اليسار والجماهير والثورة


خليل كلفت
2016 / 12 / 21 - 21:26     

كانت ثورة يناير 2011 الشعبية المجيدة حدثا كبيرا قدَّم ويقدِّم أساسا لمحاولة تقييم القوى السياسية الفاعلة فى مصر (والعالم العربى)، ودور اليسار فى الثورة وتطوراتها ومستقبلها. وهنا برزت مسألة أزمة اليسار فى مصر فى علاقاته بالجماهير الشعبية، وبالتالى بالثورة.
ومنذ عقود طويلة يتواصل الحديث عن أزمة اليسار فى مصر دافعًا إلى التفكير فى مفهوم اليسار ذاته، وفى طبيعة أزمته، ومداها، وتأثيرها على دوره فى النضال السياسى والاقتصادى والاجتماعى والفكرى، وأخيرا على استقباله لثورة يناير ودوره فيها.
وقد صار سؤال أزمة اليسار مُثارا فى كل بلدان العالم: أين اليسار؟ لماذا اختفى اليسار؟ هل ما يزال هناك يسار؟ وما احتمال نهوضه من جديد؟ ... ولا يمكن أن نفهم سؤال أزمة اليسار فى مصر إلا فى سياق فهمنا لسؤال أزمة اليسار فى شرق العالم وغربه. ويؤدى ضيق الأفق المحلى والقومى، عند اليسار، إلى بكائيات اليسار وجلد الذات ولطم الخدود وشق الجيوب بعقلية بدائية لا تفهم ولا تريد أن تفهم أن أزمة اليسار عندنا، رغم خصوصياته، جزء لا يتجزأ من أزمته العامة العالمية.
ومع ثورة يناير تدفَّق سيلٌ عارم من التصورات والمفاهيم المتضاربة عن اليسار، عند اليسار نفسه، فى محاولةٍ لفهم الثورة وتقييم منجزاتها ونقاط قوتها ونقاط ضعفها، وتحديد السياسات والبرامج الضرورية لتطويرها، ونشبت معها جميعا أزمة "داخلية" بين قوى اليسار، وبينه وبين مختلف القوى السياسية، وبينه وبين الدولة ومؤسساتها وسياساتها.
وكانت ثورة يناير الشعبية، بحكم طبيعتها كثورة شعبية وبما يتطابق مع مفهومها الصحيح، ثورة عفوية، ولا يمكن بطبيعة الحال أن نقول إنها كانت ثورة يسارية أو ثورة اليسار. ذلك أن اليسار وَعْى وانتماء وموقف واتجاه فكرى طبقى، بينما الثورة حركة كبرى تتعدد طبقاتها الاجتماعية وقواها السياسية وتتعدد بالتالى مواقفها وأهدافها ومطالبها وبرامجها المكتوبة أو الضمنية ولا يمكن حصرها فى موقف اليسار أو غيره من قضاياها.
ومن الجلى أن كل ثورة تشتمل على العفوية والوعى معا. غير أن قوى العفوية لا تتطابق مع قوى الوعى، كما أن الوعى متنوع ومتناقض حسب الطبقات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وليست هناك بالطبع ثورة منظَّمة أو واعية من حيث هى ثورة؛ فالثورة دائما عفوية فى كل تجلياتها؛ فى حركتها كما فى وعيها، حيث يكون الوعى عفويا، وهناك الوعى الذى لا يكذب، عند جماهير الطبقات الشعبية، فهى واعية بعمق بمعاناتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المباشرة، وهى صادقة ومخلصة بل تتحرَّق شوقا إلى تحقيق مطالبتها برفع هذه المعاناة عن كاهلها. وكل هذا، رغم أهميته، وعىٌ عفوى، تلقائى، وليس وعيًا ثوريا، ولا وعيًا بالثورة.
وقد اعتقد بعض كُتاب ومفكرى وقادة اليسار أن الثورة كانت ستنجح لو كانت منظَّمة، ولو كان اليسار موحَّدًا فى حزب واحد كبير قادر على النجاح فى قيادة الثورة. واعتقد هؤلاء أن وحدة اليسار يمكن أن تتحقق إزاء حدث ما، مهما تباعدت أُسُس الوحدة الحقيقية، حتى التاكتيكية، رغم أنهم يرون أمام أعينهم كيف تباعدت قوى اليسار وشكلت أحزابًا ومنظمات وحركات متعددة، كنتيجة طبيعية، عفوية، لغياب الوحدة الفكرية والسياسية، وستكون أىّ مطالبات بوحدة اليسار فى تنظيم واحد صراخًا فى البَرِّيَّة، فقد نشأ اليسار فى الانقسام، وعاش وما يزال يعيش فى الانقسام، وهذه طبيعة الأمور، فأين رأينا، فى أىّ بلد فى العالم كله، يسارا موحَّدا أو شيوعية موحَّدة؟!
وصحيح أن الأحداث الكبرى توحِّد، ولا مناص من أن توحِّد، أحزابا وتنظيمات وحركات يسارية متعارضة، وتوحِّد بين اليسار والقوى الديمقراطية، وتوحِّد بين القوى اليسارية وغير اليسارية مع الجماهير الشعبية؛ غير أن مثل هذه الوحدة عفوية ومؤقتة وغير منظمة، وسرعان ما يفرِّقها تحقيق الهدف المشترك، أو الإدراك الواضح لعدم القدرة على تحقيقه. وقد رأينا فى أعقاب الثورة غياب الوحدة عن قلة من الأحزاب أو الحركات اليسارية السابقة للثورة، وكثرة من الأحزاب والحركات اليسارية الجديدة الناشئة بعد انتزاع الثورة لحق تنظيم الأحزاب، وإنْ بشروط وقيود أخفّ من شروط وقيود سابقة فى نواحٍ، وشروط وقيود أثقل منها فى نواحٍ أخرى. وبدلا من وحدة أحزاب وحركات اليسار تفرقت بها السُّبُل رغم التقارب السياسى والفكرى بين كثير منها، ولم تجمع أىّ وحدة هذه الأحزاب إلا عند خروجها مع الجماهير الثائرة إلى الميادين. ولا تثريب على اليسار، فى تفريطه فى وحدة أحزابه، فهذه طبيعة الأشياء.
أما فكرة أن ثورة منظَّمة كان بمستطاعها أن تنجح فى تحقيق أهدافها فإنها فكرة لا معنًى لها، لأنه ليست هناك ثورة منظَّمة، حيث لا سبيل إلى "تنظيم" يجمع بين جماهير منتمية إلى طبقات اجتماعية مختلفة، وإلى اتجاهات مختلفة بداخل كلٍّ منها، ومنتمية إلى مشارب فكرية متنوِّعة، ولا سبيل لجمعها إلا بصورة عفوية مؤقتة فى ثورة أو انتفاضة عفوية تفجِّرها أوضاع اقتصادية واجتماعية ولا تفجرها الأفكار.
أما فكرة أن تنظيما يساريا واحدًا موحَّدا كان بوسعه أن ينقذ الثورة فإنها، بدورها، فكرة لا معنًى لها، حيث لا يمكن أن يوجد هنا، ولا فى أىّ مكان آخر فى العالم، حزب يشتمل على كل أو معظم أحزاب اليسار. وهى أيضا فكرة غير مرغوب فيها لأن العاقل لا ينبغى له أن يرغب فى تحقيق غايات مستحيلة أو فى تربيع الدائرة. ومن ناحية أخرى فإن للثورة الشعبية آليات عفوية تحسم انفجارها ومسارها ونهايتها، بصرف النظر عن وجود أو مدى نضج يسار بعينه، وبصورة مستقلة عنه. ولم يكن بمستطاعها أن تحقق أكثر مما حققت فهذه طبيعة وحدود الثورات الشعبية طوال التاريخ.
ويبدو أن الكُتاب والمفكرين الذين يتشبثون بهذا التعويل فى تفسير نجاح ثورة على كونها ثورة منظمة أو واعية بنفسها بقيادة حزب يسارى كبير، يستمدّون هذا التصوُّر من ثورات عديدة فى القرن العشرين قادت نجاحَها وانتصارَها أحزاب يسارية/اشتراكية نظمت ووحَّدت جماعة كبيرة من الثوريين الواعين بقضيتهم بكل أبعادها وبالأخص فى الثورتين الروسية البلشڤية والصينية الماوية ولكنها لا تقتصر عليهما فثورات هذا النموذج متعددة من ڤييتنام شرقا إلى كوبا غربا.
غير أن هذه الثورات لم تنجح فى المحل الأول لأنها بقيادة أحزاب كبيرة، مع الأهمية الحاسمة لهذا الواقع، بل نجحت فى روسيا والصين بحكم عوامل متعددة منها أنها كانت تستند إلى طبقة رأسمالية صاعدة أو فى طور التكوين رغم قيادتها الماركسية غير الواعية بطبيعة الثورة، فقد تصورت أنها اشتراكية رغم أنها كانت رأسمالية، أىْ أنها كانت ثورات رأسمالية فى جوهرها ولكنْ بقيادة حزب ماركسى ينتمى فكريا إلى الشعب، وأثبتت دراسات علمية معمقة هذه الحقيقة التى كان جوهرها الرأسمالى مختفيا وراء مظهرها الاشتراكى، قبل وبعد المصير الذى آلت إليه هذه الثورات والأحزاب والأنظمة، وساهم فى عُمق الثورة ونجاحها تواصُل حركة الاحتجاجات الجماهيرية الانفجارية العفوية، فهذا التواصل شرط من شروط نجاح الثورات، كما ساهم واقع انهيار النظام القيصرى كله بعد أن أنهكته ثلات سنوات من الحرب العالمية الأولى ومن المعارك مع الغزو الألمانى لروسيا، انتهت إلى فرار الجيش من الميدان، والانهيار الاقتصادى مؤديا إلى جوع الشعب، وكان دور الحزب الثورى الكبير حاسما فى الاستفادة بالثورة العفوية وجنى ثمارها وإرشادها وتوجيهها فى قنوات تعزز مبادراتها والسير بها إلى الأمام لبناء النظام الجديد، بالاستفادة بالتراكم الرأسمالى البدائى العميق الذى كان قد تحقق قبل الثورة بوقت طويل. ولا تتعارض القيادة البلشڤية الواعية للانتفاضة المسلحة المنظَّمة مع واقع أن تلك الانتفاضة كانت تتويجا لثورة شعبية عفوية شارك فيها الملايين من جماهير الطبقة العاملة والطبقات الشعبية.
كما أن الثورة الصينية الفلاحية المسلَّحة الطويلة الأمد كانت ثورة شعبية عفوية انطلقت من المبادرة الثورية العفوية لجماهير الشعب بقيادة منظمة واعية وذات مرجعية ثورية علمية هى الماركسية، وكانت تضمّ قيادات ماركسية تنظِّم الملايين من الفلاحين وغيرهم من الجماهير الشعبية وتقود ثورة شعبية عفوية هائلة، مستفيدة استفادة كبيرة من معونة سوڤييتية هائلة، عوَّضت عن المحدودية النسبية للتراكم الرأسمالى البدائى فى الصين. ذلك أن تنظيم قيادة الثورة لا يتعارض مع عفوية الثورة، فالتنظيم يعزز نضالات ومنجزات المبادرة الجماهيرية العفوية، بشرط وجودها وتواصُلها، ويَحُول دون تبدُّدها.
ويمكن بالطبع أن تبرز أهداف مشتركة تتفق عليها معظم وربما كل قوى الثورة، غير أن كل هدف يلتف حوله الجميع فى لحظة يمكن أن ينقلب إلى موضوع للخلاف والتعارض والصراع فى لحظة أخرى بحكم اختلاف المصالح، واختلاف الوعى بها، واختلاف مراحل تطور الثورة.
غير أن مستويات الوعى بمختلف أبعاد هدف بعينه ليس شيئا بل هو بالأحرى علاقة، بل علاقة معقدة، تقتضى المعرفة الكافية لتفسيرها وتحليلها وفكّ رموزها وربطها بتغيير بعينه، بوسائل بعينها؛ ولهذا فإن ما يبدو هدفا واحدا على وجه الحصر يمكن أن يعنى عناصر متعارضة تماما، كما أن التغيير ذاته مفهوم أو شعار فضفاض فهو فى زمن الثورة شعار من لا يريدون التغيير ويمقتونه ويقاومونه، وهو فى الوقت نفسه شعار من يريدونها، ويقودون ممارستها، ويفرحون بنجاحاتها ويغضبون ويُحبَطون عند إخفاقاتها وانكساراتها، فهو إذن موضوع للاتفاق فى لحظة وللخلاف فى لحظة أخرى.
ولهذا اختلفت قوى اليسار ذاته، رغم تأييدها جميعا لثورة يناير، حول طبيعتها، وأهدافها الحقيقية، المعلنة والضمنية، والاحتمالات الفعلية لإنجازها. وتتابعت تساؤلات اليسار حول حدث يناير: ثورة أم انتفاضة أم عصيان أم تمرُّد أم هوجة أم ماذا؟ وتوالت تشخيصات اليسار: ثورة شعبية فى كل الأحوال؛ ولكنْ أهىَ ثورة اجتماعية؟ أم ثورة سياسية؟ أم ثورة ديمقراطية؟ أم ثورة قابلة مهما كانت طبيعتها للتطور إلى ثورة اشتراكية؟ وهل انتهت الثورة أم هى مستمرة؟ وهل تنفجر ثورة جياع لا تُبقى ولا تذر؟
ووقف يسارٌ إلى جانب المشاركة فى الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى سبيل إعادة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية بالطريق الشرعى الدستورى، ووقف يسارٌ غيره إلى جانب المقاطعة على أساس الفعل الثورى الإضرابى، وتذبذب يسارٌ بين هذا وذاك.
وتنبأ ساخنو الرؤوس بأنها بداية الثورة العالمية، بسبب إحساس عفوى مُبْهًم بضخامة الأحداث، واتساع نطاق الثورة التى شملت بلدانا عربية عديدة، ولتزامنها المضلِّل مع حركات بدتْ ثورية وتاريخية، وأهمها حركة "احتلوا وول إستريت" التى امتدت إلى مئات المدن فى الدول الرأسمالية المتقدمة. وتعددت الإجابات والخلافات الحادة.
ولن نقف كثيرا عند من يدبِّجون مقالات فى مديح الشعب، ومديح ثورته، ومديح وَعْيه، ورفعه أحيانا فوق مستوى كل الشعوب، لكونه امتدادا لحضارة عظيمة، مع مديح مصر باعتبارها أم الدنيا. ولا شك فى أن الشعب مجيد لأنه عانى طويلا وصبر وصابَرَ ومع هذا تواصل عطاؤه وإبداعه، ككل الشعوب. والشعب مجيد لأنه أثبت بثورته أنه حىّ ما يزال، ككل الشعوب، ومصر حضارة عريقة هى أمُّ الحضارات، وأمُّ الدنيا، وامتدادٌ لأصل الحضارة، أىْ مصر والعراق القديم بالطبع. والشعب واعٍ ووعيه أعمق من وَعْى المثقفين بحياته وأوضاعه التى لا يعرفونها، ولكنه، كما أسلفنا القول، وَعْىٌ عفوى، وليس وَعْيًا علميا أو ثوريا. والثورة بالغة العظمة ومجيدة، غير أنها ليست حدثا خارقا يحلِّق عاليا فوق قوانين الثورة الشعبية بمفاهيمها الصحيحة، وهى، على العكس، تخضع لهذه القوانين، بعيدا عن كل تمييز يهبط بها إلى مستوى الشوڤينية البغيضة.
والحقيقة أن من يركِّزون كثيرا على مديح الشعب وثورته ووعيه إنما يفعلون هذا هَرَبًا من التحليل العينى للموقف العينى، أو على سبيل استراحة المحارب عندما يتعب من التحليل.
فما هو اليسار وما هى أزمته فى مصر كجزء لا يتجزأ من أزمته فى العالم كله؟
واليسار واليمين كلمتان مستمَدَّتان من ترتيب الجلوس فى المجلس التشريعى أثناء الثورة الفرنسية العظمى (1789-1799)، فالجالسون على يسار رئيس المجلس يسار، والجالسون على يمينه يمين. وكان هذا التمييز بين الموالاة على اليمين والمعارضة على اليسار. ويمكن اعتبار اليسار واليمن المعاصريْن امتدادا للمحتوى الجوهرى لكلٍّ منهما فى التمييز بين القضايا والنظريات الجديدة. ذلك أن اليسار الفرنسى القديم كان ضد النظام الملكى وكان مؤيدا للثورة، ولإقامة النظام الجمهورى، وللعلمنة، والجمهورية، والاشتراكية، والشيوعية، والأناركية، وأضاف اليسار المعاصر حركات الحقوق المدنية، والحركات المعادية للحرب، والحركات البيئية، والإطاحة بالرأسمالية، وإقامة مجتمع خالٍ من الطبقات، وخالٍ بالتالى من الدولة، فيما كان اليمين يتميز بتأييد النظام الملَكى، ومؤسسات النظام القديم، وبمعاداة الثورة.
واليسار، بطبيعة الحال، متنوع للغاية، حيث تتنوع أحزابه وحركاته وسياساته وبرامجه وأيديولوچياته والطبقات التى ينتمى إليها، ويمكن أن تتناقض هذه البرامج وأن تتعادى هذه المنظمات. ويحدث هذا داخل اتجاه واحد كما رأينا بين الخطين السوڤييتى والصينى أو بين الخطين الستالينى والتروتسكى، بل تتناقض تلاوين متعددة داخل كل اتجاه وداخل نفس الأيديولوچيا. ولدينا فى مصر والعالم العربى تيارات متعددة محسوبة على اليسار منها التيار الماركسى، والتيار القومى الناصرى والبعثى العراقى، والبعث السورى، وحركة القوميين العرب، وتفريعات وتناقضات بين هذه التيارات وداخل كل تيار منها.
وقد تكون أحزاب أو حركات تنتمى إلى تيار قومى حاكم ناصرىّ، أو بعثى صدامىّ أو أسدىّ، أدواتٍ لتوسيع نطاق سياسات وأيديولوچيات هذه الأنظمة، فيغدو من الصعب اعتبارها يسارا بالمعنى الحقيقى. وهناك بالطبع الماركسيات العربية والماركسيات المصرية ولكنها لم تحكم وقد تكون توسيعا لأيديولوچيات أحزاب وأنظمة حاكمة فى دول كبرى، كالشيوعية السوڤييتية، والشيوعية الصينية الماوية، والأورو-شيوعية، أو لأيديولوچيات أحزاب وأنظمة قومية حاكمة.
ويمكن أن نحدد اليسار فى مصر عن طريق رسم خط رأسى على طرفه الأعلى الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة وحلفاؤها ويمثلها اليمين، وعلى طرفه الأسفل الطبقة العاملة والطبقات الشعبية والفقيرة ويمثلها اليسار. وبين اليمين واليسار تفريعات متعددة، واتجاهات وسيطة، بل ويمين ويسار كلٍّ من اليمين واليسار.
وكما سبق أن رأينا فقد تمثل الانتماء الطبقى لليسار فى الطبقة العاملة والطبقات الشعبية. وككل يسار، تمثلت سياساته وبرامجه فى معارضة الرأسمالية العالمية والمحلية، وفى العدالة الاجتماعية ورفع مستويات معيشة الطبقات العاملة والشعبية، ومحاربة الاستغلال والفساد والفقر والتبعية الاقتصادية، والاستبداد والديكتاتورية فى سبيل تحقيق حريات نسبية ومستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل.
وإذا اقتصر حديثنا على اليسار الماركسى العالمى فقد لعب دورا غيَّر وجه العالم بتأثيره العميق على الفلسفة والعلوم الاجتماعية والجمالية والآداب والفنون فى كل بلدان العالم منذ ماركس بالذات إلى الآن، كما أثر تأثيرا تاريخيا عميقا على تطور الحركة النقابية العالمية ونضالاتها الاقتصادية والسياسية. ونشأت، تحت راياته الماركسية، الثورات والأنظمة المسماة بالاشتراكية فى كل البلدان.
ومهما كانت الطبيعة الحقيقية لهذه الأنظمة والثورات التى أدت إليها، ومهما كان مصيرها الرأسمالى الذى لا جدال فيه الآن، فقد لعبت دورا تاربخيا فكريا وسياسيا وأدبيا فى مختلف أنحاء العالم، وقامت ببناء قوى إنتاج حديثة جبارة فى روسيا والصين وبلدان أخرى فأنقذت شعوبها من المصير الكارثى للعالم الثالث، وساعدت على تطوير وتنمية اقتصادات وأبنية البلدان المستقلة الجديدة، وعززت صمودها أمام الدول الاستعمارية والرأسمالية المتوحشة، وكسرت احتكار البلدان الرأسمالية الكبرى للسيطرة على العالم. كما أن بلدان العالم الثالث التى تلقَّتْ معونتها طوَّرت اقتصادَ وثقافة شعوبها، مهما بقيت، رغم دعاوى الاستقلال، خاضعة للتبعية الاقتصادية الاستعمارية، وهى أمّ كل التبعيات الأخرى، وبعيدة عن الحداثة دون أن تنمو فيها ديمقراطية شعبية من أسفل.
وباختصار فقد غيَّر اليسار العالمى والعربى والمصرى وجه العالم كله، وخلق عالما جديدا تماما، رغم كل شيء.
وعندما انفجرت ثورة يناير لعب اليسار المصرى بشبابه وبمختلف أجياله دور الشرارة التى أشعلت ثورتنا المجيدة إلى الأمام على مدى سنوات، وإنْ كان حدث يناير لم يتحول إلى ثورة شعبية كبرى إلا بالانفجار العفوى لعشرات الملايين من بنات وأبناء شعبنا.
وحققت الثورة نجاحات ومنجزات كبيرة أنقذت الشعب من الكارثة التى حلَّت بالبلدان الأخرى للثورة العربية، متفادية بفضل الشعب والدولة الرأسمالية، على تناقضهما، الحرب الأهلية، وحققت نجاحات ومنجزات كبرى منها إنقاذ مصر من عصابة مبارك التى كادت تدفن الشعب حيا، وأنقذتها من الدولة الدينية بالإطاحة بالحكم الإخوانى، رغم اشتداد إرهابهم الراهن، وخلقت تآخيًا تاريخيا بين المصريين من مسيحيين ومسلمين وغيرهم، وفى مجراها قطعت النساء خطوة تاريخية كبرى على طريق تحرُّرهن، رغم عدوانية واعتداءات الإسلام السياسى الإرهابى ضد المسيحيين، وضد الديانات والمذاهب الإسلامية الأخرى، وضد النساء.
ويُلام اليسار على أنه لم يحقق قوة كبيرة كالإخوان (والسلفيين)، رغم أنهم تلقوا ضربات قاصمة من النظام الناصرى أكثر من اليسار، فى سبيل فرض فكره وسياسته ضدهم، رغم أنه حقق فى النهاية ما لم يحققوه. وينطوى هذا اللوم على مغالطة كبرى. فاليسار لا ينمو جماهيريًّا إلا بتطور كبير للحركة الشعبية العفوية والمستقلة عن اليسار وغيره، فى الوقت الذى خلقت فيه هزيمة 67، وتفشِّى الفقر، والتخلُّف الثقافى والفكرى للشعب، وواقع أن الجو كله صار مُعبَّئا بالتدين الحقيقى والزائف والشعوذة والدروشة، البيئة الصالحة لنمو وازدهار الإسلام السياسى دون غيره، ولعبت الدولة الدور الرئيسى فى ذلك، طوال عشرات السنين بنظامها التعليمى والإعلامى، وباستبدادها الذى يمثل عقبة دون النضال الفكرى اليسارى والديمقراطى ضد الإسلام السياسى، فى كل عهود الرئاسات المتعاقبة منذ حركة 52، وبالأخص بفتحها الباب واسعا منذ منتصف السبعينات، ثم طوال عهد مبارك، بما سمح بتطور وتقدُّم الإخوان المسلمين سياسيا وپرلمانيا ونقابيا وإداريا واقتصاديا إلى حدّ تكوين قطاع كامل من الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة، هددت بإقامة دولة دينية فاشية. وما يزال اليسار مكبَّلا بقيود استبدادية ثقيلة.
كما أسهم فى ضعف الدور الفكرى لليسار الماركسى عدم نضجه الفكرى، وتحريفيته، وتبعيته لأحزاب شيوعية تحريفية خارجية، أهمها الحزب الشيوعى السوڤييتى، وكذلك نجاح عبد الناصر، شأنه فى ذلك شأن أمثاله من أبرز زعماء الحركة الاستقلالية فى القارات الثلاث، فى سحب البساط من تحت أقدامها، بما يتلاءم مع زمن الاستقلال القومى فى كل مكان. ثم جاء أخيرا عامل الانهيار السوڤييتى الذى أدى مباشرة إلى انهيار الأحزاب الشيوعية الموسكوڤية وغير الموسكوڤية فى العالم كله، شرقه وغربه، وشماله وجنوبه.