خرافات وأوهام ديالكتيكية


يعقوب ابراهامي
2015 / 6 / 16 - 15:36     

"إن عناصر الواقع الفيزيائي لا تقررها اعتباراتٌ فلسفية مسبقة، بل يجب اكتشافها باللجوء إلى نتائج التجارب والقياسات" – البرت آينشتاين – 1935.

(المقال التالي يعتمد كثيراً على ورقة كتبها عام 2010 بيتر ماسون تحت عنوان: ميكانيك الكوانتوم والمادية الديالكتيكية : http://www.socialistworld.net/doc/4688 )

في دفاعه عن "علمية" المادية الديالكتيكية ("الحوار المتمدن" - 2015 / 4 / 5) يقول حسقيل قوجمان: " انا اعترف (!!) بالقول . . .ان لا وجود للمادة بدون حركة ولا وجود للحركة بدون المادة بصرف النظر عمن قال ذلك".
أحقاً "بصرف النظر عمن قال ذلك"؟ هل يقصد حسقيل قوجمان أنه توصل إلى هذه النتيجة بقواه الفكرية الخاصة بالإستقلال عمن قال ذلك؟ كيف؟
أنا عندما أسمع أنه "لا وجود للمادة بدون حركة ولا وجود للحركة بدون المادة" أسأل أولاً وقبل كل شيء: "من قال ذلك" و"متى قال ذلك". لأن "من قال ذلك" و"متى قال ذلك" هو الذي يحدد موقفي من هذه المقولة. ليس لديّ معيارٌ آخر. و"بصرف النظر عمن قال ذلك" لا تأتي في الحسبان. وأنا بالتأكيد لا استطيع أن أعتمد هنا على ما يُدعى بالإنكليزية common-sense.
كيف إذن توصل حسقيل قوجمان إلى هذه النتيجة "بصرف النظر عمن قال ذلك"?
هل أجرى اختباراتٍ وقياساتٍ في المختبر أقنعته بصحة هذه المقولة؟
أم إنه ربما قام بتجارب ذهنية كالتي اشتهر بها أينشتاين؟ وكما سأل آينشتاين نفسه مرةً ماذا يحدث لمن "يمتطي" موجةً ضوئية ويسير بسرعة الضوء - سأل حسقيل قوجمان نفسه ما الذي يحدث ل"المادة" عندما تهبط درجة حرارتها إلى الصفر المطلق (273.15 درجة مئوية تحت الصفر)؟ في الصفر المطلق، كما هو معروف في الفيزياء الكلاسيكية، تتوقف كل حركة للجزيئات الذرية داخل "المادة". هل ستختفي "المادة" آنذاك (أي: لا مادة ولا حركة) أم ستكون النتيجة "مادة بلا حركة"؟ (من الممتع أن نلاحظ أن حسقيل قوجمان لو قام بهذه التجربة الذهنية لكان يمكنه أن "يبرهن" على صحة نظرية "لا وجود لمادة بدون حركة". قوانين الفيزياء الكلاسيكية كما أفهمها (أنا لا أعرف ما هو موقف فيزياء الكوانتوم من ذلك) لا تسمح بوصول حرارة الجسم إلى درجة الصفر المطلق وبالتالي لا تسمح ب-"مادة بدون حركة").
هذه الجملة ("لا وجود للمادة بدون حركة ولا وجود للحركة بدون مادة") تقول شيئاً عن الطبيعة: إنها تحاول أن تصف ظاهرةً من ظواهر الطبيعة، أو تميط اللثام عن حقيقة من حقائق الطبيعة. وهي تفعل ذلك باستخدام كلماتٍ هي من صميم علم الفيزياء: "مادة" و"حركة". هذه مسألة علمية (فيزيائية) لا مسألة فلسفية (تأملية). ومكانها في كتب الفيزياء لا في كتب الفلسفة، وبالتأكيد لا في كتب "الفول والشعير".
و"متى قال ذلك" لا تقل أهمية عن "من قال ذلك". كلمات مثل "مادة" و"حركة" عندما تُقال في القرن التاسع عشر (حيث كان "الضوء" يعبر في "الأثير") لها معنى آخر يختلف عن معناها عندما تقال في القرن العشرين أو في القرن الحادي والعشرين، بعد الثورة التي أحدثتها الفيزياء الحديثة في نظرتنا إلى الزمان والمكان، وإلى المادة والكون (حيث اختفى "الأثير" ومُنِحت "المادة" حرية الإختيار بين أن تكون "جُزَيئاً" أو "موجة").

إذا كان القصد من نظرية "لا وجود للمادة بدون حركة ولا وجود للحركة بدون مادة" هو الإعلان عن حقيقة من حقائق الطبيعة فإنني، بخلاف "ماركسيي الفول والشعير"، ليست لدي أية إمكانية لاختبار صحة هذه الفرضية أو بطلانها. أنا أعتمد كلياً وبصورةٍ مطلقة، في تحديد موقفي منها، على "من قال ذلك". لذلك يهمني جداً أن أعرف إذا كان قائلها هو عالم فيزياء يتكلم لغة الفيزياء الحديثة ويتقيد بكل قواعد الصرامة العلمية، أم إن قائلها هو "عالم ديالكتيك" يطلق العنان لخياله الخصب في صباح يومٍ باكر.

("هذا الصباح عندما كنتُ مستلقياً على الفراش" – كتب أنجلز لصديقه كارل ماركس في 30 أيار 1873 – "خطرت ببالي الأفكار الديالكتيكية التالية حول العلوم الطبيعية: موضوع العلوم الطبيعية هو المادة في حركتها. الأجسام لا يمكن فصلها عن الحركة. . . لا يمكن الحديث عن مادة بدون حركة، وبدون الأخذ بنظر الإعتبار علاقتها بالأجسام الأخرى. في الحركة فقط يكشف الجسم عن ماهيته. العلوم الطبيعية، إذن، هي دراسة الأجسام في علاقاتها المتبادلة وفي الحركة. . .")

"لا وجود للمادة بدون حركة ولا وجود للحركة بدون مادة" تتناول العلاقة بين "كائنين" أو "مُصطلَحَين" فيزيائيين هما: "مادة" و"حركة". وفي علم الفيزياء (بخلاف سوق الشورجة مثلاً – راجع مقالاً سابقاً) يجب أن نحدد بالضبط ما نعنيه بهذين المصطلحين قبل أن نطرح أفكاراً حول العلاقة بينهما.
يمكننا أن نتفق على تعريف "المادة" (في كل ما يخص موضوعنا) كما يلي: المادة هي جسم مادي (وأنا على إدراكٍ تام بالمشكلة التي يثيرها استخدام كلمة "مادي" في تعريف "المادة") ذو كتلة (mass) ويحتل حيزاً من المكان (space).
التأكيد في هذا التعريف هو على: "يحتل حيزاً من المكان". هل "الضوء" حسب هذا التعريف هو "مادة"؟
تعريف "الحركة" (motion) يؤلف تحدياً أكبر. المعنى الحرفي لكلمة "حركة" هو انتقال الجسم (المادة) من مكانٍ إلى آخر. لكن "ديالكتيكيو الفول والشعير" يستخدمون كلمة "الحركة" للدلالة على كل شيءٍ قد يخطر ببالكم وبذلك يجردونها من كل معنى مُعيّن. كل نوعٍ من أنواع "الطاقة" هو "حركة". لماذا؟ أنا لم أجد شرحاً مُقنِعاً. هل "الضوء" حسب هذا التعريف هو "حركة"؟
(هل "الطاقة الضوئية" التي تصلنا صباح كل يوم من الشمس هي، حسب التعريفين الآنفين، "حركة بدون مادة"؟)

أريد أن يكون واضحاً تماماً أنني لا أريد هنا أن أثبت خطأ أو صحة نظرية "لا مادة بدون حركة ولا حركة بدون مادة" بقدر ما أريد أن أؤكد على ما يلي:

1. هذه النظرية هي ليست من شأن الديالكتيك. "مادة بدون حركة" أو"حركة بدون مادة" هي أهم وأعقد من أن نتركها للديالكتيك وحده. "المادية الديالكتيكية" (و"ديالكتيك الفول والشعير" بصورةٍ خاصة) ليست عصاً سحرية نستطيع بواسطتها الكشف عن أسرار الطبيعة. هناك فرعٌ واحدٌ من فروع المعرفة البشرية يستطيع أن يتناول هذه القضية، وله أدواته الخاصة لذلك. هذا الفرع اسمه: علم الفيزياء. وأنا عندما أريد أن أعرف إذا كان في الإمكان وجود "مادة بدون حركة" أو "حركة بدون مادة" أفتح كتاب فيزياء لا كتاب "ديالكتيك الطبيعة".
أمام انهيار خرافة "قوانين الديالكتيك" أعاد "ماركسيو الفول والشعير" إلى الحياة خرافةً قديمة هي أن كل علماء الطبيعة يسلكون في المختبر، أرادوا أو لم يريدوا، سلوكاً ديالكتيكياً. هذه هي ظاهرة "القرعاء تتباهى بشعر اختها".

2. حتى إذا كان لهذه المقولة معنى حقيقي في فترةٍ معينة من تاريخ تقدم الفكر البشري (وكان لها بالتأكيد) فإن الفيزياء الحديثة قد أفرغتها من محتواها وحولتها إلى عبارة إن لم تكن خاطئة فلا قيمة علمية حقيقية لها. عالم الفيزياء اليوم لا يتكلم عن "مادة في حركة". هذا مصطلحٌ عتيق عفا عليه الزمان. الضربة القاضية أتت طبعاً مع E=MC2.
نيوتون أعطانا "مادة" و"حركة". آينشتاين أعطانا "كتلة" (mass) و"طاقة".
عالم الفيزياء اليوم يتحدث عن "طاقة" و "كتلة = طاقة" ومن يصر على أن يتكلم عن "مادة في حركة" يشهد على نفسه أنه لا زال يعيش في مفاهيم القرن التاسع عشر.
"المادة" في مستواها الأساسي جداً هي اليوم "طاقة" وليس "مادة في حركة".
"كل ما ندعوه حقيقي (real) مؤلفٌ من أشياء لا يمكن اعتبارها حقيقية" – نيلس بوهر. (وبالمناسبة الرأي السائد هو أن نيلس بوهر كان فيزيائياً نظرياً لامعاً ولكن فيلسوفاً متوسطاً).

في مركز الشمس يتحول كل ثانية 600 مليون طن من عنصر الهيدروجين إلى 596 مليون طن من عنصر الهليوم في عملية تُدعى عملية "الانصهار النووي". معادلة حسابية بسيطة (40=596-600) تُظهر أننا فقدنا "مادة" بوزن 40 مليون طن. أين ذهبت هذه "المادة"؟ تحولت إلى طاقة: "طاقة (حركة) بدون مادة". الضوء والحرارة التي تأتينا من الشمس هي جزء من هذه الطاقة (الحركة).

3. سؤالٌ آخر طبعاً هو ما هي "القيمة الماركسية" لهذه المقولة. جوابي هو: صفر. أنا مثلاً لا استطيع أن أفهم لماذا "حركة" الماء السائل وتحوله "الفجائي" (الطفرة الديالكتيكية الشهيرة) إلى بخار عندما يبلغ درجة الغليان لها أية علاقة بتناقضات المجتمع الراسمالي وبحتمية قيام الثورة الإشتراكية (ستالين : "اذا كان الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى تغيرات كيفية سريعة مباشرة قانونا للتطور، فان من الواضح الجلي ان الثورات التي تعلنها الطبقات الخاضعة للاستغلال هي ظاهرة طبيعية وحتمية. وعليه فان الانتقال من الراسمالية إلى الاشتراكية، وتحرير الطبقة العاملة من نير الراسمالية لا يمكن تحقيقه بتغيرات بطيئة، بالاصلاحات، بل بتغيير كيفي للنظام الراسمالي، بالثورة". كشكوش). أو إذا أردنا أن نبقى في موضوعنا: أي مبدأ، اقتصادي أو اجتماعي، من مبادئ الماركسية يتناقض مع "مادة بدون حركة" أو "حركة بدون مادة"؟ لماذا على الماركسي أن "يؤمن" (أو "يعترف" على حد تعبير حسقيل قوجمان) ان "لا وجود للمادة بدون حركة ولا وجود للحركة بدون مادة"؟ ما علاقة ذلك بالماركسية؟ صحيح أن لينين كتب أن المادية الديالكتيكية هي ركنٌ من أركان الماركسية، لكن الماركسية جاءت لتدرس (وتغير) المجتمع البشري لا لتدرس الطبيعة الجامدة. من الطبيعة الجامدة، الخالية من الوعي والإرادة، لا يمكن استخلاص أي نتائج بخصوص الإنسان الواعي وذي الإرادة. "الإشتراكية العلمية" المبنية على "قوانين طبيعية" هي خرافة. وتاريخ "الإشتراكية العلمية" هو تاريخ اخفاقات "علم الماركسية".

"ماركسيو الفول والشعير" (وحسقيل قوجمان هو واحدٌ من أبرز ممثليهم) يظنون أنهم بدفاعهم عن "المادة في حركة" إنما يخوضون حرب "المادية" ضد "المثالية". هم مخطئون. هذه حرب خاسرة منذ البداية. لسببين: الأول هو أنهم يخوضون هذه الحرب بأسلحةٍ عتيقة. السبب الثاني هو أنهم يدافعون عن مادية قديمة - مادية ما قبل الكوانتوم (وأنجلز هو الذي كان يقول دائماً إن على المادية أن تغير شكلها مع كل اكتشاف تاريخي هام في حقل العلوم الطبيعية).
الدفاع عن "المادية" في القرن الحادي والعشرين يجب أن يعتمد على آخر انجازات العلم الحديث، عليه أن يقدم أجوبةً مقنعة للتحديات التي تطرحها نظرية الكوانتوم، أو أن لا يتجاهلها على الأقل، لا أن يضع "حواجز كنكريتية لا يمكن اختراقها" – على حد تعبير الدكتور طلال الربيعي – لسد الفراغ (لا بالمعنى السارتري للكلمة) بين طرفي ثنائية الفكر والمادة.
حججٌ من أمثال "أولوية المادة على الفكر" (العلم لا يعرف حتى الآن، وقد لا يعرف أبداً، ما هو "الفكر") أو "ان الدماغ هو عضو التفكير" (نحن نعرف وظائف الدماغ لكننا لا نعرف، وقد لا نعرف أبداً، ما هو "التفكير") لم تعد كافية.

في الورقة الممتعٍة للغاية التي أشرتُ إليها في صدر هذا المقال يصف بيتر ماسون "تصرف" الألكترون في نموذج نيلس بوهر للذرة كما لو أن أشجاراً تختفي من حديقة في لندن وتظهر فجأةً في حديقة في باريس أو في نيويورك: الألكترون الذي يدور حول نواة الذرة "يقفز" من المدارٍ الذي يسير فيه إلى مدارٍ آخر، أوطأ منه، دون أن "يعبر" المسافة التي تفصل بين المدارين متحدياً بذلك مفاهيمنا "المادية" (ما قبل الكوانتية) عن الزمان والمكان.

في عام 2008 قام علماء فيزياء من جامعة جنيف بتجربة للتحقق من ظاهرة "التشابك" (Entanglement) التي تتنبأ بها نظرية الكوانتوم. ظاهرة "التشابك" هي أن جزيئين كوانتيين إذا انطلقا من مصدرٍ واحد في اتجاهين مختلفين يبقيان على اتصالٍ مباشر وفوري بينهما مهما يكن البعد الذي يفصل أحدهما عن الآخرً. في التجربة المُشار إليها أُطلِق "فوتونان" من جنيف إلى هدفين في اتجاهين مختلفين. ورغم أن المسافة التي تفصل الهدفين كانت عشرات الكيلومترات فأن كل فوتون كان "يعرف" على الفور تقريباً ما "يحدث" للفوتون الثاني أي أنهما كانا على اتصالٍ مباشر بصورة فورية ودائمة. ولكن نظراً للبعد الشاسع الذي كان يفصلهما فأن هذا "الإتصال" الفوري بين الفوتونين كان يجب أن يتم بسرعة تفوق سرعة الضوء بعشرة آلاف الأضعاف. إذا تذكرنا إن سرعة الضوء لا يمكن تجاوزها سنفهم لماذا أقلقت هذه الظاهرة آينشتاين كثيراً.
يعلق بيتر ماسون على هذا قائلاً: يبدو أن من المحتمل (بل أكثر من محتمل) أن "الأجسام المتشابكة" تتواصل فيما بينها خارج الزمان والمكان بطريقة لا نعرفها.

في "تجربة الثقبين" الشهيرة يمر الألكترون الواحد من ثقبين منفردين في آنٍ واحد مخالفاً بذلك كل مفهومنا "المادي" عن المكان والزمان. والأغرب من ذلك أننا إذا نصبنا جهازاً لكي نفحص في أيٍّ من الثقبين يمر الألكترون فأن الألكترون "يعرف" أننا نراقبه ويغير "سلوكه" وفقاً لذلك.
Nobody knows how it can be like that (لا أحد يعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك) – قال حائز جائزة نوبل في الفيزياء ريشارد فاينمان. ولا أحد يعرف ذلك حتى يومنا هذا.

الدفاع الوحيد عن نظرية "لا حركة بدون مادة" وجدتُه في ما ينقله لينين، في كتابه "المادية والنقد التجريبي"، عن أنجلز:
Motion without matter is unthinkable
وبترجمة حرة: "حركة بدون مادة" هي أمرٌ لا يقبله العقل.
لكن "لا يقبله العقل" هي ليست حجة علمية.
أنجلز ولينين لم يعيشا ليرا قطة شرودينغر الحبيبة حية وميتة في آنٍ واحد. (لا تقلقوا على القطة. هذه تجربة ذهنية فقط). و"حيٌّ وميتٌ في آنٍ واحد" هو بالتأكيد أغرب وأكثر "لا يقبله العقل" من "حركة بدون مادة".