القضية ليست مجرد حجاب - مقال


اليسار الثوري في مصر
2015 / 6 / 1 - 20:15     

مقال مشترك للرفيقين شمس مختار و محمد علي إبراهيم
------

شاهدنا منذ فترة قصيرة تلك الدعوات، والدعوات المضادة حول موضوع خلع الحجاب، الذي طرحه بعض النشطاء الليبراليين، داعين النساء للنزول للميدان رفضاً لفرض الحجاب عليهن وإلى القيام بخلع الحجاب في ميدان التحرير، وهو ما يعطى تصور لمشهد سينمائي مؤثر، كأنها لحظات النصر والتحرر. ذلك التحرر المنشود للمرأة التي تعاني وطأة القهر والإجبار في مختلف شئون حياتها الخاصة والعامة.

تناول الرأي العام هذه الدعوة بالتعليق والرد، وتصدت لهم ليس فقط أحزاب الإسلام السياسي، والمؤسسة الدينية الرسمية، ولكن أيضاً أجهزة الدولة الإعلامية، والثقافية في محاولة استعراض مدى تدين الدولة المصرية، وانطلقت هذه الموجات من مشاهير وساسة وإعلاميين، ولم يخرج أحد يتناول الدعوى بموضوعية، يحلل ويناقش الدعوى وموضوعها ويخرج باستنتاجات ذات شأن حول قضية الحجاب في علاقتها بمشكلات النساء، بل أن واحدة من مؤسسات إحدى الصفحات النسوية اعترضت على الدعوى لمجرد أن الداعي لها رجل، وهو ما يثير السخرية.

يبدو أن مسألة تحرر المرأة على قدر أهميتها تقتصر عند كثير من الليبراليين المهتمين بالنسوية على بعض المفاهيم شديدة السطحية عن ما يسمى قهر أو اضطهاد المرأة، وأن نموذج المرأة لدى مثقفو الليبرالية المصرية البورجوازية هو نموذج فتاة الطبقة الوسطى بوجه خاص ومشاكل المرأة التي يتحدثون عنها، هي مشاكل المرأة من الطبقة الوسطى تحديداً. ومن ثم فإن تحديد أي تحرر تحتاج إليه النساء، هو مسألة أولية يجب أن توضع في اعتبارنا ونحن نتناول الأمر.

إن تأييد أو رفض أمر ما لا يجب أن تحكمه انفعالات عفوية، أو السير وراء أهواء لحظية قد تحجب التفكير العلمي والثوري تجاه القضية. ومن ثم يجب تناول هذا الأمر بموضوعية، وبتحليل وتفنيد أبعاده ومضمونه الطبقي، وأيضاً الإطار الاجتماعي والتاريخي له. فنحن كماركسيين لا يجب أبداً أن ننجر خلف الاندفاعات العفوية – في نظرتنا – للقضايا المطروحة، وكيفية التعاطي معها.

إن تلك الدعوة التي طرحت كانت منقطعة الصلة – إلى حد بعيد – بالمشكلات الجوهرية للمرأة المصرية، التي تعانى من المجتمع الذكوري الذي يمارس الاضطهاد ضدها، بدءً من التشريعات الرجعية القائمة علي التميز، وصولاً إلي التمييز المادي والثقافي في المحيط الاجتماعي.

البعد المادي التاريخي لوضع المرأة.
-------------------
يبدو أن مسألة تحرر المرأة على قدر أهميتها تقتصر عند كثير من الليبراليين من المهتمين بالنسوية على بعض المفاهيم المختزلة عن قهر المرأة واحتياجها للتحرر، أن السؤال الذي يجب طرحه، في المقارنة بين التصور الليبرالي والتصور الماركسي، هو أي قهر تقع تحته النساء ، ما هي جذوره، وأي تحرر تحتاجه؟

تنظر الماركسية لقضية المرأة انطلاقاً من واقعها المادي وظروفها الاجتماعية، واضعة في اعتبارها البعد التاريخي لتطور وضع المرأة في المجتمع ودورها حسب مراحل تطور وارتقاء المجتمع عبر التاريخ، والشرط الاقتصادي والاجتماعي الذي تحيا فيه، وظروف ومكونات المفاهيم الأيديولوجية التي تسوغ أو تبرر صور التمييز والقهر ضدها، فضلاً عن واقع وشروط النساء اللواتي لا يتعرضن لمجرد تمييز ثقافي، ولكن أيضاً لصور استغلال مركبة، النساء العاملات سواء في الريف أو المدينة، وسواء في المنزل أو المحيط الاجتماعي أو مكان وعلاقات العمل.

لذلك تقف الماركسية على حقيقة تلك المفاهيم المترسخة في الذهنية الجمعية للمجتمع (الأيديولوجيا المسيطرة) وترى كل من صور التمييز والاضطهاد، والاستغلال الطبقي، بمنظور جدلي يفرض تنوع في الخطاب وفى الموقف تجاههم.

إن اضطهاد المرأة أو التمييز ضدها بوجه عام ليس فقط وليد المجتمع البورجوازي القائم، بل إنه نتاجاً لمسيرة طويلة من التطور الاقتصادي والاجتماعي، حيث تغيرت النظرة تجاه المرأة ودورها مع كل تغير لشكل المجتمع وتطور نمط إنتاجه. ففي ظل المجتمعات البدائية ما قبل الاستقرار والزراعة، التي تعتمد على الصيد والجمع، كان الوضع مختلف حيث الحاجة لكل فرد في المجتمع، وغياب التقسيم للعمل فكانت المساواة البدائية بين الرجل والمرأة، ومع ظهور الزراعة وبداية نشأة تقسيم العمل، وظهور الأسرة المستقرة التي تتكون من رجل يعمل ويحارب، وامرأة دورها الأساسي هو إنتاج وتربية الأطفال والعمل في المنزل، تم إقصائها تدريجياً من الأدوار الأخرى خارج المنزل، ومع ظهور المدن وانتشار الحروب بين تلك المدن أو الحواضر بدء يظهر نظام الرق أو العبودية، حيث يتم استعباد نساء وأطفال الجماعة المهزومة والاعتماد عليهم كقوة عمل رخيصة، ونشأ مع هذا النمط الإنتاجي صورة أخرى من صور اضطهاد واستغلال المرأة وهو الاستغلال الجنسي، فحيث يكون دور العبد الذكر هو القيام بالأعمال الشاقة على السيد، بينما الأنثى تكون وظيفتها هي الإمتاع الجنسي للسيد.

وبالتأكيد كرست الأديان تلك الأوضاع القائمة، ولكنها في الحقيقة لم تنشئها، فهي فقط أضافت هالة قدسية على العلاقات القائمة بين الرجل والمرأة وشكل الأسرة، وعززت حالة التمييز ضد المرأة، ومع تطور المجتمعات اختلفت النظرة إلي دور المرأة لدى الدين، فالأديان في المجتمعات الزراعية الأولى كانت تنظر بقداسة أكثر للمرأة ودورها، فهناك العديد من الآلهة الإناث، مثال عشرات عند الفينيقيين وماعت عند المصريين القدماء، وهذه كانت دلالة على مدى التقديس والاحترام لدور المرأة في تلك المجتمعات.

ومع تطور المجتمع البشرى وزيادة الحاجة إلى الأيدي العاملة في المجتمع البورجوازي، أصبح نظام الإنتاج في ظل الرأسمالية في حاجة إلى إشراك أعداد أكبر في عملية الإنتاج، الرأسمالية لا ترغب أن تعول دون مقابل قسم كبير من الطبقات الفقيرة التي لا تنتج ولا تساهم في خلق أرباح لها، ومن ثم أصبح العمل خارج المنزل متاح للنساء أكثر من أي نظام سابق، وبوجه خاص تضاعفت مشاركة النساء في العمل منذ الحرب العالمية الأولى، حيث تم تعبئة عدد كبير من الذكور على جبهات القتال وصار هناك حاجة إلى إشراك النساء بصورة أكبر لتعويض النقص في الأيدي العاملة.

بعض أشكال قهر النساء
-------------------
إن صور الاضطهاد للمرأة في مصر متعددة، وهي تتعدى مشكلة فرض زي معين على النساء دون الرجال، فمصر تعد وفق إحصائيات المنظمات الدولية من أكثر الدول التي تمارس الاضطهاد ضد النساء، سواء القانوني أو الوظيفي، كما أنها ثاني أعلى دولة في نسب التحرش، وكذلك هي من أعلى الدول في نسب ممارسة العنف ضد المرأة، ويمكن أن نعرض في نقاط بعض الأشكال المتنوعة للقهر الذي تتعرض لها المرأة، وهي أشكال متداخلة ومرتبطة كل منها بالآخر:

1. حقها في الاستقلال،

بدءً من عدم استقلالها في تحديد مصير حياتها شخصياً، إذ يتدخل في حياة المرأة دائماً مسئولٌ عنها سواء الأب أو الزوج أو غيرهم، فليس لها أن تقرر مصيرها بمعزل عن متبوعها، مروراً بتبعيتها المالية واعتبارها نصف إنسان كما هو الحال في توزيع الميراث وفق مبررات عديدة دينية واجتماعية، وصولاً إلى وضعها العبودي في المنزل فتتولى أعمال الخدمة التي كان يتولاها عبيد (والآن خدم) في أسر الطبقات العليا. لتبقى المرأة مستغلة ككيان ضعيف، من قبل الرجل ككيان قوى.

ففي العصر الحالي يمكن أن نشير إلي حال النساء مع أزواجهن ومعاناتهن الأسرية وانتهاك حقوقهن في ظل افتقادهن للقدرة المالية على الاستقلال الذاتي، وإلا تعرضت للضياع والتشرد ، وحتى في تلك الأحوال التي قد تتمكن من إيجاد دخل مالي جيد، تواجه أعراف المجتمع وسهام الاتهام الرافضة لعمل النساء واعتبار تحرك المرأة مستقلة دون رجل نوع من الفجور، وغيرها من التهم والنظرات التي تلاحقها لحظة بلحظة.

2. حقوق المرأة في العلاقات الزوجية والحق في الطلاق،

ولا يمكن تجنب أحوال قطاع كبير جداً من النساء المتزوجات، سواء اللاتي يقبلن الأمر الواقع بتعرضهن للضرب والاغتصاب الزوجي والترويع، أو اللاتي يُتركن بين ساحات محاكم الأسرة لتسوية حقوقهن القانونية التي سطرت في القانون ولا يعترف بها المجتمع، وحتى هذه المحاكم تتعامل معهن ببيروقراطية شديدة قاتلة، من أجل حقوق مالية تافهة، لا ننكر أهمية تلك النصوص القانونية لكنها تظل هامشية غير حاسمة، إذ تتحمل المرأة أعباء الصراع القضائي حتى تحصل على حكم بنفقة مالية تافهة، ثم تبدأ معاناة تنفيذ الحكم، وكل مرحلة تمر بإجراءات طويلة وبيروقراطية.

مع ضرورة الانتباه أن القوانين في المجتمعات الشرقية لا تعترف بحق الزوجة في جسدها، فهي قد تحمل مولود رغماً عنها، كما أنها مباحة لزوجها جنسياً فلا تعترف قوانين هذه المجتمعات بجريمة الاغتصاب الزوجي، فحسب العقائد الدينية الزوجة حق لزوجها شرعاً وحلاله، لذلك لا تتمكن الزوجات اللواتي تتعرضن لانتهاك جنسي أن تلجأن للمحاكم، فلن يحميها قاضٍ ولا نص قانوني. هذه النصوص القانونية والدينية تؤكد على حق الرجل واحتكاره لفك أواصر رابط الزوجية بالإرادة المنفرد، سواء باتفاق مع زوجته أو في غيبتها دون علمها حتى، وهو ما لا يحق للمرأة إلا بعد معاناة في المحاكم بإتباع طريق طويل من الإجراءات لتطلق من زوجها، إذ أن عليها إثبات شروط عديدة تطلبها التشريع بخصوص تطليقها من زوجها أمام القاضي ليرى استحقاقها التطليق من عدمه وإلا رفض طلبها، لتظل خاضعة لوضع قهري مع رجل لا ترغبه، وممنوع ومحرم عليها الزواج بآخر إلا بعد حل رابط زيجتها القائمة، وهو ما ينجم عنه عشرات الآلاف الحالات لنساء ممنوعات من التطليق، وفي نفس الوقت لا يعشن مع أزواجهن سواء لاستحالة العيشة بينهم أو لطردهن، ومتروكات معلقات بلا حل. حتى الخلع يرتبط بتنازل الزوجة عن حقوقها المالية لصالح الزوج ويتم أيضاً وفق إجراءات التقاضي السقيمة بالمحاكم.

3. الانتهاك الجنسي،

أيضاً لا يفوتنا الانتهاكات الجنسية بحق النساء منذ صغرهن، إذ يعرف المجتمع ختان الإناث القهري بغرض حجب رغباتهن الجنسية، التي يرى فيها خطراً مرتبطاً بوضعها ككيان جنسي يجب ألا تتعرض للميل الجنسي في صباها قبل الزواج حتى لا تنحرف، وهو ما ليس عند الرجل فله كل الميل الجنسي، فالكبت الجنسي عند المرأة يعد شرف والحرية الجنسية عند الرجل تعد فخراً. كما أن المجتمع يعترف بل يعتبر الزوجة حق لزوجها جنسياً، وهو حق مشرع دينياً للزوج، فلا يقبل اعتبار وجود انتهاك من زوج على زوجته جنسياً، وهو ما لا يعترف به القانون، من سترفض انتهاك حريتها الجنسية ستقابلها الذهنية المجتمعية بالتهكم وترى فيها ناشزاً عن زوجها بل يحل معاقبتها.

هذه النظرة الجنسية التي تحتل محور الذهنية المجتمعية للمرأة تعد سبباً لتعرض النساء للاستباحة من الرجال، وهو ما يدخل في إطاره التحرش الجنسي أيضاً، والتحرش الجنسي لا يحدث فقط في الطريق العام، إنه قد يحدث في العائلة وفى مكان العمل وفى دوائر الأصدقاء، إنه انعكاس لثقافة وممارسة اجتماعية عامة. بالإضافة إلي ذلك فهناك تحصين الرجل من مسئولية الخطأ، المرأة دائماً هي السبب، هي المثيرة للفتنة، هي التي تثير الرجل، فهي التي تتحمل الوزر دائماً، لأنها “بالتأكيد قد ارتكبت خطئاً ما”، أي أن الأنظار والأفكار تتجه للمرأة لتبحث عن سب ﻹ-;-دانتها هي الضحية، وعذر للذكر المسكين الذي تم إغوائه بطريقة ما.. هذا المنظور وثيق الصلة بفرض أزياء محددة كالحجاب على المرأة، الذي تظل المرأة برغم ارتداءه عرضة لتلك الممارسة الإجرامية، وأيضا عرضة للإدانة.

4. استغلال طبقي مضاعف،

لا تنتهي أشكال قهر المرأة عند هذا الحد، ففي وسط الاستغلال الطبقي الواقع على الطبقة العاملة والاستغلال المستمر من قبل الرأسماليين، يأتي قهر للمرأة التي يتم تشغيلها في أحوال وظروف قاسية وبأجور أقل من الرجال، وقد يتم رفض تشغيل النساء أصلاً نظراً لحاجتهن لبعض الحقوق تتفق مع تكوينهن البيولوجي مثل إجازات الحمل والإنجاب، فلن يراعى الرأسمالي توفير ظروف عمل مناسبة للنساء، فيكون من حقها أن تحصل على أجازة الوضع وتعود لتجد عملها، أو أن يتم توفير أماكن لروضة الصغار، وهي تلك الأمور التي تشكل عبء على الرأسمالي لن يتطوع بها من نفسه ولا توجد سلطة تضمن حق النساء في العمل وفق أوضاع تتناسب معهن، في ظل نظرة المجتمع بأن دور المرأة الطبيعي هو تربية الأبناء وتولي شئون المنزل وخدمة زوجها. فتظل المرأة غير مستقلة مالياً أو ذاتياً عن تبعية غيرها (رجل) الذي يتحكم في شئون حياتها ويمارس هيمنة عليها وهو ما يحمل انتهاك لشخصها، ولا يراعي المجتمع مثل هذه الأمور على الإطلاق.

العديد من النساء المصريات هن المنفقات فعلياً على أسرهن، أو على الأقل يشاركن في الإنفاق، ومع ضعف تطبيق قوانين العمل، في مؤسسات القطاع الخاص بصورة أكبر، فإن النساء هن الأكثر تضرراً حيث يتركن تحت رحمة أصحاب العمل، الذين يعطونهن أجوراً أقل من الرجال، وذلك على أرضية أن قدرتهن على العمل أقل من الرجال، وحيث أن الكثير منهن يشاركن في إعالة أسرهن أو يعلنها بشكل كامل، فإن ذلك صورة أخرى من صور الاضطهاد للمرأة العاملة.

إذا نظرنا إلى أوجه الاضطهاد والتمييز السابق عرضها، نجد أن النساء الأكثر تعرضاً لها هن النساء الفقيرات، ونساء الطبقة العاملة والبورجوازية الصغيرة، فهن يتعرضن للتحرش في المواصلات العامة وهن في طريقهن للعمل، وفي بعض الأحيان أثناء العمل من زملائهن الذكور، وكذلك غير مسموح لهن بالحديث عن الأمر أو مقاومته، وفي داخل الأسرة يكون من حق الأب أو الأخ أن يتدخل في كل كبيرة وصغيرة من حياتها، سواء ملابسها أو أصدقائها، ومتى تخرج ومتى ترجع إلى المنزل ومع من، حتى في اختيار الزوج يكون رأيهم هو الحاسم، إن لم يكن الرأي الوحيد مثلما يحدث في الريف كمثال، كما أنها تواجه أزمة في أن تحصل على سكن مستقل لها، بسبب نظرة المجتمع أيضاً، ثم نأتي إلى تعامل المجتمع مع المطلقات أو الأرامل حيث نظرة الشك الموجهة إليهن، ويفرض ذلك عليهن سلوك معين لكي لا يتم التحرش بهن أو نبذهن، وبذلك تتعدى مظاهر اضطهاد المرأة مسألة فرض الزي عليهن، وتطرح علينا كماركسيين مهمة إيجاد الأساليب المناسبة للعمل على قضية تحرر المرأة.

النساء والحجاب
-------------
للأسف انجر بعض الماركسيين خلف دعوات خلع الحجاب، من منطلق أن من واجبات الماركسيين الدفاع عن حقوق المرأة ودعم تحررها، وبالتأكيد فإن قضية تحرير المرأة هي واحدة من القضايا الأساسية للماركسيين، وللمقولة المأثورة “إذا أردت أن تعرف مدى تحضر مجتمع فانظر إلى حال المرأة فيه” دلالة واضحة على أهمية تلك القضية، فالمرأة هي الشق الآخر من المجتمع الأكثر تعرضاً للاضطهاد، وحالها هو انعكاس لمدى تحضر ذلك المجتمع، ومدى تطوره، وحيث من مهام الماركسيين العمل على تجميع قوى المضطهدين عموماً داخل المجتمع، لمواجهه حاسمة مع النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي هو سبب لهذا الاضطهاد، فإن المرأة تعد من أبرز تلك الفئات التي تتعرض لذلك الاضطهاد، ولذلك لابد أن يعمل الماركسيين على تحفيز مبادرتها في مواجهة المجتمع القائم، ودعم تلك الحركات النسائية التي تواجه صور التمييز التي يمارسها المجتمع ضد النساء، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، في النهاية فإن العمل على قضايا المرأة وتحررها هو جزء أصيل من قضية الاشتراكية، حيث عن طريق العمل على تلك القضية، يستطيع الماركسيين كسب قطاع هام من المجتمع لقضية الاشتراكية.

إن الحجاب الآن هو أمر أيديولوجي يتمتع بقدر من الهيمنة العميقة داخل البنية الذهنية والتكوين الفكري الذي تنتجه وتعيد إنتاجه الأيديولوجيا الطبقية (الذكورية) المهيمنة، وقد تموهت حتى صارت في صورة تقليد أخلافي ضمن تقاليد وقيم الواقع الاجتماعي إلى حد ما، إلا أن قضية الحجاب ليست هي سبب أو صورة القهر الذي تعاني منه المرأة في المجتمع، إنما هو معبر رمزي عن أوضاع مادية وظروف اجتماعية تقهر المرأة.

انطلاقاً من العرض الذي تناوله المقال يتبين أن هذا النمط من التفكير إنما يموه ضمنياً على حقيقة وأسباب قهر واضطهاد النساء، يشد الانتباه إلى مظهر رمزي، باعتباره هو القضية، يستبدل السبب التاريخي والاجتماعي بأحد نتائجه الأيديولوجية؛ الحجاب، ومن ثم يثير غباراً يخفى جذور الاضطهاد، وصراعاً بعيداً حتى عن التجليات الهامة تاريخ وأصول الاضطهاد.
ولكن أي نساء؟

هذا سؤال مطروح دائما،ً فعلى الماركسيين أن لا ينجروا في تبنيهم لقضية المرأة لا وراء المنظور الشعبوى المبتذل الذي يتعالى على غير نضال المصانع، ولا وراء المنظور النسوي الذي يحول القضية إلى حرب النوع الجنسي بين المرأة والرجل، متجاهلا تماماً واقع وأسباب تطور المجتمع إلى ما هو عليه، وأن الرجال والنساء على حد سواء ضحية ذلك المجتمع بدرجة أو بأخرى، في الحقيقة أنه ليست كل النساء مضطهدات، فالمرأة البورجوازية تتمتع بقدر كبير من الحرية قد لا يتمتع به كثير من الرجال، وهي في الغالب تمارس الاضطهاد على فئات أخرى أدنى طبقياً، وحتى على امرأة مثلها كخادمتها مثلاً أو العاملات في شركتها أو الخاضعات لها وظيفياً، لذلك ينظر الماركسيون إلى المرأة من منظور مركب، مميزين بين صور التمييز الثقافي وحدود تجلياته، وصور الاستغلال والاضطهاد الطبقي الذي – كقاعدة عامة – تكون ضحاياه، النساء المنتميات إلى الطبقات المضطهدة في المجتمع بالأساس، العاملات وصغار الموظفات والفلاحات الفقيرات وخدم المنازل ونساء الأحياء الفقيرة، إننا ننحاز بصورة مطلقة إلى النساء الأخيرات اللواتي يندمج تحررهن التام والناجز بتحرر الطبقات المستغلة من المجتمع الطبقي وهرميته وعبوديته وشروط استغلاله، أولئك هن رهاننا الإستراتيجي وفيلق أساسي من الجيش الاجتماعي الذي سيصنع التحرر الاجتماعي.

لكننا في ذات الوقت نقف ضد أي تمييز أو عدوان قانوني أو اجتماعي تتعرض له النساء، أياً كانت طبقتهم الاجتماعية، وأياً كانت مشاركتهم في استغلال العاملات أو العمال، بوصف ذلك معركة من معارك الديموقراطية الجذرية التي تمهد لنضالنا الطريق، وتكسبنا تعاطف قطاعات متقدمة من نساء الطبقة الوسطى، وهى أيضاً معركة هامة على طريق مجتمع بلا تمييز أو استغلال، لا يعنى هذا أن لا نقاوم جميع الممارسات الطبقية التي تمارسها نساء الرأسمالية الكبيرة أو المتوسطة، أو يشاركن فيها، ضد الشرائح أو النساء الفقيرات، ولا يجوز عمل أي خلط بين القضيتين عند تحديد المواقف، قضية النضال الديموقراطي الجذري، وقضية التحرر الاجتماعي، ولكننا نمارس ذلك باستقلال وتشهير بالمجتمع الطبقي، وليس بمجرد المظهر الثقافي أو القانوني؛ استقلال فكرى، واستقلال تنظيمي، وبهدف تعبيد الطريق لهدم النظام البورجوازي ذاته، شأن ذلك مثل موقفنا من مجمل قضايا النضال الديموقراطي الجذري، الأقليات القومية أو الدينية، حق الاعتقاد والتعبير .. الخ. ولكن، وكمبدأ عام، ننطلق من نظرتنا نحن ولا تذيل أفكار أو منظمات الإصلاحيين أو البورجوازيين، أو حتى الجماعات أو الأقليات التي تتعرض لاضطهاد أو التمييز. نحن معكم، ولكن على طريقتنا، ولسنا ملزمين بطريقتكم في النظر للقضية أو بطريقة تعاملكم معها.

ولكن، وقبل أي شيء، لن نخوض معركة أي قطاع من الجماهير أو الفئات الاجتماعية بالوكالة، إما أن نحفز نضالات أصحاب الشأن للدفاع عن حقوقهم، أو نتفاعل مع مبادراتهم، بمنظورنا، أو نمارس الدعاية والتشهير بالتمييز والاضطهاد لحفز مبادراتهم، أما هذا النضال الذي يستبدل الجماهير بأعمال يائسة ومعزولة لنخب سياسية أو ثقافية، هذا النضال الفوقي والاستبدالي، لن نشارك فيه أو ننجر له، إننا مع الجماهير في جميع نضالاتها، مع النساء اللواتي يحتشدن ضد التمييز أو الاضطهاد، مع العمال والعاملات في كل الأوقات، مع معارك النخب السياسية – التي تهمنا – في حدود الدعاية العامة والتشهير، وأبداً ضد النزعة الفوقية الاستبدالية التي في جوهرها تكرس عجز وتهميش الجماهير.