رحلة في السياسة والأدب ( 5 )


سهر العامري
2015 / 6 / 7 - 11:30     

رحلة في السياسة والأدب ( 5 ) سهر العامري
بعد أيام أمضيناها في سجن الأحكام الطويلة في مركز مدينة الناصرية نقلنا ثالثة الى سجن الجبايش ، ولم يكن أحد منا يتوقع نوع الحكم الذي سيصدر بحقه بعد تلك المحاكمة التي قادها الحاكم عبد الجبار محيسن في سراي مدينة الناصرية ، ذاك الحاكم الذي صار مديرا للتوجيه العسكري بوزارة الدفاع العراقية في حكم حزب البعث الثاني . ولكنني أبلغت بعدها من قبل شرطة الجبايش بتغيير المادة التي كنت موقوفا بموجبها الى مادة من قانون العقوبات البغدادي ، على ما اتذكر ، وهي مادة قد يتعرض الرجل المحكوم بموجبها الى الإعدام نظرا لان المناشير التي قمت بكتابتها وتوزيعها عُدت تآمرا على سلامة الجمهورية.
مرت أيام بعد ذلك ، وفي الساعة الواحدة من بعد منتصف ليلة سوداء من تلك الليالي السود هبطت برقية من بغداد بإطلاق سراحي ، أنا والمجموعة المشاركة لي في كتابة وتوزيع المناشير التي جئت على ذكرها قبل قليل ، وقد حمل البرقية تلك ابن عمي الذي كان يدير محطة لاسلكي مركز قضاء الجبايش ، وقام من فوره بابلاغ قائمقام القضاء وهو رجل من أهل الموصل ومن بيت من بيوتها يدعى" توحلة " وقد كان ضخم الجثة ، أحمر الوجه ، مديد القامة ، أخضر العينين ، وقد تعرض لي مرة بكلمات بذيئة يلومني فيها على ما قمت به من عمل ضد انقلاب البعث الأسود في شباط عام 1963م ، رغم أنه كان من رجال الزعيم عبد الكريم قاسم ، لكنه سرعان ما نسى ذلك ، وبدل جلده على شاكلة الكثير من العراقيين المنافقين الذين يتقلبون من حال الى حال بين ليلة وضحاها .
لقد نسى هذا الرجل أن الزعيم وحكومته هما من جعلاه بهذا المنصب رغم أنه منصب في مدينة لا يحسد عليه كل من تسنم منصبا حكوميا فيها ، فهي مدينة نائية تقع في أقاصي جنوب العراق ، تطوقها مياه هور الحمّار من جميع جوانبها ، تفصلها عن مدينة الموصل مئات الكيلومترات من الأرض ، ولم تكن هي مرتبطة بريا بطرق معبدة أو غير معبدة مع مدن العراق الأخرى قبل قيام الجمهورية ، ولكن حين رشح الزعيم عبد الكريم قاسم الطبيبة نزيه الدليمي ، عضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وقتها ، لمنصب وزيرة البلديات ، عملت هي بإخلاص على تطوير جنوب العراق خاصة مناطق الأهوار ، ففي عهدها شقت طرق السيارات مياه الهور ، ونزلت الكهرباء بيوت أهله ، وشربوا للمرة الأولى ماءً معقما.
كما حظيت مدينة الناصرية بمشاريع كثيرة عجزت أن تأتي بمثلها كل الحكومات التي تعاقبت بعد حكومة عبد الكريم قاسم ، فقد ارتبط مركز المدينة بسكة قطار حديثة قامت ببنائها جمهورية ألمانية الديمقراطية وقتها ، كما ارتفع جسر حديث على ضفتي نهر الفرات الذي يشطر المدينة الى شطرين اثنين ، هذا بالإضافة الى كورنيش جميل أخذ سكان المدينة السير أو الجلوس فيه مساءً ، ومثله انبسط على ضفة النهر الأخرى منتزه تقوم فيه كازينو تقدم الأكل والشراب لزواره ، وإذا كان هناك من مشروع يذكر أهل المدينة بالزعيم عبد الكريم قاسم وحكومته هو ذلك البهو البهي الجميل الذي صممه وأشاده العراقيون أنفسهم ، ولم يستعينوا بأية خبرات أجنبية حاله في ذلك حال الأحياء السكنية التي قامت في المدينة ومدن العراق الأخرى ، والتي عرفت بالإسكانات ، والعراقيون بعد ذلك يعرفون كثرة المشاريع التي قامت في العراق على زمن الزعيم عبد الكريم قاسم وحكومته ، وهو زمن يتجاوز الأربع سنوات بأشهر فقط .
حضر قائمقام الجبايش في تلك الساعة المتأخرة من الليل بعد إبلاغه بهبوط البرقية التي مر ذكرها ، وقف أمام باب السجن ، وعندها سأله ابن عمي فيما إذا كان بإمكانه جلب كفيل لي في هذه الساعة كي أغادر السجن بعد إجراء الكفالة ، رد هو بالإيجاب على سؤال ابن عمي الذي بادر من فوره الى جلب كفيل لي من أهل الجبايش كان على معرفة بوالدي . خرجت أنا من السجن بعد وصول الكفيل ، وحملت فراشي معي ، ثم توجهت الى غرفة شرطي مسؤول عن إجراء الكفالة ، ويبدو أن ابن عمي هو الذي أحضره في هذه الساعة المتأخرة من الليل كذلك .
تمت كفالتي من رجل يدعى لازم ، وهو أخ لرجل مسجون معنا بتهمة انتمائه للحزب الشيوعي العراقي ، ويدعى هاشم ، وكان لازم نفسه متعهدا بإطعام سجناء سجن الجبايش ، وقد حرص الرجل على تقديم أفضل أنواع الطعام لنا في ثلاث وجبات أكل في اليوم الواحد ، ومع ذلك فقد نغص علينا ساعات النوم في السجن ذاك قطعان لا ترحم من القمل والبرغوث ، ويضاف الى ذلك أفراد من الحرس القومي الذين طالما وقفوا في باب السجن برشاشاتهم مهددين الجميع بالقتل رميا بالرصاص إذا لم ندل ِ باعترافات عن علاقتنا بالحزب الشيوعي وذلك تحت بيان رقم 13 سيء الصيت الذي أباح قتل الشيوعيين والذي أذاعه من إذاعة بغداد الحاكم العسكري ، رشيد مصلح ، ذلك الرجل الذي أعدمه البعثيون أنفسهم في حكمهم الثاني بعد انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968م وبسبب من تعاونه مع عبد السلام عارف الذي قاد انقلابا على حكم البعث الأول عام 1963م في اليوم الثامن عشر من تشرين الثاني سنة 1963 م أي بعد انقلاب 1963م بعشرة أشهر .
لقد أطلق سراحي بكفالة مقدارها خمسة آلاف دينار عراقي ، وهو مبلغ كبير في ذلك الزمان يمكن لأي انسان أن يبني فيه خمسة بيوت حديثة الطراز ، وعلى أن تعاد محاكمتي بعد بلوغي سن الثامنة عشرة من العمر ، وكان السبب الرئيس في خروجي من السجن هو كون القانون قد نظر لي على أنني ما زلت قاصرا ، رغم أن المادة التي أطلق سراحي بوجبها أجازت حكم الاعدام ، ولكن مع وقف التنفيذ ، والى حين إعادة محاكمتي مثلما أشرت الى ذلك قبل قليل .
كانت الساعة تشير الى الثالثة بعد منتصف تلك الليلة حين خرجت أنا وابن عمي من بناية قائمقامية قضاء الجبايش ، متوجهين الى كراج السيارات الذي وجدنا كل السواق فيه نياما ، أيقض ابن عمي أحدهم وطلب منه حملنا بسيارته الى دار أهلي ، وحين ترجلنا من السيارة وسرنا في طريقنا الى البيت اعترض طريقنا أحد أفراد الحرس القومي سائلا عن هويتنا فقط دون أن يقوم بأي إجراء آخر ضدنا .
بعد ذلك بثلاثة أيام التحقت بالدراسة في الصف الذي كنت أدرس فيه ، وهو الصف الثاني من متوسطة الجمهورية ، ولفت انتباهي استبدال مراقب الصف ، الذي يناط به تسجيل غيابات الطلاب ، بطالب من أهل كربلاء يدعى مالك ، وكان اخوه مدرسا في ذات المتوسطة ، وقد عرفت فيما بعد أن سبب استبدال المراقب كونه صديق لي ، وكان يتحاشى في كل الأيام تسجيلي غائبا ، فقد كان يخشى علي هو الفصل والطرد من المدرسة المتوسطة ، والطالب هذا هو سامي مزهر يعمل الآن معلما في محافظة البصرة ، وكان هو وبعض المدرسين والكثير من طلاب ذلك الصف يتعاطفون معي بإخلاص ، ولكن بحذر ، ومع هذا ، وبينما كنت أقوم بالإجابة عن أسئلة امتحان في مادة الكيمياء ، طل من باب الصف علينا عامل المدرسة يحمل بيده اعلانا من مدير المتوسطة ، ريسان مطر ، الذي عمل كذلك مذيعا للنشرات الاخبارية من اذاعة بغداد ، وكان مضمون الاعلان هو طردي من عدد من الطلاب من المدرسة والدراسة فيها ، نهضت من فوري ثم سلمت ورقة الامتحان الى المدرس عبد علي الكاظمي الذي طلب مني أن أواصل الاجابة إلا انني رفضت ، وحملت كتبي وخرجت من الصف متوجها الى قاعة المدرسة التي تشتمل على مسرح للتمثيل ، مثلما طالبنا الاعلان بذلك . ( يتبع )