطى مميزات للرأسمال المشارك فى التعاونيات على حساب انتهاك حقوق العمل فى التعاونية، مما ينتهى بالتعاونيات لتصبح مشاريع رأسمالية فى النهاية.
من هنا فإن تعاونيات الإنتاج لا يمكنها الاستمرار تحت هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالى، إلاّ إذا تمكنت من القضاء على التناقض بين نمط الإنتاج التعاونى، ونمط التبادل الرأسمالى السائد، وذلك بأن تضمن لنفسها سوقا دائما لمنتجاتها، وهو ما يمكن أن تقوم به تعاونيات المستهلكين، وفى النهاية خلق اقتصاد تعاونى متكامل ومكتفى ذاتيا ومستقل عن السوق الرأسمالى.
وفى هذا السياق كتبت روزا لوكسمبرج فى دراستها للتعاونيات "إذا كان صحيحا أن امكانيات وجود تعاونيات المنتجين داخل الرأسمالية رهن بامكانيات وجود تعاونيات المستهلكين، فإن مجال الأولى مقتصر، حتى في أكثر الحالات مواتاة، على السوق المحلي المحدود، وعلى مصنعي المنتوجات التي تخدم حاجات مباشرة، وعلى الأخص المنتجات الغذائية. وبذلك تستثني تعاونيات المستهلكين، وبالتالي تعاونيات المنتجين من معظم فروع إنتاج رأس المال الأكثر أهمية – صناعات النسيج والتعدين والمعادن والبترول وبناء الآلات والقاطرات والسفن. ولهذا السبب وحده، فإن التعاونيات في حقل الإنتاج، بغض النظر عن طبيعتها الهجينة، لا يمكن اعتبارها جديا أداة للتحويل الاجتماعي العام. ذلك أن إقامة تعاونيات المنتجين على نطاق واسع تفترض قبل كل شيء القضاء على السوق العالمي، وتفتيت الاقتصاد العالمي الراهن إلى حقول إنتاج وتبادل محلية صغيرة. أي أن المطلوب من رأسمالية عصرنا الفائقة التطور الواسعة الانتشار أن تقفل عائدة إلى اقتصاد العصور الوسطى التجاري، وتقتصر تعاونيات المنتجين ضمن إطار مجتمعنا الراهن على لعب دور الملحق البسيط بتعاونيات المستهلكين، ولذا يبدو أن هذه الأخيرة يجب أن تكون بداية التحويل الاجتماعي المقترح، ولكن إصلاح المجتمع المتوقع بواسطة التعاونيات يكف بذلك عن أن يكون هجوما ضد الإنتاج الرأسمالي، أي أنه يكف عن أن يكون هجوما على القواعد الأساسية للإنتاج الرأسمالي، ويصبح بدلا من ذلك نضالا ضد رأس المال التجاري وعلى الأخص الصغير والمتوسط منه. أنه يصبح هجوما على أغصان الشجرة الرأسمالية " .
وعلينا أن نتسائل، هل مازال حديث روزا لوكسمبرج محتفظ بصحته عند هذا المستوى من تطور قوى الإنتاج فى عصرها، وفى هذا العصر أيضا، فتجربة موندراجون وغيرها تثبت عمليا خطأ كثير مما برهنت به روزا لوكسمبرج نظريا على محدودية دور التعاونيات، ولم لا نتصور أن تبدأ المسألة فى الاتجاه العكسى، بأن تخلق تعاونيات المنتجين ملحقات لها من تعاونيات الاستهلاك تستهلك منتجاتها، أو تعاونيات تجمع طيف واسع من الأنشطة المتكاملة الإنتاجية والاستهلاكية.
ربما مع تطورات أخرى فى قوى الإنتاج، وعلى الأخص تقنيات أكثر تطورا مثل الطابعة الثلاثية والطاقة الشمسية الخ، قد يصبح فى الإمكان تنظيم كل أشكال الإنتاج والتوزيع والتبادل على الأساس التعاونى ضرورة اجتماعية، يضطر إليها الناس لتلبى احتياجاتهم، والملاحظة الجديرة بالذكر هنا أن أعداد المنخرطين فى الإنتاج الرأسمالى عالميا ومحليا تتقلص بقوة لصالح تزايد أعداد المنخرطين فى النمط الفردى، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهؤلاء يمكن أن ينظموا أنشطتهم تعاونيا فى مواجهة الدولة ورأسالمال، وهذا تطور لم يكن فى حسبان روزا لوكسمبرج، ومنتقدى التعاونية كأداة للتحرر الاجتماعى، والتى كانت تتوقع كما توقع ماركس زيادة الاستقطاب الطبقى بين البروليتاريا والرأسمالية، واضمحلال أنماط العمل الفردى والعائلى والرأسمالى الصغير، فتقلص حجم القطبين لصالح نمو طبقات وشرائح بينية لا هى البروليتاريا الصناعية التى لاتملك إلا قوة عملها والمضطرة لبيعها للرأسمالى، ولا الرأسمالية التى تستخدم العمل المأجور على نطاق واسع لتوليد الربح.
من زاوية أخرى وبالتفاعل أيضا مع ما كتبته روزا لوكسمبرج، ومن رؤية الواقع، يمكن القول أن القضاء على الأنماط الفردية والعائلية والرأسمالية الصغيرة مهمة تقدمية جدا، حتى مع بقاء الرأسمالية لبعض الوقت، وإذا استطاعت التعاونيات فعلا أن تنجزها، فسوف تكون قد أدت دورا غاية فى الأهمية للتطور الاجتماعى، والجدير بالذكر أن معظم المنشئات الصغيرة والمتوسطة التى تعمل فى الصناعة التحويلية كالملابس الجاهزة والصناعات الجلدية والخشبية والمعدنية هى مجرد ورش حرفية ومهنية متوسطة وكبيرة لصناعات الأثاث وحياكة الملابس والأحذية والحقائب والمشغولات المعدنية والفخار وغيرها من الصناعات الحرفية، وهذه الورش لا ينطبق عليها نظام المصنع تماما، وشأنها شأن مصانع التعبئة والتغليف والتجميع لا تعطى قيمة مضافة كبيرة، إلا أنها فى هذه الحالة يملكها حرفيون ومهنيون صغار وكبار لم يتحولوا بعد إلى رأسماليين، وهى منشئات لا تشكل صناعات حقيقية تعطى قيمة مضافة ذات شأن، ولا هى من المشاريع كثيفة رأسالمال التى يصعب على الحركة التعاونية فى الظروف الحالية مباشرتها، بل يمكن أن تحل محلها التعاونيات الإنتاجية بسهولة، ولسوف يدفع مزاحمة هؤلاء البرجوازيين والرأسماليين الصغار فى نشاطهم إلى إفلاسهم أو اضطرارهم إلى الافراج عن الرساميل التى يحتجزونها فى هذا الاستثمار المتخلف منخفض الربحية لاستثمارها فى الصناعة الرأسمالية الكبيرة، أو الاشتراك فى التعاونيات، وهذه خطوة تقدمية يحتاجها المجتمع ليتطور، ويخرج من براثن التخلف، والجدير بالاهتمام هنا، أنه إذا نجحت التعاونيات فى مهمتها المرحلية بالقضاء على الأنماط الفردية والعائلية والرأسمالية الصغيرة، سوف يمكنها بالتعاون والاتحاد فيما بينها، فى مرحلة تالية أن تتمكن من ممارسة الأنشطة التى مازلت محصورة لدى الدولة والرأسمال الكبير.
لن يتم القضاء على الرأسمالية إلا بالقضاء على جوهرها، وهو عبودية العمل المأجور، كما تحرر البشر من العبودية والقنانة التى ميزت المجتمعات ما قبل الرأسمالية فى التاريخ المكتوب، ولاشك أن الوضع المثالى للإنسان الذى يضمن له درجة أعلى من الحرية والسعادة هو استقلاله كحرفى أو كمهنى أو كفلاح لا يستخدم العمل المأجور، بشرط عدم وقوعه فى القنانة المعممة منها أو الشخصية، وعدم خضوعه للعمل الجبرى أوالمجانى، رغم العيوب المؤكدة في هذا النمط من الإنتاج التى ذكرها ماركس، المتمثلة فى ضعف الإنتاجية، والتى يمكن أن تتلافها التعاونيات المختلفة التى تجمع الجهود الفردية مما يضاعف من الإنتاجية.
العمل الفردى المستقل قلصته الرأسمالية وهمشته فى طريق تطورها وتمددها عالميا، إلا أنها وفى سياق تطورها وتمددها نفسه دفعت بالمزيد من البشر إلى هذا الوضع مجددا، لأنها لم تصبح فى حاجة للمزيد من العمل المأجور.
العامل الثانى الذى يطرح التعاونيات كنمط إنتاج بديل عن الرأسمالية، هو التطور التكنولوجى الهائل، وهو ما سوف يقلص كثافة العمالة فى المنشئات الانتاجية والخدمية المختلفة، ويقلل بالتالى من ربحيتها مما سوف يؤدى بالرأسماليين، إلى الهرب من الاستثمار فى الاقتصاد الحقيقى إلى الاستثمار فى الاقتصاد المالى والتجارى، أو بالنكوص مجددا لوضع الرأسمالى الصغير الذى يستعين بعدد محدود من العمال يشاركونه فى العمل وإنتاج القيمة المضافة، أو فى بعض الحالات النكوص أكثر لوضع المنتج الفردى، وفى كل الأحوال سوف يحتاج هذا المنتج الفردى أو الرأسمالى الصغير للتعاون مع العمالة المهنية والعلمية والحرفية المستقلة المتزايدة باضطراد فى مقابل التناقص المضطرد فى أهمية العمالة اليدوية، فى مواجهة البيروقراطية الحكومية والرأسمالية المالية والتجارية، وهذه أحد المسالك الذى قد يسلكها التطور الاجتماعى.
وما يؤكد إمكانية انتشار هذا الاتجاه فى المستقبل، ظاهرة الإدارة الذاتية العمالية للمنشئات الرأسمالية التى يهرب ملاكها،(راجع فصل تعونة المنشئات المستعادة).
يقال أن التعاون لا يصلح إلا فى مجالات الإنتاج والخدمات التى تعتمد على وحدات صغيرة ومحلية، وبصرف النظر عن أن تجربة تعاونية موندراجون ونجاحها، تفند هذا الفرض النظرى بقوة، فإن من أهم مبادىء التعاون الجديدة أن تتعاون وتتكامل التعاونيات فيما بينها وتتحد من أسفل لأعلى لكي يمكنها تغطية كل الأنشطة البشرية، ومن هنا فإن "بعض المرافق العامة والصناعات الكبيرة فى الكثير من البلاد تدار وفق نظام الريجى التعاونى، وهى منظمات تعاونية بين التعاونيات لا الأفراد. استطاعت أن تشق طريقها فى أعمال البنوك، وفى توريد المياه، وفى النقل، وفى إنتاج الكهرباء وتوريدها، وفى إدارة الموانى والسياحة وتكرير البترول وصناعة السكر..الخ. وقد حققت فى ذلك نجاحا لم تحققه غيرها من المنظمات، فالتاريخ يشهد أن واحدا منها لم يتعثر أو يقع فى هوة الإفلاس وحتى فى أوقات الشدة والأزمات استطاعت أن توازن ميزانيتها وأن تؤدى خدماتها على أكمل وجه" .
أحد منتقدي التعاونية ،صاغ حجته على هذا النحو : "إن تطور اقتصاد بديل في ظل ظروف الحكم البرجوازي هو أيضا فكرة مسدودة الأفق، ولا يمكن أن تذهب بنا إلى أي مكان. أود أن أشير في بعض الأحيان إلى هذا الاتجاه من الفكر مثل "الوعى التعاونى" لأنه في ستينات القرن العشرين كانت الفكرة شبه عالمية بأن الكيانات مثل الجمعيات التعاونية طريقة جديدة للتفكير، وفي فعل الأشياء. صديق لي، على سبيل المثال، تبرعت له مرة واحدة بعد ظهر يوم لبناء رف الكتب هنا فى تعاونية غذائية محلية، وقد واصلت التعاونية الغذائية عملها منذ ذلك الحين إلى أن أصبحت ناجحة جدا -- وإن لم يكن من حيث رؤية تأسيسها الأصلي. فالتعاونية الغذائية تبيع بالتأكيد الكثير من المواد الغذائية. ولكن القرارات التى يتم اتخاذها تكون بناء على ما يدفعه المسؤولون التنفيذيون في الشركات للعمال ذوي الأجور المنخفضة، ومن ثم هم من يحددون الكيفية التي تدار بها الأمور، وبشكل عام يتم التعامل مع مثل هذا القرف. وهذا يبدو دائما ما يحدث. إذا كنت ترمي صخرة في الهواء فإنها ترتد في نهاية المطاف مرة أخرى للأرض بسبب __قانون الجاذبية __مهما حاولت بجدية -- لا يمكنك أن ترمي صخرتك بسرعة كافية حتى يمكنها الهروب من قانون الجاذبية. وبالمثل فإن أي نوع من التعاون الذي قمت ببناءه ،سيكون جزء من اقتصاد المال، سوف يقع ضحية لقوانين إنتاج السلع. لا يمكن لأكثر قوانين الإنتاج السلعي، النجاة من قانون الجاذبية " .


الهوامش
كارل ماركس، رأس المال المجلد الثالث ،ط دار التقدم، موسكو، ص 521."
http://www.marxists.org/arabic/archive/rosa/1900-rr/08.htm
روزا لوكسمبرج إصلاح اجتماعي أم ثورة8- التعاونيات والنقابات والديموقراطية.
د. جابر جاد عبد الرحمن، تشريعات التعاون الجزء الأول فى البنيان التعاونى، مطبعة جامعة القاهرة، 1976 ص 308
Scott Wallace مصدر سابق