رحلة في السياسة والأدب ( 6 )


سهر العامري
2015 / 6 / 11 - 10:45     

دخلت قاعة مدرسة متوسطة الجمهورية ، مثلما طالبني قرار طردي منها ، وجدت مدير المتوسطة ، ريسان مطر ، ومعه رجلان لا أعرفهما ، ولم أرهما من قبل ، كان أحدهما يمسك بحزمة من عصي الخيزران ، بينما وقف الآخر الى جانب المدير الذي صاح بي أن أتقدم نحوه ، وأن أضع كتبي التي كنت أحملها على أرض القاعة الاسمنتية ، ثم قال لي بصوت عالٍ : مد يديك وافتحهما : مددت أنا يديي ، وراح هو ينهال علي ضربا بتلك العصا المؤلمة جدا ، ولم يكتف ِ هو بذلك ، بل راح يضربني على ظهري وعلى أرجلي وعلى أجزاء أخرى من جسدي .
لقد تحول هو بين لحظة وأخرى من رجل تربوي الى رجل شرطة جلاد من الطراز الأول ، وعلى طريقة رجال حزب البعث في تحولهم من أعضاء في ذلك الحزب الى جلادين قتلة ، ومن هؤلاء صدام حسين ، أحد طلاب كلية الحقوق في جامعة بغداد ثم نائب لرئيس الجمهورية أحمد حسن البكر ، وهو لما يزل طالبا في السنة الرابعة من تلك الكلية ، فوقتها قاد صدام عصابة تدعى مثلما سموها هم بـ " بجهاز حنين " وكانت تلك العصابة تتكون بالاضافة الى صدام من المجرم مدير الأمن العام ، ناظم كزار ، الذي كان طالبا معنا في جامعة بغداد ، ثم عبد الوهاب الأعور ، وهو رجل من أهل محافظة بابل ، وأخيرا جبار كردي وهو شقي من شقاوات بغداد ، هذه العصابة قادت عمليات قتل وتصفيات جسدية للكثير من العراقيين المعارضين داخل بغداد وخارجها ، وقد باشرت عملها المشين هذا بعد وصول حزب البعث في حكمه الثاني يوم السابع عشر من شهر تموز سنة 1968م ، وقد عرفت العصابة هذه عند الناس في بغداد باسم : أبو طبر ، والطبر آلة حادة كانت تلك العصابة تقتل بها المعارضين لحكمهم ، ولكن مع ذلك فقد ازداد القتل كثيرا في العراق اليوم ، مثلما ازدادت عصابات الموت فيه بعد أن تمشت الديمقراطية الأمريكية في شوارعه بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م .
بعد وجبة التعذيب التي تلقيتها على يد المدير الجلاد ريسان مطر حملت كتبي بصعوبة بالغة جدا ، وخرجت من المدرسة ، وكنت في غاية الألم والحزن ليس لأنني تعرضت الى ذلك التعذيب وحسب ، وإنما لأني فقدت الدراسة في تلك المدرسة ، وبينما كنت أواصل السير في شارع الجمهورية من مدينة الناصرية ، وقبالة فندق الهاشمي منه ، وعند الساعة العاشرة صباحا توجه نحوي معلم من أهل الشطرة يدعى : جاسم ، سألني لماذا خرجت أنت من المدرسة في هذه الساعة المبكرة ؟ قلت له : طردوني من المدرسة والدراسة ! رد هو على الفور : احمل حقيبتك الآن ، واذهب لأبيك ، فهو قادر وحده على اعادتك للمدرسة ثانية .
كان المعلم جاسم يعلم ، على ما يبدو ، أنني كنت مسجونا بتهمة انتمائي للحزب الشيوعي ، وقد علمت ، فيما بعد ، أنه كان من تنظيمات الحزب الجديدة التي تشكلت في المدينة بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963م ، كما انني عرفت أيضا أن السبب الذي عجل بطردي أنا وبعض آخر من طلاب مدرستي هو توزيع قطع حلوى " جكليت " على طلاب المدرسة ، وقد كانت تلك القطع ملفوفة بورق في داخله منشور صغير يحمل التهاني بمناسبة ميلاد الحزب الشيوعي . ولهذا حذرني الرجل الذي اصطحبه والدي معه الى إدارة مدرستي ، والذي ساعدني كذلك في إعادتي من جديد للدراسة فيها ، قد قال لي وقتها ، وبعد أن وافق مدير المتوسطة ، ريسان مطر ، على إعادتي تلك ، قال : إياك إياك أن توزع قطع حلوى على الطلاب ، وإياك أن تستلمها من الآخرين في حال توزيعها بالمدرسة !
عدت الى صفي الدراسي من جديد ، وكنت وقتها قد أديت جميع امتحانات الفصل الثاني لكل الدروس ، ما عدا امتحان مادة الكيمياء التي رفضت مواصلة الإجابة على أسئلة الامتحان فيها حين سمعت ساعتها اعلان طردي من المدرسة ، رغم أن أستاذ المادة عبد علي الكاظمي وهو من أهالي بغداد ، ويبدو أنه كان من أعضاء الحزب الشيوعي الغير معروفين ، قد طلب مني مواصلة الإجابة على تلك الأسئلة ، كما أن هذا الاستاذ قدم لي مساعدة لن أنساها ما حييت ، وذلك حين التقيته ونحن خارجين من مطعم الحسيني الواقع في شارع الجمهورية ، وهو المطعم الذي اعتدنا أن نتناول فيه طعام الغداء كل يوم ، عندها قلت له : أنت تعلم – يا أستاذ – الظروف الصعبة التي مررت بها طوال هذه الأشهر ، ورغم كل تلك الظروف القاسية حصلت أنا على درجات عالية في كل الدروس باستثناء درس الكيمياء الذي لم أستطع أن أنجز الامتحان الفصلي فيه ، وعلى هذا أطلب منك أن تمنحي درجة نجاح عند تسليمك درجات السعي السنوي لإدارة المدرسة ، وأنا أتعهد لك أنني سأحصل على درجة عالية في الامتحان النهائي . رد علي هو قائلا : كم تريد ؟ قلت له أريد درجة النجاح الصغرى ، أي خمسين درجة ، قال لي متسائلا : خمسون فقط !؟ قلت : نعم . خمسون فقط . ثم ودعته وانصرفت .
ما كنت أحسب أن الاستاذ سيمنحني الدرجة التي طلبتها ، ولكنني فوجئت حين نادى علي مدير المتوسطة ، ريسان مطر نفسه ، وهو يوزع على الطلاب شهادات درجات السعي السنوي قائلا : قل لي يا سهر كيف دبرتها ؟ أنت ناجح بتفوق في أغلب الدروس . قلت له : أستاذ أنا طالب مجد رغم أنني أمضيت فترة طويلة في السجن . رد هو : ساراك في الامتحانات النهائية ! قلت له ستراني ناجحا بتفوق في كل الدروس ، ثم ناولني هو شهادتي وانصرفت من المدرسة .
أديت الامتحانات النهاية لتلك السنة الدراسية المشؤومة ، ونجحت بتفوق فيها ، وحصلت على درجة عالية في درس الكيمياء ، وقد كانت خمس وثمانين من المئة التي هي الدرجة العليا للنجاح في أية مادة دراسية ، وقد أزعج نجاحي هذا بعض من أفراد الحرس القومي ، فقد سألني بعضهم كيف نجحت ؟ ولكن فرحة النجاح هذه لم تدم طويلا ، فبعد أيام من نهاية الدراسة لتلك السنة حدثت انتفاضة معسكر الرشيد في بغداد في اليوم الثالث من شهر تموز عام 1963م ، تلك الحركة التي قام بها جنود ذلك المعسكر ، وبعض من أعضاء الحزب الشيوعي من خارج المعسكر المذكور ، وبقيادة العريف البطل الشهيد حسن سريع ، اعتقلت أنا ثانية ، ودخلت السجن من جديد ، لكن هذه المرة لم أمكث به طويلا ، وذلك بسبب تدخلات عشائرية هذه المرة أدت الى اطلاق سراحي ، والذي اعتقلني وغيري في هذه المرة هو المدرس طاهر حاجم رئيس الحرس القومي في مدينتنا ، وكذلك أفراد من الحرس القومي ذاك ، يعاونهم نفر من الشرطة ، وقد علمت فيما بعد أن المدرس طاهر حاجم قد قتل في محافظة الديوانية إبان انتفاضة أذار عام 1991م التي أعقبت حرب الكويت أو حرب الخليج الثانية ، والتي هي لا تلك ولا هذه ، وإنما هي حروب النفط والمال !
بعد خروجي من السجن ، وخلال أيام العطلة الصفية ، انصرفت الى قراءة نجيب محفوظ ، فقد كانت منشدا لقراءة رواياته بشكل عجيب ، وعلى الرغم من أنني تعرفت على روائيين عرب وأجانب غيره ، لكن عالم نجيب محفوظ ظل قريبا للنفس ، في واقعية محايدة ، لا ينحاز فيها قلمه لطرف على آخر ، فهو يترك الواقع الذي يكتب عنه يعبر عن هذا الانحياز ، فزيطة صانع العاهات في روايته " زقاق المدق " رجل معدم ، فقير ، لكنه مع ذلك كان يمارس مهنة قذرة ، وسعيد مهران في روايته " اللص والكلاب " رجل سرقوا منه ابنته ، ولكن الشرطة راحت تطارده ، فهو يرى أنه كان على حق ، ولهذا هتف : " إن ما أخذ بالسرقة لا بد أن يسترد بالسرقة " . وهذا مبدأ عمل به الشرق منذ عهود سحيقة ، وذلك حين شمخت مسلة حمورابي على أرض بابل ، تلك الوثيقة التي نظر لها سعيد مهران بإجلال .
بعد عدت سنوات مضت على ذاك الزمان كتب لي صديق عزيز هو كاني ياسين جواد " أبو عمار " رسالة من العراق ، وكنت أنا وقتها أعمل مدرسا في القطر الجزائري ، يخبرني في تلك الرسالة بأن رواية صدرت لنجيب محفوظ بعنوان : حب تحت المطر ، ويضيف صديقي الى ذلك : إن نجيب محفوظ قد تحول فكريا نحو اليسار فيها ، وحال زيارتي للقاهرة في صيف تلك السنة توجهت لواحدة من المكتبات فيها ، وقمت بشراء تلك الرواية ، مثلما اشتريت في نفس الوقت : البيان الشيوعي الذي كتبه كارل ماركس ، وفريدريك انجلز ، وكان هذا غب نكسة حزيران 1967م بسنوات ، وبعد أن عزز الرئيس جمال عبد الناصر علاقة مصر بالاتحاد السوفيتي .
صرت أسهر في قراءة تلك الرواية بالشقة التي استأجرتها في مدينة الاعلام وخلف مسرح البالون تماما ، وبرغم من أن صديقي أبو عمار كان على صواب فيما كتبه لي ، ولكنني لم أجد تغييرا فكريا عند نجيب محفوظ ، وإنما الذي تغير هو الواقع الذي كتب عنه ، فنجيب محفوظ ظل أمينا على واقعيته في الكتابة ، باستثناء رواية واحدة على ما أذكر خرج بها عن هذا الخط قليلا هي رواية " الشحاذ " التي قرأتها أنا بسن مبكرة . فقد كان فيها شيء من تساؤل فلسفي . فعمر حمزواي بطل الرواية يعيد نفس التساؤل عن الموت والوجود ، ذلك التساؤل الذي سبقه إليه ابن سومر ، كلكامش ، في ملحمته قبل ألوف من السنين .