تشارلي تشابلن، توسيع دائرة السخرية والألم!

طلال عبدالله
2015 / 5 / 6 - 08:44     




لم يمثّل عبقري السينما الصامتة تشارلي تشابلن قيمة فنية عظيمة فحسب، بل تعدى ذلك ليصبح حالة فريدة من نوعها وظاهرة تخرج عن إطار المألوف في طرح القضايا والهموم الاجتماعية.


كثيرة هي المقالات والأفلام الوثائقية التي تحدثت عن ظاهرة تشارلي تشابلن، لكن أياً منها لم يتحدث عن بؤس الطفولة الذي فجّر إبداعات تشابلن، قد لا يصح أن نطلق عليه “أسطورة العصر” أو “ظاهرة العصر” دون أن ننطلق من كيفية تشكّل شخصيته منذ الطفولة في كنف والدته هانا.

بالنسبة لطفل، لم يكن من الطبيعي أن يفهم وجع الفقر وبؤسه، ولا المشاكل العائلية بين الأبوين، تلك المشاهد التي رسمت ملامح شخصية تشابلن، لم تغادره حتى في أعتى لحظات إبداعه، نعم؛ ذات الفكرة مجدداً، البؤس قد يصنع الإبداع!

عندما نتحدث عن تشارلي تشابلن لا نتحدث عن الأفلام الصامتة فحسب، بل نتحدث أيضاً عن موت مرحلة تلك الأفلام وولادة السينما الناطقة، وكلها كان لها من إبداع تشابلن نصيب.

من أين بدأ تشابلن؟

قد يكون من الضروري أن نتحدث عن طفولة تشارلي ومرحلة مراهقته لنعرف كيف جسّد كافة شخصيات أفلامه بعبقرية منقطعة النظير، وكيف تحوّل فيما بعد إلى كاتب للأفلام، العودة إلى الجذور التاريخية مهمة جداً لفهم واقع ما في الإطار العام.

لم تكن شخصية “المتشرد” التي وضعت تشارلي تشابلن على رأس قائمة المبدعين في القرن العشرين وليدة لحظة! فشخصية المتشرد تتضح معالمها كلما تعمقنا أكثر في تاريخ الفقر الذي عاشه تشارلي في لندن، وكلما بحثنا أكثر عن شخصية والده.

شارع كينينغتون عام 1901، حي الطبقة العاملة في لندن، تشارلي يبلغ من العمر 12 عاماً ويعيش فقراً مدقعاً، حاله حال جميع من في الحي، وله والدين منفصلين، نادراً ما كان يرى والده المغني الشعبي الذي كان يعيش برفقة إمرأة أخرى.

والد تشارلي كان في حالة دائمة من السُكر والاكتئاب، غارقاً في أحزانه وسُكره في كينينغتون عقب ما هجرته عشيقته!

لم يكن للمرة الأخيرة التي رأى فيها تشارلي والده أن تخرج من مفردات ذاكرته، فقد رأى تشارلي والده خارجاً من الحانة وزجاجة النبيذ في يده، وصدم لرؤية والده مريضاً ومنتفخاً وسيء المظهر، فما كان من الأب إلّا أن عانق ابنه الصغير، إبن الـ 12 صيفاً، وقبله للمرة الأولى في حياته.

فارق والد تشارلي الحياة بعد تلك الحادثة بثلاثة أسابيع بتليّف الكبد وعمره 37 عاماً.

والدته كانت أيضاً فنانة موسيقية، حاولت أن تربي ،وحدها، ولديها تشارلي وسيدني، هي لم تقدّم لولديها سوى الحنان، في مرحلة كان عنوانها لدى الطفلين الجوع والفقر، ولكن تلك العوامل لم تمنع هانا تشابلن من زرع حب المسرح والإبداع في مخيلة طفليها!

وبسبب استغلال البرجوازية للطبقة العاملة حينها أصبحت شخصية هانا غير مستقرة، وأودعت في مركز لامبيث للأمراض العقلية، ليكتشف الأطباء بأن مرضها العقلي جاء سبباً لمرض الزهري، مما زاد من بؤس تشارلي الطفل وحزنه على ألم والدته!

مرض والدته أدى إلى أن يدخل تشارلي في مرحلة ما إلى ملجأ للأيتام أو السجن، وعندما خرج كان عليه أن يعيدها إلى المصحة إثر انتكاسة صحية، لتبقى في المصحة، ويبقى تشارلي وحيداً في المنزل وهو ابن الـ 14 من العمر.

بدأ بالعمل، وكان ينام على قارعة الطريق، إلى أن عاد سيدني من جنوب أفريقيا وانتشل تشارلي -الأخ غير الشقيق- مما هو فيه.

لاحقاً أخرج تشارلي أمه من المصحة عام 1921 وجاء بها إلى الولايات المتحدة واستأجر لها شقة صغيرة أمضت فيها آخر ثمانية أعوام من عمرها.

البؤس والفقر هي معالم إبداع تشارلي تشابلن لاحقاً، والده ووالدته والمشاكل العائلية، كلها عوامل قادت تفجّر طاقات تشابلن ليكون ظاهرة العصر!

في عام 1912 جالت مسرحية موسيقية الولايات المتحدة، مسرحية بريطانية فيها شاب عمره 23 عاماً يدعى تشارلز تشابلن، شاب يمتلئ بالحيوية والنشاط، وعلى الرغم من سوء العرض، إلّا أن ذلك الشاب نجح في لفت أنظار الجميع!

حطت المسرحية في ولاية نيويورك كمحطة نهائية لذلك العرض، وفوجئ الجميع بشخص له شارب صغير يتجوّل بين الجمهور، يلبس قبعة ويرتدي ملابس ممزقة وفي يده زجاجة نبيذ، لم يكن سوى تشابلن، وكأنه يقلّد والده!

لقد ترك هذا العبقري المسرحية الرديئة ونزل بين الجمهور وكأنه واحد منهم، ليؤدي دور سكّير يقاطع الممثلين على خشبة المسرح ويفسد العرض، وغادر دون أن يعرف أحد بأنه ممثل من فريق عرض المسرحية.

جذب أنظار صنّاع السينما بعد ذلك، وانطلق في مسيرة مليئة بالإبداع، كان فيها تشابلن ممثلاً وكاتباً ومخرجاً عبقرياً!

تجربته وواقعه، سلم صعوده!

عندما بدأ تشابلن مسيرته السينمائية كان يلعب دور صحفي في أحد الأفلام، وأعقب ذلك بالعديد من الأدوار في أفلام متعددة، دون أن تفارقه صورة السكّير الذي تقمّص شخصيته في نيويورك سابقاً، وعندما طلب أحد المخرجين من تشابلن في أحد الأفلام ارتجال شخصية فورية، وجد تشابلن ضالته!

دخل إلى غرفة الملابس، وارتدى ملابس من مختلف الأحجام، فكان سرواله واسعاً جداً وسترته ضيقة جداً، وأضاف الشارب ذاته اللي استخدمه في نيويورك، وارتدى قبعة، وأمسك بعصا، وعاد إلى موقع التصوير بمشية غريبة.

كان من المفترض أن يكون تشابلن بهذه الشخصية المرتجلة إحدى الشخصيات الثانوية في الفيلم، إلّا أنه سرق الأضواء من خلال تلك الشخصية التي رآها الجميع في خانة “الشاعرية الطبيعية”.

بذلك ولدت شخصية “المتشرد” التي أصبحت سلسلة أفلام لتشابلن، في البداية كانت أفلام المتشرد التي أدى دوره فيها، ارتجالية دون نص، وهنا برزت عبقريته بشكل ملحوظ.

في أول أفلام السلسلة كان تشابلن ومصوره يتواجدان في حلبة لسباق السيارات المصنوعة من صناديق الصابون للأطفال، لم يكن للفيلم أي نص، ولم يكن لدى تشارلي ومصوره أي تصوّر عن طبيعة ما سيقدمونه من خلال الفيلم، فيما بدأ تشارلي بالقفز على الحلبة بين السيارات وأداء حركات غريبة، ليأتي رجال الشرطة لإبعاد تشارلي عن المكان!

سحر تشارلي وأدائه ذلك لم يكن إلا ليسيطر على أذهان الجمهور، الذي تحوّل اهتمامه من متابعة السباق إلى متابعة حركات المتشرد تشارلي تشابلن، فكان فيلم “أطفال يتسابقون في فينيس” عام 1914.

تعاقبت أفلام “المتشرد” بعد ذلك، وفي ذهن تشابلن كان وقع انضباط الشخصية يزيد بمرور الوقت، فصقلها بشكلها النهائي الذي أبهر العالم.

انتهى عصر الأفلام الصامتة، وبدأت حقبة الأفلام الناطقة، ولكن تشارلي أصرّ على كلاسيكيته في فيلم أضواء المدينة (City Lights) عام 1931، والذي أبصر النور في دور السينما الأمريكية بحضور صديق تشارلي الجديد؛ ألبرت آينشتاين.

سحر تشابلن عقب ذلك من خلال شخصية المتشرد من الرأسمالية عبر فيلم الأزمنة الحديثة (Modern Times)، والذي اعتبر بمثابة بيان اجتماعي!

قبيل صدور فيلم الأزمنة الحديثة كان تشابلن قد بدأ رحلته في القارة العجوز للترويج لفيلم أضواء المدينة، وضمن جولته؛ كانت برلين في انتظاره بحشود كبيرة، ولكن ذلك لم يثني النظام النازي عن كيل الشتائم له عبر الصحف بسبب صداقته مع آينشتاين!

“استقبل تشابلن اليهودي استقبالاً حاراً في برلين، يكاد الأمر لا يصدق، إذ كيف يمكن للألمان الترحيب بأجنبي من اليهود؟ العدو اللدود للعرق الآري”، بهذه الكلمات بدأت النازية الألمانية محاربة تشابلن المحارب أصلاً من قبل الولايات المتحدة، فوضع اسمه فيما كان يعرف بـ “الكتاب النازي” ضمن خانة الأشخاص اليهود المطلوب قتلهم!

لم يكن تشارلي يهودياً، ولكنه لم يرد على ادعاءات النازية!

عندما اعتلى هتلر صدارة المشهد في ألمانيا كان تشارلي في انتظاره، فدرس وتمحص في شخصية هتلر ليخرج بفيلم ناطق أسطوري، تحفة فنية تسخر من النظام النازي بعنوان الديكتاتور العظيم (The Great Dictator)، وذلك في العام 1940.

سيبقى ذلك الخطاب الأسطوري في نهاية الفيلم ملهماً لأجيال كثيرة قادمة، ذلك الخطاب الذي نزع من خلاله تشابلن ثوب الشخصية التي سخر منها في الفيلم، ليتحدث إلى البشرية كلها بإنسانية منقطعة النظير.

تشابلن، أحب مرة واحدة!

التقى تشارلي بملدريد هاريس في إحدى الحفلات وهي ابنة الـ 16 عاماً في عام 1918، فوقع تحت سحرها الأنثوي الطاغي، ولكنه لم يرى فيها نداً من حيث الذكاء، فادعت بأنها حامل منه بعد لقائهما بأسابيع خوفاً منها على رحيل تشابلن الذي كان يمثل بالنسبة لها صيداً ثميناً، ذلك بأنها كانت تطمح إلى الوصول إلى قمة النجومية، فما كان منه إلّا أن تزوجها خوفاً من السجن بتهمة تتعلق بأنها لا تزال قاصراً!

لم تكن حاملاً، ولكنها حملت بعد الزواج؛ فيما دخل تشارلي مرحلة ركود فني في تلك الفترة نظراً لارتباطه بامرأة لا يحبها! ولد نورمان ابن تشارلي وملدريد مشوهاً وتوفي بعد ثلاثة أيام على ولادته، لينفصل تشارلي عن ملدريد بعد ذلك في العام 1920.

فقدان نورمان ضرب أعماق تشابلن فراودته فكرة أن يصنع فيلماً مع طفل، فتفجرت طاقاته الإبداعية في كتابة وتمثيل فيلم الطفل (The Kid) عام 1921، مع الطفل جاكي كوجان، الذي قال عنه تشابلن عند اختياره لتمثيل الفيلم: “لا أعرف سبب اختيارنا لذلك الطفل، ولكنني كلما نظرت إليه شعرت برغبة في البكاء!”، فكانت فكرة الفيلم الذي يتبنى فيه “المتشرد” طفلاً!



يرى النقاد بأن فيلم الطفل هو من أعظم إنجازات تشابلن، فهو يجعلك تضحك وتبكي في الوقت نفسه!

بعد فيلم الطفل بثلاث سنوات بدأ تشارلي بتصوير تحفته الفنية حمى الذهب (The Gold Rush) الذي كتبه وأنتجه وأخرجه ومثله بنفسه، ليتا غراي بطلة الفيلم والتي كانت تبلغ من العمر آنذاك 15 عاماً اصطادت تشارلي، وحملت منه ليتزوجها خوفاً من السجن مجدداً، لم يحبها ولكنه تزوجها لأسباب اجتماعية، وذلك ما قاله بنفسه لها!

أصبح تشارلي والداً لطفلين من ليتا؛ تشارلز الابن وسيدني، لكن ذلك لم يمنع انفصاله عن ليتا بناءً على طلبها هي في العام 1927.

بوليت غودار بطلة فيلمه الأزمنة الحديثة، وبسبب تشابه ظروف الطفولة القاسية التي تشبه الظروف التي مر بها تشابلن، كانت ملجأً له في العام 1936، فوجد فيها كسراً لحالة الوحدة لأول مرة في حياته، ولكنها هجرته في العام 1942، ليعود تشارلي وحيداً!

جميع تلك التجارب جعلت من تشارلي مستعداً للقاء حبيبته الوحيدة، أونا أونيل، الممثلة التي خفق لها قلب تشابلن على الرغم من أنها كانت في السابعة عشر من العمر، فيما كان هو في الرابعة والخمسين!

لقد كانت أونا حب حياته الوحيد والرائع، وحبه الحقيقي، تزوّجها وأمضى حياته برفقتها حتى وفاته في العام 1977.

جائزة الأوسكار، عدو الدولة يعود إليها!

لم تكن الحماسة لتأخذ تشارلي عندما تلقى رسالة مفادها أنه سيحصل على جائزة الأوسكار في هوليوود، فتلك الجائزة بحد ذاتها لا تعني الكثير لعبقري مثل تشابلن، ولكنه أراد تحدي من أبعده عن الولايات المتحدة وأقصاه عن العمل فيها من خلال العودة بانتصار تاريخي.

لم تشعر هوليوود بالأسف عما اقترفته سابقاً بحق تشابلن عبر منحه الجائزة، ولم ترد التكفير عما ارتكبته بحقه، إنما أرادت الظهور بمنظر لائق أمام الرأي العام، للإجابة عن سؤال مفاده: “كيف لم يحصل عبقري كتشابلن على مثل هذه الجائزة؟”!

لم يبدِ تشابلن الرغبة في العودة إلى الولايات المتحدة للحصول على الجائزة، إلّا أن الرسائل التي انهالت على مكتب التحقيقات الفدرالي في واشنطن من كل حدب وصوب آنذاك كانت كفيلة بتشكل حدس لدى تشابلن بضرورة العودة إلى الولايات المتحدة للحصول على الجائزة عام 1972، من باب التأكيد على انتصاره على أعدائه ليس إلّا!

نص إحدى الرسائل التي تلقاها جون إدغر هوفر مدير مكتب التحقيقات الفدرالية آنذاك:

“إلى السيد جون إدغر هوفر،

مكتب التحقيقات الفدرالي – واشنطن العاصمة؛

سيدي العزيز،

سيعود تشارلي تشابلن إلى الولايات المتحدة، ذلك السافل الشيوعي، فلتبقوا ذلك الحقير خارج البلاد”.

نعم، على الرغم من كل هذا عاد منتصراً للولايات المتحدة لاستلام الجائزة فقط، بعد عشرين سنة قضاها ممنوعاً من دخول الولايات المتحدة، عاد منتصراً؛ تماماً كما انتصر في كافة مراحل حياته، وغادرها ووقع تصفيق الجماهير ووقوفها لتحيته ما زال أكبر شاهد على انتصاره، غادر وهو يهمس لزوجته الأخيرة أونا أونيل: “فلنعد إلى منزلنا في سويسرا، فقد اكتفيت من هذا المكان”!

تشابلن الذي حقق نجاحاً هائلاً في الولايات المتحدة رفض الحصول على الجنسية الأمريكية وهو شاب صغير، وإذا عدنا إلى الجذور التاريخية لعدائه مع الولايات المتحدة، فسنجد بأن تشارلي الشاب كيّف شخصيته ليسخر من النظام القائم في الولايات المتحدة، فوصف من قبل دوائر الحكم في الولايات المتحدة بالعنيف والفظ والفوضوي والمناهض للبرجوازية، وكأن الصفة الأخيرة عيب مشين!!!

جون إدغر هوفر الذي كان يشغل منصب مراقب الأجانب عندما دخل إلى وزارة العدل في تلك الفترة وهو شاب صغير وضع تشارلي نصب عينيه، وبالأخص عقب ما قام تشارلي بالسخرية من تلك الوظيفة في فيلم المهاجر (The Immigrant).

أخذ هوفر -الذي ترأس دائرته بعد 7 سنوات من تلك الحادثة- على عاتقه مراقبة تشارلي ومحاولة اصطياده، فبدأ البحث عن علاقات تشابلن الشخصية، نظراً لكونه لم يستطع اصطياده في أماكن أخرى كالسُكر أو المخدرات، فقد كان تشارلي مقلاً في شرابه ولم يتعاطى المخدرات أبداً، فحاول اصطياده في مكان آخر؛ النساء.

بدأ اليمين من خلال هوفر بتشويه صورة تشابلن عبر “تهم” كثيرة تلك التي وجهت لتشابلن لسنوات في الولايات المتحدة بهدف إبعاده، العلاقة مع المراهقات، الشخصية غير السوية، … إلخ!

وفي محاولة من تشابلن للرد، قام بصناعة فيلم السيد فيردو (Monsieur Verdoux) في العام 1947، جسّد من خلاله شخصية قاتل يستهدف النساء، للرد على جميع الادعاءات الشخصية التي طالته.

نجا تشابلن من كافة محاولات هوفر الذي صار رئيساً لمكتب التحقيقات الفدرالي، ومع انطلاقة الحرب الباردة والحملات الأمريكية ضد الشيوعية أواخر الأربعينات، ومع قيام السيناتور ماكارثي بالإعلان عن حملة رسمية للقضاء على الشيوعية في الولايات المتحدة، وجد هوفر ما كان يبحث عنه لسنوات.

“إن بقي شيوعي واحد في البلاد، فسنقضي حتماً على ذلك الشيوعي المتبقي” – جوزيف ماكارثي.

سجّلت مكالمات تشابلن وقام مكتب التحقيقات باستجواب معارفه، وأعاد هوفر قراءة فيلم الأزمنة الحديثة، فأثمرت محاولاته أخيراً، ليحاصر في الولايات المتحدة البروتستانتية في العام 1950 بتهمة “انتمائه لأفكار سياسية تخريبية”، فحظرت أفلامه وقيدت حركته!

أقدم تشابلن على إنهاء فيلمه الأخير تحت الأضواء (Limelight) منطوياً على نفسه برفقة زوجته أونا وأولاده في العام 1952، وعندما غادر الولايات المتحدة سراً للترويج لفيلمه في القارة العجوز، أبرق له مكتب التحقيقات الفيدرالي برسالة تفيد بإلغاء تأشيرته لدخول الولايات المتحدة الأمريكية، وفي حال حاول تشارلي الحصول على تأشيرة جديدة؛ فسيكون مطالباً بالخضوع لتحقيق جديد من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي حول كافة التهم التي عمل عليها هوفر لسنوات!

في بريطانيا، واجه تشارلي عدم الترحيب على النطاق الرسمي، بسبب العلاقة الوثيقة التي تربط الولايات المتحدة وبريطانيا، فاتخذ قراراً بالاستقرار في سويسرا، ليموت هناك؛ وحيداً، على الرغم من أنه كان برفقة حبيبته وزوجته أونا وأولاده العشر، تشارلز الابن وسيدني من ليتا، والثمانية الآخرين من أونا.

العزلة والاغتراب!

لم تكن عزلة تشابلن في العام 1952 في سويسرا لتثنيه عن العمل والتفكير، حتى وهو برفقة زوجته الأخيرة أونا أونيل وأطفاله الثمانية، وإلى آخر يوم في حياته حمل ضغينة في قلبه تجاه الولايات المتحدة.

ولكنه البريطاني الذي عاش هناك لفترة، وحورب بشراسة إلى أن غادر عائداً إلى القارة العجوز، فلم يلقَ في بريطانيا وطناً، فكان الاغتراب عنوانه كما كان دوماً، ولكنه؛ وكما فعل مع أعماله التي لم يشعر بالاغتراب حيالها، قهر اغترابه عندما أدرك أهمية الوعي بالاغتراب وأهمية القدرة على تحمّل العزلة، قهره عندما أبقى كلمتين في رأسه “بزوغ الأمل”، وواصل حياته عندما ارتبط بالعالم والآخرين، وانتمى دوماً لفكرة “تشييد المجتمع السوي”!

هكذا قهر تشابلن مشاعر الاغتراب!

وحيداً ومتعباً وقلقاً، هكذا كان تشابلن في معظم فترات حياته!

أعمال تشابلن لم تزل حاضرة حتى اليوم في وجدان عشاق السينما، وحركاته الغريبة وشكله المميز ومشيته الغريبة لا تزال راسخة صعبة التقليد، فإذا حاولت تقليد تشابلن سأرسل لك برسالة أبرق بها تشارلز بوكوفسكي لمن يريد الكتابة من أجل المال أو الشهرة أو النساء تقول: “لا تفعلها”!

لطالما سخر النبلاء من أدوار تشابلن، وبالأخص دور “المتشرد”، مما يؤكد على أن تشابلن ضرب وتراً حساساً لدى الطبقة البرجوازية فيما يتعلق بمفهوم الصراع في المجتمعات بكونه صراعاً طبقياً!

المتشرد كان شخصاً بلا مال أو جاه أو عائلة، فكان عليه أن يناضل دوماً في سبيل الحصول على وجبة طعامه التالية، وذلك بسبب سطوة البرجوازية! المتشرد كان يسعى لإيجاد فتاة يحبها في عالم قاسٍ جداً، عالم يتعرض فيه رجال الشرطة للمتشردين حتى وهم نيام! من منّا ليس تشارلي؟ ومن منّا ليس المتشرد يا تشابلن؟

لقد كان بطلاً عاشقاً للحرية يسير عكس التيّار، فعندما نطق، جسد المعنى الحقيقي للإنسانية، وفي دقائق معدودة.

هو الذي أضحك وأبكى الجميع في ذات المشاهد، وهو الذي جعل الصور المتحركة الفن الأبرز في هذا القرن، لترجح الكفة مجدداً لصالح القديم على حساب الجديد!

هو تشارلي تشابلن إذن، العبقري الذي ما كانت إبداعاته لتولد لولا عوامل البؤس والفقر والعوز والظروف الصعبة، تلك التي حاكاها وحاكى واقعها عبر أفلامه وإبداعاته، كتابة وتمثيلاً وإخراجاً!

موتسارت مات في الثلاثينيات إثر صدمة عاطفية موجهة لفقدان أبيه، وترك خلفه قداس الموتى، قداساً لكل ميت فينا، ولكل من أراد الحياة منا. ناظم حكمت التهمته الدول مشرداً وهارباً، أو ابتلعته السجون في صدف غير سعيدة. رافاييل ألبرتي نجا من الموت أكثر من مرة، وكان حظه استنثنائياً مقارنة ببوشكين ونيرودا وبيتوفي. أما إديث بياف، فلا بد أنها التقت تشابلن، في إحدى الزقاق، ضالة، ولكن من غير مصادفة!

كم أنتِ قريبة يا إديث بياف!