الجبهة الشعبيّة وإشكاليّة توحيد المعارضة التونسيّة


مصطفى القلعي
2015 / 5 / 5 - 09:19     


• منطلقات لابدّ منها:
توحيد المعارضة التونسيّة وتوحيد اليسار التونسي أراها إشكاليّة لا مسألة، فالإشكاليّة أعقد من المسألة وأكثر تشعّبا. وهي إشكاليّة مطروحة بإلحاح على العقل اليساري التونسي. ولابدّ قبل الخوض في هذه الإشكاليّة من بسط جملة من المنطلقات الأساسيّة لطرح موضوع بهذا الحجم.
من هذه المنطلقات الأساسيّة أنّ الجبهة الشعبيّة هي القوّة الرئيسيّة المركزيّة في المعارضة التونسيّة البرلمانيّة منها وغير البرلمانيّة. قلنا الجبهة هي القوّة الرئيسيّة لأنّها الأكثر تنظّما والأشدّ تماسكا وتضامنا والأقوى تمثيلا والأوضح صورة والأنضج من حيث الممارسة السياسيّة. كما أنّ الجبهة الشعبيّة هي الممثّل الرسمي للمعارضة في البرلمان وعند الحكومة ورئاسة الجمهوريّة. وفي الخارج تعدّ الجبهة الشعبيّة عنوان القيادة المركزيّة لليسار التونسي.
اليسار التونسي الذي يصطفّ اليوم أغلبه في المعارضة تنادي أصوات كثيرة منه بضرورة الوحدة والعمل على جمع القوى الوسطيّة حوله لاسيما من يسار الوسط ليقود المعارضة على قاعدة التقاطعات الدنيا المتوفّرة بينها. والحقيقة أنّ هذه الرغبة لم تصدر فقط عن النخب اليساريّة بل تردّدت حتى على ألسنة قادة سياسيّين خاصّة من داخل الجبهة الشعبيّة. ولابدّ من التنويه إلى أنّ موضوع توحيد المعارضة اليساريّة والوسطيّة تطرحه الجبهة الشعبيّة على نفسها ولكنّ بقيّة الأطراف المعنيّة بهذا الموضوع لا يبدو أنّها مشغولة به أصلا. الجبهويّون يثيرون هذه الإشكاليّة بحكم وعيهم التاريخي وبحكم تمرّسهم بالعمل الوحدوي في حضن الجبهة الشعبيّة وبحكم حجمهم وموقعهم في الساحة السياسيّة الوطنيّة اليوم.
إنّ هذه الأصوات المنادية بوحدة اليسار والقوى الوسطيّة التونسيّة في جسم سياسي معارض واحد تبني نداءها على قراءة موضوعيّة للمشهد السياسي التونسي الذي تشكّل بعد انتخابات موفّى 2014 الفارطة. فلقد أفرزت هذه الانتخابات مشهدا ثبتت معالمه الآن بعد أن كانت حدسا وهجسا منذ لقاء باريس بين السبسي والغنوشي في أوت 2013 أثناء اعتصام الرحيل.
لقد انتهت الساحة السياسيّة إلى ما يشبه الثبات في تقاسم المواقع بين حكم ومعارضة. الحكم يتشارك فيه الحزبان اللذان لهما الأغلبيّة الساحقة في مجلس نوّاب الشعب النداء والنهضة بمعاضدة حزبي آفاق والاتحاد الحر. بينما المعارضة تنقسم إلى أقسام ثلاثة فيما اليسار التونسي متعدّد في غير تآلف ولا انسجام.
• خجل اليسار التونسي أمام استحقاق الحكم بعد 14 جانفي 2011:
حالة اليسار التونسي وطبيعته حلّلتها في أكثر من مقام. وهي تزداد وضوحا يوما بعد آخر ولا تحتاج إلى غير قلم يخطّها. فلقد كانت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي حاسمة في تنبيه اليسار إلى غفلته المنهجيّة المتمثّلة في العجز عن تحديد الأولويّات وترتيبها طبقا لأجندا سياسيّة واضحة. للأسف ظلّ اليسار التونسي طيلة الفترة المسمّاة انتقاليّة الفاصلة بين بين 14 جانفي و23 أكتوبر 2011 غارقا في النقاشات النظريّة حول طبيعة المرحلة وطبيعة الثورة وشكل التعاطي مع القوى الخارجيّة. فلقد تميّز هذا التعاطي بالمبدئيّة لا بالمناورة مع قوى لا تعرف المبدئيّة ولا تؤمن فعلا بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، بل تحرّكها المصالح وحدها.
ولابدّ من الإقرار بأنّ اليسار التونسي كان فاقدا للجرأة فيما يتّصل بالحكم في انتخابات 2011. ولم تتغيّر هذه السمة إلاّ بعد تشكّل الجبهة الشعبيّة مطلع أكتوبر 2012 أي سنة بعد الانتخابات التأسيسيّة التي فاز بها الإسلاميّون. ولا يمكن أن ننسى في هذا الإطار صرختيْ الشهيدين شكري بلعيد « ارفعوا رؤوسكم، إنّكم في حضرة الجبهة الشعبيّة » ومحمد براهمي « الجبهة مشروع حكم وليست جبهة احتجاج »، تلكما الصرختين اللتين غيّرتا رؤية اليساريّين لمسألة الحكم ولموقع اليسار الحقيقي في تونس. فلئن كان شكري من مؤسّسي الجبهة ومن أعمدتها وقادتها الواعين بشرطها التاريخي في التوحّد، فإنّ الحاج براهمي من حاضنيها الذين دفعهم وعيهم التاريخي إلى تمييز خيط الوحدة الهادي إلى المستقبل في حضن الجبهة الشعبيّة فأمسك به.
لقد دلّت الممارسة السياسيّة لليسار على تردّد في التعبير عن الرغبة في الحكم وخجل في إعلان القدرة على إدارته إبّان الثورة. لقد كانت نبرة الشكّ عالية بين اليساريّين رغم أنّهم كانوا أوْلى من غيرهم بالسلطة إبّان الثورة فالإسلاميّون، نهضويّين ومؤتمريّين، عادوا إلى تونس متأخّرين من منافيهم الاختياريّة. ولكنّهم سرعان ما تداركوا تأخّرهم بفضل تدفّق المال السياسي الخليجي عليهم أساسا.
تردّدُ اليسار وخجله فيما يتّصل بالحكم بعد 14 جانفي رافقه حرصٌ من الإسلاميّين على الفوز به بتحفيز من الرجعيّة العربيّة ومن الرأسماليّة الغربيّة التي كانت جميعها تخشى من ثورة شعبيّة يتسلّم اليسار الحامل لشعار العدالة الاجتماعيّة قيادتها بما قد يربك حسابات السيطرة الغربيّة والعمالة الرجعيّة. كما أنّ تسلّم اليسار التونسي لقيادة الثورة الشعبيّة التونسيّة قد يلهم شعوبا أخرى على ضفّتي المتوسّط وربّما أبعد. لهذا تحرّكت مخابرات الغرب الامبريالي ومخابرات الرجعيّة النفطيّة بمساندة كاملة من الإسلاميّين ومن بعض الحقوقيّين المتلهّفين على الحكم مثل منصف المرزوقي وبرهان غليون من أجل تحويل وجهة هذه الثورات الشعبيّة المتلهّفة إلى الحريّة والكرامة. وكانت أيضا فرصة للغرب لتجريب الإيديولوجيا الإخوانيّة ولتوظيف الاحتياطي الوهّابي الحنبلي في الأوطان العصيّة.
وأنا أرجع جملة مشاكل اليسار التونسي تجاه الحكم ومواقفه المرحليّة بعد الثورة وقبل الانتخابات التأسيسيّة وبُعيْدها إلى نوع من التيه عرفه من مسألتيْ الثوريّة والديمقراطيّة. لقد كان اليسار التونسي موزّعا بين المدرستين اليساريّتين اللينينيّة والفرنسيّة. فاليسار اللينيني بمختلف تفرّعاته يسار ثوري ولكنّه سياسي أيضا يحذق قراءة التوازنات والتموقع بينها. أمّا اليسار الفرنسي فيسار نخبوي، أوّلا، وديمقراطي، ثانيا، يؤمن بالتغيير المدني عبر الممارسة الانتخابيّة والفعل الثقافي.
يعود تيه اليسار التونسي بين المسألتين الثوريّة والديمقراطيّة إلى الفترة التي تلت 14 جانفي 2011. فالاختلاف في المواقف والتقييمات بدأ من لحظة تحويل هيئة 14 جانفي لتحقيق أهداف الثورة إلى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي صارت تعرف اختزالا بهيئة بن عاشور، ولم يحسم هذا الخلاف حتى موعد الانتخابات التأسيسيّة في 23 أكتوبر 2011 التي رفضت تشكيلات يساريّة المشاركة فيها، أمّا الأطراف اليساريّة التي شاركت فيها فدخلتها منفصلة بل متنافسة.
ذلك يعني أنّ الخلاف في التعاطي مع الأحداث بعد الثورة أنتج فشلا في إنتاج موقف موحّد منها انتهى إلى الفشل في التوحّد الانتخابي ولو في مستوى تشكيل قائمات انتخابيّة موحّدة. هذه العمليّة كانت نتائجها الانتخابيّة والسياسيّة هزيلة على اليساريّين بحصولهم على 9 مقاعد من جملة 217 في انتخابات المجلس التأسيسي 2011. فلم تحقّق قائمات البديل الثوري (حزب العمّال الشيوعي التونسي) إلاّ 3 مقاعد من وحركة الوطنيّين الديمقراطيّين مقعدا واحدا. بينما كانت النتيجة الأفضل قد حقّقتها قائمات القطب الديمقراطي الحداثي (المسار الديمقراطي الاجتماعي فيما بعد) التي حصّلت 5 مقاعد برلمانيّة تضاعفت إلى 10 بعد ذلك إثر التحاق نوّاب آخرين مستقيلين من حزب التكتّل ومستقلّين.
لكن لابدّ من التدقيق بأنّ اليسار التونسي نجح إلى حدّ كبير في أن يبقى وفيّا لإيديولوجيّته الاشتراكيّة ولمراجعه الاجتماعيّة، فلم يكن يوما بعيدا عن حراك الجماهير. المشكلة أنّ هذا الحراك كان هو أيضا نخبويّا لا شعبيّا في الغالب بمعنى أنّ من خاضه كان هو الشباب المعطّل عن العمل والشباب التقدّمي. بينما التحرّكات العمّالية والاحتجاجات والاجتماعيّة الشعبيّة لم يتمكّن اليسار من احتوائها وتأطيرها وكسبها انتخابيّا بدليل أنّ القوّة الانتخابيّة الضاربة للدويكا الليبراليّة الرجعيّة الحاكمة (L’électorat) تأتّت من الطبقات الشعبيّة أساسا لا من البورجوازيّة تحت مفعول التصويت المفيد (Le vote utile).
• اليسار التونسي اليوم:
اليسار التونسي بعد انتخابات 2014 وبعد تشكّل حكومة الدويكا يسار متفرّق وغير مجتمع. فلئن نجحت بعض مكوّناته في التفطّن إلى متاهة الخلافات النظريّة وإلى ضرورة تركيز جهودها على البرامج والأهداف، فإنّ أطرافا كثيرة منه لم تر للتقارب والتوحّد من فائدة، فآثرت الحفر عميقا في خطاب التفرقة ومنهج الهروب إلى الفضاء الإيديولوجي المتوّه. طبعا نحن لا ندين الإيديولوجيا بل ندين حملتها غواة طواحين الهواء!
اليسار التونسي اليوم أنواع خمسة:
1. أحزاب يساريّة وقوميّة مجتمعة متحالفة داخل ائتلاف الجبهة الشعبيّة (حزب العمّال والوطد الموحّد ورابطة اليسار العمّالي والتيّار الشعبي والطليعة والبعث …إلخ) وتعدّ القضيّة الوحدويّة مسألة جوهريّة اجتمع حولها اليساريّون العمّاليون واليساريّون الوطنيّون الديمقراطيّون واليساريّون الأمميّون واليساريّون الشعبيّون مع اليساريّين القوميّين الطليعيّين والناصريّين والبعثيّين في الجبهة الشعبيّة.
2. أحزاب يساريّة تنشط ضمن الاتّحاد من أجل تونس (المسار والعوَد). وهي أحزاب تمارس نوعا من الأناة حتى لا أقول الانتهازيّة لأنّ مراجعاتها النظريّة والسياسيّة قبل انتخابات 2014 وبعدها جعلتها تتمترس في موقع قريب من عن حركة نداء تونس مدافع عنها وعن خياراتها رغم الاختلافات النظريّة ورغم الانتهازيّة الانتخابيّة التي مارستها حركة نداء تونس في تشريعيّة 2014. ومع النتائج الكارثيّة في الانتخابات الأخيرة، فإنّ المسار والعوَد ظلاّ في موقعيهما في انتظار ما سيحدث في نداء تونس من انفجار (!!) قد يقلب المعادلة وقد يجعل للمسار، مثلا، كتلة نيابيّة في مجلس نوّاب الشعب كما حصل مع النداء في التأسيسي! فالمسار مازال يهمس بأنّ قوّته الانتخابيّة افتكّها النداء أو بلغة ألطف تحوّلت إليه، ولا يبدو أنّه سييأس من انتظار عودتها.
3. تشكيلات تصف نفسها بالثوريّة تشترك في رفض المسار السياسي بعد 14 جانفي وتعلن استئناف المسار الثوري (النضال التقدّمي وحزب الكادحين). للإشارة فقط، فإنّ كلا الحزبين يتشكّلان من البورجوازيّة الصغيرة المتكوّنة من الموظّفين وأساسا من المدرّسين الغارقين في الديون البنكيّة، والقليل النادر منهم قضّى الجنديّة ويتقن استعمال السلاح. فمن أين تتأتّى ثوريّته!؟ لا أدري.
4. تشكيلات انضمّت إلى ائتلافات وغادرتها، وهي اليوم نوعان؛ منها الرافض للانضباط الهيكلي وللعمل السياسي المنظّم (الوطد الثوري غادر الجبهة الشعبيّة) والذي مازال يبحث عن ذاته (الحزب الاشتراكي اليساري غادر الاتحاد من أجل تونس). الوطد الثوري لم يكن محايدا أثناء الانتخابات الأخيرة فكثير من منتسبيه ساندوا مترشّحين بعينهم لاسيما المستقلّين. وبعضهم خاضوا حملة انتخابيّة متطوّعين لفائدة قوائم بعينها ومترشّحين بعينهم. أمّا الحزب الاشتراكي اليساري فإنّه خاض التشريعيّة بقائماته وفي الرئاسيّة ساند حمّه الهمّامي مرشّح الجبهة الشعبيّة.
5. ذوات وأفراد يساريّون هامشيّون (Des Marginaux) يرفضون الانتماء السياسي والانخراط الفاعل في أيّ هيكل سياسي منظّم. بعضهم ظلّ متأرجحا بين الجبهة الشعبيّة وبين غيرها، وبعضهم الآخر شنّ حملة ضدّ الجبهة الشعبيّة أساسا وحاولوا العمل على شنّ حملة لمقاطعة الانتخابات. والأسباب يبدو أنّها ذاتيّة نفسيّة أكثر منها موضوعيّة إيديولوجيّة أو فكريّة أو سياسيّة.
ولابدّ من التذكير بأنّ الجبهة الشعبيّة وحدها من بين بقيّة تشكيلات اليسار التونسي هي اليوم ممثّلةٌ في مجلس نوّاب الشعب بكتلة نيابيّة تحمل اسمها تتكوّن من 15 نائبا. بينما بقيّة تشكيلات اليسار التونسي غير ممثّلة في البرلمان، بعضها شارك في الانتخابات (المسار والعوَد واليساري) ولم يفز بأيّ مقعد، وبعضها لم يشارك لا في انتخابات 2011 ولا في انتخابات 2014 (الوطد الثوري والنضال التقدّمي وحزب الكادحين).
ولابدّ من نقد الممارسة الانتخابيّة لليسار التونسي.
• أقسام المعارضة التونسيّة:
1. القسم الأوّل: معارضة ممثّلة في البرلمان ولها كتلة برلمانيّة وتحمل مشروعا مختلفا عن أحزاب الحكم وعن أحزاب أخرى في المعارضة، نعني الجبهة الشعبيّة.
2. القسم الثاني: معارضة/ مساندة ممثّلة في البرلمان ولكنّها تحتفظ بخيوط تقارب مع أطراف في الحكم: المؤتمر (قريب من النهضة مهما ابتعد)/ التيّار الديمقراطي (قريب من النهضة)/ حركة الشعب (قريبة من النهضة)/ المبادرة الدستوريّة (قريبة من نداء تونس)/ العريضة الشعبيّة (قريبة من النهضة ومن النداء).
3. القسم الثالث: معارضة/ مساندة حزبيّة غير ممثّلة في البرلمان يافطةُ بعضها يساريّة ولكنّه قريبة من نداء تونس (المسار الديمقراطي الاجتماعي والعمل الوطني الديمقراطي)، وبعضها يافطتُه ديمقراطيّة ولكنّه قريب من النهضة (البناء الديمقراطي).

• قوى الوسط:
الكثير من الرفاق والأصدقاء واظبوا على الدعوة إلى توحيد اليسار مع القوى الوسطيّة لتشكيل جبهة معارضة قويّة. طيّب، هذا مقبول ولكنّ المشكلة في تحديد طبيعة هذه القوى الوسطيّة. فلا يمكن أن تكون هذه الأطاريح الوحدويّة مبنيّة على الهوى ولا على الرغبة الإخوانيّة ولا على التشفّي من نتيجة الانتخابات ولا على الحلم الوردي بالتصدّي لهيمنة الدويكا الحاكمة. ما هي هذه القوى الوسطيّة؟ ما الجامع بينها وبين الجبهة الشعبيّة، من جهة، وبينها وبين القوى اليساريّة، من جهة أخرى؟
توجد ثمانية أحزاب تبحث عن التوحّد في جبهة وسطيّة تسمّي نفسها ديمقراطيّة اجتماعيّة هي المؤتمر من أجل الجمهوريّة (4 نوّاب) والتكتّل من أجل العمل والحريّات والحزب الجمهوري (نائب واحد) والتحالف الديمقراطي (نائب واحد) وحركة الشعب (3 نوّاب) وحركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين (نائب واحد) والبناء الديمقراطي والتيّار الديمقراطي (3 نوّاب). ويُلاحَظ أنّ المسار خارج هذه الدائرة الوسطيّة للمعارضة لسببين؛ الأوّل أنّه مُعَدّ من قبلها من المتطرّفين على الضفّة الأخرى لاسيما في مسألة اللائكيّة والحريّات الفرديّة، والثاني أنّه يعدّ من الاحتياطي المساند لحزب نداء تونس الحاكم.
هناك جملة من الآليّات التي يمكن لنا من خلالها أن نعرف طبيعة هذه الأطراف التي تصف نفسها بكونها وسطيّة.

• آليّة الترويكا ومعارضتها:
هذه القوى التي تسمّي نفسها وسطيّة تحتاج منّا إلى تدقيق؛ فبعضها كان في حكم الترويكا (المؤتمر والتكتّل والتيّار الديمقراطي والبناء الديمقراطي)، وبعضها كان يقود المعارضة البرلمانيّة (التحالف الديمقراطي والجمهوري)، وبعضها الآخر كان في المعارضة (حركة الديموقراطيّين الاشتراكيّين)، وبعضها الأخير كان خارج الحكم وخارج المعارضة (حركة الشعب).
في عهد الترويكا، عرفت تونس الجريمة السياسيّة لأوّل مرّة في تاريخها الحديث إذا ما تجاوزنا حادثة اغتيال صالح بن يوسف باعتبار اختلاف السياقات والمناخات والدوافع وأدوات التنفيذ. فقوّتان من قوى المعارضة الوسطيّة اليوم كانت طرفا في هذه الجرائم التي أدوت بحياة نشطاء سياسيّين مدنيّين من لطفي نقّض إلى شكري بلعيد محمد براهمي ومحمد بلمفتي ومجدي العجلاني. كما أنّ أرواح الأمنيّين والعسكريّين التي سقطت ومازالت تسقط إلى اليوم برصاص الإرهاب التكفيري وألغامه وخناجره ديّتها عند مثلّث الترويكا ولا ريب.
الجريمة الكبرى الثانية التي اقترفتها الترويكا بضلعيها اللذين يدّعيان التمركز في المعارضة الوسطيّة اليوم هي جريمة الالتفاف على مطالب الثورة في التنمية والتشغيل والكرامة، حيث لا يمكن أن ننسى هروب منصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر من إحياء الذكرى الثانية والثالثة لـ 17 ديسمبر في سيدي بوزيد. ولا يمكن أن ننسى الوعود التي قطعها منصف المرزوقي لأهل سليانة وأهل قابس وأهل جندوبة وأخلفها جميعا.
الآن؛ أين يمكن أن تلتقي الجبهة الشعبيّة مع التكتّل والمؤتمر ضلعي الترويكا اللذين يحاولان قيادة المعارضة الوسطيّة؟ لا أدري ما الذي يجمع الجمهوري وحركة الشعب والتحالف الديمقراطي بهما غير الميوعة الإيديولوجيّة أمّا الجبهة الشعبيّة فلا تجد ما يجمعها بالتكتّل والمؤتمر لاسيما بعد الانسحاق الانتخابي الكلّي للتكتّل والجمهوري والتحالف والجزئي للمؤتمر!
• آليّة الإرهاب:
يمكن أن نتّخذ من مشكلة الإرهاب آليّة من الآليّات الممكنة لتحديد هذه المعارضة الوسطيّة. فمشكلة الإرهاب لا يمكن النظر إليها خارج مسألة الترويكا التي كانت أطراف في المعارضة الوسطيّة اليوم طرفا فيها بالأمس. فلئن كان المرجع القطري التركي، وهو الرصيد الخلفي للإرهاب الإخواني الحنبلي الوهابي اليوم، واضحا في خلفيّة حزب المؤتمر الضلع الثاني للترويكا، فإنّ حزب التكتّل الضلع الثالث للترويكا كان قريبا جدّا من فرنسا التي كانت الذراع العسكريّة لقطر في ليبيا وسوريا.
هذا يعني أنّ حزبيْ المؤتمر والتكتّل لم يكونا بعيدين عن تكتيك زرع الخلايا التكفيريّة الإرهابيّة في تونس بعد أن تولّت السلفيّة المشهديّة (عبر المظهر واللباس والجمعيّات القرآنيّة والجمعيّات الخيريّة) التمهيد لهذا الحدث في حكومتيْ الترويكا. لم يكن حزبا المؤتمر والتكتّل بروازا فقط في تلكما الحكومتين بل كانا شريكين في هذه المؤامرة الإرهابيّة على الشعب التونسي. المهمّ أنّ الجبهة الشعبيّة كانت من أكبر ضحايا هذا الإرهاب بينما كان حزبا المؤتمر والتكتّل من أدواته التنفيذيّة.
الإرهاب التكفيري وإن كان مُدَوْزَنًا في تونس بمعنى أنّه لم يكن يراد له أن يصل إلى الحكم ولا إلى تغيير نمط المجتمع التونسي على ما يبدو، فإنّ الإرادة في تسهيل غرسه كانت كبيرة لأسباب كثيرة منها إغراق المجتمع التونسي في فوبيا الإرهاب لتأجيل طموح الشعب التونسي في التقدّم والتنمية. ومنها أيضا التنفيس على أعوان الناتو في ليبيا. ومنها كذلك زرع شوكة في الخاصرة الشرقيّة للجزائر للضغط والمساومة.
• آليّة البرامج:
للجبهة الشعبيّة برنامج اقتصادي واجتماعي كامل قدّمته للرأي العام وخاضت به انتخابات 2014. وتعدّ مسألة المديونيّة مسألة مركزيّة في برنامج الجبهة. فالجبهة قدّمت تصوّرا يقضي بإجراء فحص لهذه الديون (Audite) لتحديد الكريهة منها. الصديق الباحث الاقتصادي في جامعة غرونوبل بفرنسا عز الدين بن حميدة أجرى دراسة عن الديون الكريهة (Les dettes odieuses) وتحصّل على نتائج منصفة لرأي الجبهة الشعبيّة حيث قال إنّ حجم هذه الديون يتراوح بين 9 آلاف و10 آلاف مليار أي ما يساوي ¼ قيمة الديون التونسيّة تقريبا.
تصوّر الجبهة نحو الديون على وجاهته ترفض أغلب الأطراف الوسطيّة وحتى اليساريّة مناقشته. بل إنّ حزب المسار يعتبره طفوليّة! وهو الموقف نفسه الذي عبّر عنه نداء تونس بعيْد الانتخابات لمّا كان بعض قادته يغازلون الجبهة الشعبيّة للمشاركة في الحكم وهم غافلون طبعا عن اتّفاقات السبسي مع الغنوشي في باريس في أوت 2013.

• تقييم:
المسار والتكتّل لهما تقريبا نفس المراجعة الإيديولوجيّة ويحملان نفس المقاربة الاجتماعيّة، الفرق أنّ التكتّل محافظ أكثر من المسار في هذه النقطة. بينما يشترك كلاهما في إهمال المسألة الاقتصاديّة. فليس لهما برنامج اقتصادي بديل وإنّما لا يختلف طرحهما هنا عن الطرح الليبرالي القائم على المديونيّة وتحفيز رأس المال الأجنبي بالتيسيرات الجبائيّة والإداريّة والعقّارية. وهما هنا لا يختلفان عن طرح الدويكا الحاكمة. والتكتّل لمّا كان شريكا في حكم الترويكا لم يعمل على التأثير في المسألة الاقتصاديّة تجاه إنتاج الثروة ومراجعة الديون. ولم يسع إلى حلّ مشكلة الحوض المنجمي. ولا يجب أن ننسى أنّ وزيرين للماليّة في حكومتيْ الترويكا من ثلاثة كانا من التكتّل (حسين الديماسي وإلياس فخفاخ). أمّا المسار فقد انحصر نضاله تقريبا لمّا كان في التأسيسي في مسألة الحريّات.
الخلاف الرئيسي بين التكتّل والمسار هو في التحالفات التي أجرياها. فالتكتّل تحالف مع حركة النهضة في الترويكا وابتعد عنها قليلا أو بالأصحّ هي التي تركته بعد أن تشظّى انتخابيّا. بينما المسار اختار الانضواء تحت نداء تونس قبل الانتخابات. وعمل جاهدا على المحافظة على النداء داخل تحالف النداء من أجل تونس وكان أوّل حزب يعلن مساندته لترشيح السبسي للرئاسيّة قبل أن يعلن السبسي نفسه عن ترشّحه! ومازال المسار مصرّا على خياره الندائيّ رغم كلّ شيء. ولم يعبّر عن أيّ نيّة للاقتراب من الجبهة الشعبيّة. وإن كان التكتّل يناقش مع الأحزاب الوسطيّة التي تحدّثنا عنها أعلاه لمحاولة تشكيل جبهة ديمقراطيّة اجتماعيّة فإنّ المسار قريب من دوائر الحكم بل إنّه يعتبر نفسه مشاركا فيه ضمنيّا إذا نظرنا في الانتماء السياسي والإيديولوجي لوزير الدفاع ووزيرة الثقافة وشخصيّات أخرى في مراكز القرار سواء في الحكومة أوفي الرئاسة.
ماذا بقي أمام الجبهة الشعبيّة من اليسار لتتوحّد معه؟ النضال التقدّمي (محمد الأسود) الذي كان في الجبهة الشعبيّة وغادرها احتجاجا على تشكيل جبهة الإنقاذ في جوان 2013 عقب ندوة سوسة الوطنيّة. واتّجه اليوم إلى إعلان تأسيس « الجبهة الثوريّة » مع الجبهة الشعبيّة الثوريّة (عمر الماجري)، التي كانت من مكوّنات الجبهة الشعبيّة أيضا، وحزب الكادحين (فريد العليبي). بيان تأسيس هذه الجبهة لا يتحدّث عن برامج اقتصاديّة واجتماعيّة يمكن التقاطع معها. وإنّما يتحدّث عمّا يسمّيه استئناف المسار الثوري.
أمّا الوطد الثوري فلم يكشف عن توجّهه الجديد وما إذا كان سيحافظ على نفسه خارج الائتلافات أم سينضمّ إلى الجبهة الثوريّة الجديدة التي لاشكّ في أنّه شارك في النقاشات حولها. المهمّ أنّه بعيد عن الجبهة الشعبيّة.
حركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين كانت من مؤسّسي الجبهة الشعبيّة. وأمينها العام أحمد الخصخوصي نجح في تحصيل مقعد في مجلس نوّاب الشعب عن دائرة سيدي بوزيد، وقد ترشّح منافسا لقائمة الجبهة التي ترأّستها مباركة براهمي. والخصخوصي اليوم قريب من الجبهة الديمقراطيّة الاجتماعيّة التي يشارك فيها التكتّل (يساري) وحركة الشعب (ناصري) والمؤتمر (إخواني قطري) والبناء الديمقراطي (إخواني نهضوي) والتيّار الديمقراطي (إخواني مؤتمري) والجمهوري والتحالف الديمقراطي (قريب من النهضة). الجامع الوحيد بين هذه الأطراف هو فقط تمثيليّتها الضعيفة في مجلس نوّاب الشعب عدا البناء الديمقراطي غير الممثّل فيه. فهي جبهة معارضة برلمانيّة فقط ولا تمثّل بديل حكم ولا قوّة اقتراح برامجيّة.

• خلاصة:
هذه القراءة الأفقيّة التي أجريتها لمشهد المعارضة التونسيّة تفيدنا باستخلاص جملة من النقاط في علاقة بالردّ على مطالبة الجبهة الشعبيّة بتوحيد المعارضة.
– المعارضة اليساريّة بعيدة عن الجبهة الشعبيّة وإعلانها استئناف المسار الثوري يعني فيما يعنيه إلغاء منجزات اليسار التونسي بما فيه تشكيل الجبهة الشعبيّة وكتابة الدستور الجديد.
– المعارضة الوسطيّة تحمل بذور اندثارها في ذاتها باعتبار تشكّلها الانتهازي دون أيّ نقطة التقاء لا إيديولوجيّة ولا برامجيّة. وهي بعيدة عن الجبهة الشعبيّة وبعضها قريب من أحد طرفي الدويكا الحاكمة، وبعضها الآخر يبحث عن تموقع بعد الفشل الانتخابي. وتبقى معارضة بورجوازيّة لا صدى لها في الواقع ولا تأثير لها في المجتمع.
– الجبهة الثوريّة الوليدة والجبهة الاجتماعيّة الديمقراطيّة المزمع إنشاؤها كلتاهما تأسّست على النقيض من الجبهة الشعبيّة أقصد لمعارضتها لا لمعارضة السلطة القائمة، مع اختلاف المنطلقات والدوافع.
– لا توجد أيّ رغبة عند هذه الأطراف اليساريّة الراديكاليّة في الجبهة الثوريّة أو خارجها ولا عند مكوّنات المعارضة الموسومة بالوسطيّة للتنسيق مع الجبهة الشعبيّة أو الاقتراب منها. فلابدّ من قراءة الواقع كما هو والكفّ عن الأوهام.

• مقترحات إلى الجبهة الشعبيّة بمناسبة الندوة المقبلة:
– على الجبهة الشعبيّة أن تحافظ على وحدة مكوّناتها الحاليّة وأن تدعم هذه الوحدة في ظلّ غياب مؤشّرات واضحة لإمكانيّة توحيد المعارضة اليساريّة أو الوسطيّة.
– على قيادات الأحزاب المتآلفة ضمن الجبهة الشعبيّة أن تعمل على تصفية المناخ بينها وأن تحرص على بذل كلّ الجهود من أجل تركيز علاقة ثقة كاملة بينها.
– على أحزاب الجبهة أن تقرّ علنا بأهميّة المستقلّين وبقيمتهم النضاليّة العالية وأن تضمن تمثيلهم في كافّة مؤسّسات الجبهة.
– على مستقلّي الجبهة أن يجدوا لأنفسهم صيغة تنظيميّة تتيح لهم الحدّ الكافي من التنسيق محلّيا وجهويّا ووطنيّا.
– على الجبهة الشعبيّة أن تطوّر أرضيّتها وأن تعمّق أطروحاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
– على الجبهة الشعبيّة أن تتدارك النقص الفادح في العلاقات العربيّة حتى لا تترك الساحة العربيّة ملعبا خصيبا للنداء والنهضة والمؤتمر.
– على الجبهة الشعبيّة أن تكون جريئة في وضع اللبنات الأولى لمأسستها وهيكلتها.
– على الجبهة الشعبيّة أن تفتح النقاش الجدّي المسؤول في مسألة التمويل.
– على الجبهة الشعبيّة أن تفكّر في بعث عاجل للجنة تعنى بالتفكير الاستراتيجي والعلاقات الخارجيّة.
– على أحزاب الجبهة الشعبيّة أن تشرع في وضع استراتيجيا مستقبليّة مربوطة بسقف زمني محدّد للذوبان النهائي في حزب الجبهة الشعبيّة، وعليها أن تعلن عن ذلك.
– الندوة المقبلة لابدّ أن تخرج بالإعلان عن موعد المؤتمر التأسيسي لائتلاف الجبهة الشعبيّة.