أول آيار، بعيد، حزين ومنسي


خالد صبيح
2015 / 4 / 30 - 22:45     

لاحتفالات آيار مكانة خاصة في نفسي. أُحب الإحتفال بهذه المناسبة أكثر من غيرها. بل أحيانا تبدو هي المناسبة الوحيدة التي أحتفل بها من بين مناسبات العام الأخرى، ربما لأنها احتفال جماعي. واحتفالي الحقيقي بها بدأ في بلدي الثاني، السويد. فلهذه المناسبة في هذا البلد نكهة مميزة. حيث ينتظم اليساريون والاشتراكيون جميعا في هذا اليوم بمسيرات وحشد في الساحات العامة المتناثرة في نواحي المدن. في العاصمة ستوكهولم، ياخذ الحزب الشيوعي السويدي، وهو تشكيل صغير، مكانه في ساحة (هي توريت) وتأخذ مجموعة شيوعية ماوية، إن لم أُخطئ، وهي صغيرة العدد أيضا، مكانها في (سيرجل توري) وهي ساحة صغيرة وسط البلد تنظم فيها عادة الاحتجاجات السياسية.(مع هؤلاء انتظم مرة بعثيون رافعين رايات . يحدث ان يتسرب فاشيون بلباس ثوري مضللين السويديين، فالسويديون طيبون ويمكن تضليلهم).

وفي (حديقة الملك)، وهي ساحة كبيرة بمسرح كبير، يتجمع حزب اليسار، وتظاهرة هذا الحزب هي من بين أكبر التظاهرات في هذه المناسبة إن لم تكن أكبرها، ربما تفوقها بالعدد تظاهرة الحزب الاشتراكي التي تاخذ مكانها في (الساحة الكبرى). في تظاهرة حزب اليسار يجتمع أناس من كل الأطياف والأعراق. في هذا اليوم يشعر المرء بفخر انه ينتمي للإنسانية التقدمية، ويخيم على النفس شعور بالاعتزاز والطمئنينة أن هناك بشرا من مختلف الثقافات والأعراق تشترك معه بهموم وتطلعات إنسانية شاملة. في هذا التجمع تتلاشى الريبة التي تلح على أعصابنا، نحن المهاجرين (المنفيين) في تفسير نظرات وسلوك الآخرين الينا، هنا نكون واثقين أننا مرحب بنا، وأننا من أهل الدار.

تحت راية حمراء واحدة، وأسماء عديدة يجتمع أناس من كل الاجناس، وتدور لغات عديدة بين الدائرين في المكان. الأحتفال بهيج، موسيقى وفرح، ويكرس الثقة بالنفس وبشعور عميق وصادق بالإنتماء.

***
وفي الأول من آيار في كل عام أشعر:

"بأنني في قبضة الذكرى
سجين دونما سجان"

كان هناك أول من آيار آخر، بعيد، حزين ومؤلم. كنا في عام 1983 نوشك أن نحتفل، بأدوات إحتفالنا الفقيرة، بالعيد الجميل. لكن بعد أن أعددنا كل ماسوف يبث فرحة العيد فينا فوجئنا بعدو من ذات الفصيلة، كما يدعيّ، يباغتنا، فتُستبدل بهجتنا بفجيعة ستبقى تلاحقني، وغيري كثيرين بالتاكيد، بالألم والحسرة لسنوات، وأظنها ستلازمني طول العمر.

هل كان سوء طالع أن يكون يوم العيد الأممي، ذا المعاني الجميلة، هو ذاته يوم الفجيعة؟

أعني بالفجيعة هنا جريمة بشتاشان التي وقعت في الأول من آيار عام 1983.

أتحدث عن نفسي، لايعنيني الساسة، فهم بلا عواطف، روبوتات، يقدمون المصالح على المحبة والصداقة. والمحبة والصداقة هما سبب فجيعتي الشخصية. في بشتاشان فقدت أعزة لن تفارق وجوههم مخيلتي، أتذكرهم دائما وأبحر في الخيال أوقاتا كثيرة وأتساءل مع نفسي: لو لم يغتالهم كارهوهم، وكارهينا، في ذاك اليوم المشؤوم، ماذا كان يمكن ان يكونوا عليه الآن؟ هل سيكون لهم أبناء وزوجات؟ وهل ستتساقط شعورهم، التي بقيت بسبب موتهم المبكر، سوداء وكثة؟ هل كان سيبقى صوت (رعد) شجيا ويُطرب كما كان، وهل سيبقى(أبو سحر) يشيع المرح والبهجة بحضوره الطيب اينما حل؟

هل، وهل، وهل !!!!

هو سوء طالعي أنا أن كان يوم استشهادهم هو نفسه يوم الاحتفال الذي عودت نفسي ان أبتهج به. لكن سوء طالعي هو، يقينا، حسن طالع عند آخرين، أعني الشيوعيين العراقيين الرسميين. سوف يبالغ هؤلاء في احتفاليتهم بهذا العيد وكأنهم يتعرفون لأول مرة على الأول من آيار، ربما ليغلقوا بهذا آذان وعيون من يريد أن يسمع كلمة تؤبن وتنصف من غادرنا شهيدا دفاعا عن الحزب في ذاك اليوم، وأن يرى كلمة إدانة لقاتليهم. أليس لمن يريد أن يسمع مثل هذا حق في أن يسمعه؟

لكن هذا لن يكون، وسيحول دونه كلام من نوع: متطلبات المرحلة، واللحمة الوطنية، ولم يأن الأوان بعد، ولن ننسى، وإلى آخر الأسطوانة المشروخة المملة.

سيحتفل الشيوعيون العراقيون، حسني الطالع، بعيد آيار احتفالا مضاعفا لانه ينسيهم ويقيهم هموم المواقف. وستكون بشتاشان، كالعادة، مناسبة شخصية يحيي ذكراها من إكتوى بنارها، ومن كابد ألم فراق أحبة رحلوا عن الدنيا الجميلة ثمنا لمساومات وسخة.

وهذا ماأفعله أنا الآن. أحتفل بعيد آيار عراقي مختلف، تمتزج فيه مرارة الفقد ببهجة العيد.

***
كلام في السياسة

إن كان لابد من حديث في السياسة أقول: أعرف أن إقتياد المجرمين الرئيسيين، أعني جلال الطالباني ونوشيروان مصطفى، إلى محاكمة قانونية، أمر صعب إن لم يكن مستحيلا، سواء سعى في هذا المسعى أفراد، أو الحزب الشيوعي العراقي بنفسه، والأسباب باتت معروفة، فهذه الجريمة، يصعب، بتقديري، إثباتها ماديا لأنها واقعة سياسية لها حيثيات يصعب إضفاء صفة جنائية عليها إلا في ظل ظرف سياسي خاص، هو حتما غير متوفر الآن، ولا أظن أن المستقبل سيلده. لكن الإدانة المطلوبة التي اعنيها هي إدانة سياسية وأخلاقية قبل كل شيء. ومن هذه الزاوية تجري مطالبة الحزب الشيوعي العراقي في أن يتخذ موقفا سياسيا وأخلاقيا واضحا وصريحا وجريئا ازاء هذه القضية.

هل سيفعلها الحزب الشيوعي؟

لا!!

أقولها جازما بقوة.

والأسباب، كما أراها ويعرفها عامة الناس، هي:

أولا، أن وضع الحزب العام، لاسباب معروفة، لايمكّنه من القيام بهكذا فعل يتطلب جرأة عالية ووضوح في الموقف، ولهذه الجراة ولهذا الوضوح، كما تدلنا تجربة التاريخ، أسس، منها؛ أن يكون الحزب ثابت القدم في الحياة السياسية وفي المجتمع، وهو مايفتقد اليه الحزب في الظروف الحالية بشدة. وثانيا، لانه، الحزب، قد دخل في متاهة علاقات مع القوى الكردية تعيقه عن الحراك المرن والمستقل. لهذا، ولأسباب أخرى، لن يورط نفسه في مواقف تربك علاقاته الكردية وتجعله مكشوفا أمام القوى الإسلامية الظلامية التي تستهدفه.

لكننا نعرف أن الجرأة والإقدام مطلوبان في السياسة. وطالما أن الحزب لم يعد قادرا على تقديم أداء سياسي مناسب لسمعته ولتاريخه ( ولهذا حديث طويل) فعليه، على الأقل، أن يحافظ على سمعته باعلان مواقف جريئة وشجاعة تنقذ هذه السمعة وتبقي على رونقها الذي أخذ يصدأ يوما بعد آخر.

هل سيفعلها الحزب في قضية بشتاشان؟

اترك الجواب له ولجماعته.

***

كلام في الأخلاق.

يروي فؤاد معصوم، رئيس جمهورية العراق، وأحد القياديين في الإتحاد الوطني الكردستاني، وأحد المسؤولين عن جريمة بشتاشان، عن كرم أهل البصرة العرب حينما حل جارا لهم في منطقة التنومة عند عمله مدرسا في جامعة البصرة، الكرم الذي اخجله للحد الذي دفعه بمطالبتهم أن يتوقفوا عن إكرامه وأسرته. قال أنه لايمكن أن ينسى كرم أهل البصرة وضيافتهم.
و
أتساءل باستغراب كبير هنا: كيف إذن سمح لنفسه المشاركة في إتخاذ قرار قتل الأنصار العرب على الهوية في معركة بشتاشان؟ وإن لم يشارك في القرار، (أخذ قادة الإتحاد يتقاذفون المسؤولية عن الجريمة فيما بينهم وكل منهم يبعدها عن نفسه) فكيف وافق عليه، وإن لم يوافق عليه كيف صمت عنه؟

ثم، وبعد كل هذه السنوات، ألم تحفزه يوما ذكرى مذاق طعام أهل البصرة، الذين أكرموه، في أن يفكر بادانة أخلاقية، أو بنقد للذات، لما ساهم بارتكابه بحق أبناء لهم؟

الأكراد قوم أصحاب ضيافة وكرم ومروءة، وهذا خبرته بنفسي، ولاادري كيف هان على معصوم الزاد والملح العربي البصري.

لكنها السياسة.

وربما أني أحمل المسالة بأكثر مما تحتمل، كما لامني مرة أحد الأصدقاء الذين أعتز بهم وبتقديراتهم. معتبرا أن ماوقع كان ضمن إقتتال الأخوة الذي شاع في كردستان الثمانينات، وأن عدد شهداء بشتاشان قليل نسبة لما وقع من شهداء بين الاطراف الكردية المتقاتلة في حرب الاخوة التعيسة تلك.

***
كانت أيام آيار البعيد تلك أياما غامت فيها السماء وأمطرت. ومذاك صار الغيم والمطر يجلبان لنفسي حزنا وضيقا أكبر، ولن يجلوا سوادهما من روحي شيئ مادام آيار يأتينا كل عام حاملا ذكراه الدامية.