نشيد الخلود

إبراهيم إستنبولي
2005 / 9 / 29 - 11:24     

بمناسبة الذكرى الخامسة و السبعين لرحيل
فوزي المعلوف
1899 - 1930

... و ليس شــفقةً - قليـلاً عـــاش ،
و لــيس مــرارةً – قليـــلاً أعطــى .
كثيراً عاش – مَــن في أيامنا عـاش ،
كلَّ شيء أعطى – مَن أعطى أغنية . *

هذا ينطبق على الشاعر العربي الكبير فوزي المعلوف ، الذي تحل ذكرى رحيله الخامسة و السبعين في هذا العام ؛ و الذي شكّل رحيله خسارة كبيرة بالنسبة للشعر العربي الحديث .
كان الترنم ، ويمكن أن نقول الشعر و بخاصة الغنائي منه ، أول لحن ٍ تردد على شفة الإنسان في غابر العصور ... وقد تخلّف منه في الطريق عبر مسيرة التطور هذه كل غض وغث وركيك ، وتساقطت أوراقه الصفراء هنا وهناك في مهب الرياح .
ولد الشاعر في مدينة زحلة بلبنان .. و يوم ولد تمزقت أكمام البراعم وتفتحت الورود و افترَّ ثغرُ الأقحوان الجميل ، و لبست الطبيعة حلة سندسية خضراء إحتفاء بقدوم هذا الصبي الصغير الذي صار له شأن كبير في عالم الأدب والشعر في مدى عمر قصير...
لقد كان بحق هدية السماء الغالية إلى خميلة الشعر حولتها أصابع القدر إلى هزار يشدو على أفنان الدوح الراقصة على نغم أوتاره المرتعشة ولحنه الكئيب ذي التأثير البعيد ولكن إلى حين كتب فوزي في قصيدته الثانية التي دعاها (شعلة العذاب) والتي لم تكتمل مؤرخاً لنا يوم ميلاده بقوله :

فوق حضن الربيع في مثل هذا اليوم
بعــــد العشــريـن مــن أيـــــاره
نفضت وردة على الأرض عنها
كمها و الدجى صريع احتضاره



كان فوزي يبتسم ولكن عن ألمٍ دفين ، وكان يضحك ولكن عن حرقة مؤلمة ... " خلقت في أيار في حضن الربيع والأرض بما فيها زاهية باسمة ، وأنا فوقها منقبض النفس مقطب الجبين ، وما أمرّ العبوسية في محيط الابتسامات! لذلك أتمنى أن يطرحني الدهر عند موتي في حضن الخريف بين اصفرار الأوراق و ذبول الأزهار و بكاء السماء حينئذٍ قد أبتسم عند عتبة الموت غير آسف على فراق حياة قطعتها في خريف صامت ذاوٍ وتركتها في خريف صامت ذاوٍ .."
و يذكر الذين تتبعوا حياة الشاعر أنه تعلَّم القراءة وهو في الثالثة من العمر وأحسنها وهو في الخامسة. كما شرع يكتب لوالده الشعر وهو في الرابعة عشرة من العمر حيث تعود بداية كتابة الشعر عنده إلى العام 1913 .
و قد كان فوزي واحداً من عشرات البلابل التي نزحت عن أرض الوطن إلى العالم الجديد لتغرد في سمائه بصوت عربي شجي أجمل القوافي وأعذب الألحان ...
و قد علل سبب هجرته لأرض ٍ ولدته فوق أديمها حراً نقي الاهاب بعيداً عن الذل والعبودية بقوله :

أقسماً بأهلي لم أفارق عن رضىً
هلي و هم ذخري ركن عمادي
لكن أنفت أن أعيش بموطني
عبـداً وكنـت بــه مـن الأســــــياد

لم يقتصر الشاعر في انتاجه الأدبي على الشعر وحده . بل شارك في إغناء التراث عن طريق الأعمال الأخرى التي تعتمد على النثر أكثر من الشعر كالخطابة والتمثيل والنقل أو الترجمة .
ففي مجال النثر قام بتعريب رواية ( كنز لف القرطبي ) . وفي سان باولو عاصمة البرازيل أنشأ فوزي المنتدى الأدبي الزحلي وراح يغدق عليه من إنتاجه خطابة و تمثيلاً . ومن رواياته التي مثلت هناك رواية ابن حامد أو سقوط غرناطة ، ونشرت في مجلة العصبة بلبنان . ومن رواياته أيضاً الحمامة في القفص ، وإلى جانبها هنالك روايتان أخريان هما : على ضفاف الكوثر و صفحات غرام .. غير أن جميع هذه الأعمال الأدبية لم يخرج منها إلى الحياة سوى رواية ابن حامد أو سقوط غرناطة وحال القدر دون اتمام البقية .
و أما بالنسبة إلى إنتاجه الشعري فقد ترك فوزي مجموعة من الأشعار متنوعة كان أهمها و أبلغها أثراً في النفوس عملين أدبيين هما : القصيدة الفنية المطولة الأولى والتي اختار لها الشاعر عنواناً هو ( على بساط الريح ) . والقصيدة المطولة الثانية هي التي دعاها فوزي ( شعلة العذاب ) وقد تركها فوزي غير مكتملة تلتهب فيها عواطف الشاعر إلى حد الاحتراق ..
وقد أحب الشاعر الأمريكي اللاتيني فيلاسباسا شعر فوزي و رأى فيه صورة جميلة عن صفاء الروح وقداسة الحب والتسامي وتعاطي القيم الأخلاقية والجمالية، فاهتم به اهتماماً بالغاً، وأراد أن ينقل بعضاً منه إلى الإسبانية ، وكان أهم ما نقله هي تلك المطولة الفنية على بساط الريح . وكتب لها مقدمة طويلة تعد أروع ما كتب عن فوزي وهي للتعريف بشاعر زحلة وقدمها هدية للشعب الإسباني وقد طبعت في البرازيل عام 1930 وجاء فيها :
" في وسط ما يصم الآذان من جعجعة هذا الهذيان الأدبي وما حوى من مساخر كمساخر المدافع ، وتوافه كتوافه الصور المشبحة ، يتصاعد صوت من الشرق رخيم ، يسكت إلى حين تلك الحناجر الثرثارة المعربدة ، حاملاً إلينا بألحانه الشعرية بلاغاً من عالم الشمس ، نفضت عليه الشمس شعاعاً ، هو صوت يتراءى لنا جديداً لفرط إغراقه في القدم . صوت متوحد ، متعدد ، متصابٍ روحاني ، مشع ، منعكس ، تتلاءم فيه المتناقضات بأعجوبة خارقة ورشاقة شعرية رائعة وتلاحم إلهي بليغ " .
حقق القدر للشاعر ما كان قد تمناه على الدهر بأن يطرحه في حضن الخريف عند موته بين اصفرار الأوراق وذبول الأزهار وبكاء السماء . فلقد انقطع الهزار الباكي عن التغريد فجر السابع من كانون الثاني عام 1930 تاركاً نغمة الغناء تتلاشى وتذوب على شفة الوتر الحزين ... وهكذا اختنق اللحن الشارد حين لفت يد القدر حبال الصمت حول عنق ربابةٍ كان فوزي قد علقها على غصن صفصافةٍ لتعزف سجع الحمام وتغريد الطيور، وحرمت خميلة الشعر من أشجى و أعذب ألحان بلابلها المغردة على أغصانها الملتوية وأشجارها الآخذة في السمو نحو السماء .. مما دفع بعميد الأدب العربي طه حسين لأن يكتب - بعد سماعه خبر وفاة فوزي المعلوف - في جريدة الوادي المصرية في عام 1933 " .. مرَّ فوزي على الحياة سريعاً لكنه ترك في النفوس صدى حلواً لاذعاً محرقاً معا و لا أعرف شاعراً تأثرت به كما تأثرت بهذا الشاعر ... "
وفي مساء الثاني عشر من أيلول من عام 1937 أزيح الستار عن وجه التمثال في حديقة عامة للمجلس البلدي بزحلة أمام حشدٍ غفير من الخاشعين إجلالاً لذكرى هذا الشاب الذي غيبته الأقدار في التراب وهو لا يزال في أوج شبابه ..
ولقد شهد حفل إزاحة الستار رعيل لجب من المثقفين من أدباء سورية ولبنان جاؤوا جميعاً للاحتفاء بذكرى فقيد الشعر ، وكان ممن شهدوا الحفل الشيخ ابراهيم المنذر ونجيب اليان والياس أبو شبكة وخليل تقي الدين والدكتور نجيب فرح وشكري نجاش وعبد الله حلاق وشبل وحليم دموس وجمع غفير . وقد تقدم وزير داخلية لبنان آنذاك حبيب أبو شهلا فقلده وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب الأول ، ثم تكلم عدد من نخبة رجال الفكر والأدب .
واختتم الحفل بكلمة باكية مؤثرة للشاعر الباكي شفيق شقيق فوزي جاء فيها :

فوزي ومالي في الخطوب يدان
ما هكذا الأخوان يلتقيان

ثم يتابع الشاعر في ذكر أخيه نثراً فيقول :
أيها البردوني لقد عاد إليك الشاعر الفياض بروحه ، قف تهيباً لرمز الخلود أنت الآن في أمان بين صنين وحرمون و التمثال ، ثلاثة جبابرة من جبابرة الجماد الناطقة بالكرامة والسؤدد والحسن والجمال .
قد تثور البراكين وتهتز الجبال وتمسي دخاناً ولكن التمثال خالد على الزمان قد تنكسف الشمس ، وينخسف القمر ، ولكن روح الشاعر تنير الأجيال .
مات سليمان ولكن أناشيده ترددها هياكل الدنيا .
مات داوود ، ولكن قيثارة داوود حية في قلب العالم

__________________________________
تنويه : هذه المادة من كتاب عن الشاعر قيد الإنجاز ...
* هذه الكلمات للشاعرة الروسية الرائعة مارينا تسفيتاييفا ؛ و قد قالتها بمناسبة رحيل شاعر روسي آخر لا يقل روعة – إنه سيرغي يسينين . ترجمة إ . إستنبولي