طريق اليسار - العدد 71


تجمع اليسار الماركسي في سورية
2015 / 4 / 30 - 00:37     



جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم /
* العدد 71 ـ نيسان / أبريل 2015 - [email protected] E-M: *


* الافتتاحية *
اليمن كمرآة للمنطقة

كان اليمن في فترة525-570ميلادية بؤرة مجهرية للصراع الفارسي- البيزنطي عبر وكلاء الأخيرين الأحباش.كان انسداد الطرق البحرية بسبب ذلك الصراع عاملاً أساسياً في بروز مكة وسيطاً تجارياً.ولد محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب في العام 570الذي هزم فيه الأحباش على أبواب مكة ومن ثم اليمن .لايمكن تفسير هزيمة البيزنطيين والفرس أمام المسلمين في زمن خلافة عمر بن الخطاب(634-644ميلادية)من دون الانهاك الذي أصابهما في الحرب المباشرة التي نشبت بينهما على أرض الشام ومصر بين عامي602و627بعد أن كان اليمن أرضاً لصراع بالوكالة الحبشية عن بيزنطة ضد الفرس.سقطت اليمن من أيدي الفرس بعد هزيمتهم أمام البيزنطيين ولكن بيد المسلمين سلماً في عام630أي قبل وفاة النبي محمد بسنتين. بين عامي1962و1970كانت الساحة اليمنية مرآة للمنطقة وللعالم من خلال عكس الحرب الأهلية اليمنية ل"حرب باردة عربية" بين الرياض والقاهرة كانت انعكاساً للحرب الباردة العالمية بين واشنطن وموسكو.منذ سقوط صنعاء بيد الحوثيين في يوم21أيلول/سبتمبر2014أصبحت اليمن مرآة لمجمل صراعات المنطقة وقد بان هذا بوضوح منذ فجر الخميس26آذار/مارس2015.
في زمن الحرب العراقية- الايرانية1980-1988كان صدام حسين يقول عن العراق بأنه"البوابة الشرقية للوطن العربي".لم تستطع طهران اكتساب القدرة على التمدد الاقليمي إلابعد سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي،المتحالف مع ايران،يوم9نيسان/إبريل2003.كان انهيار التحالف الأميركي-الايراني في العراق المغزو والمحتل،مع بدء طهران باستئناف برنامج تخصيب اليورانيوم يوم8 آب/أغسطس2005 ،مفصلياً في تحديد التطورات اللاحقة للمنطقة ومحدداً رئيسياً لمسارها:من دون هذا لايمكن تفسير حرب صيف2006التي كانت بالوكالة عن واشنطن وطهران.مع ابتعاد طهران عن واشنطن لم تعد دمشق معزولة أمام واشنطن كمابانت في ربيع 2005بلبنان.منذ نهاية حرب 2006 بدأ المد الأميركي بالانحسار،بعد أن وصل للذروة اقليمياً مع احتلال العراق،وقد ظهر المد الايراني مكانه في عموم المنطقة من خلال محطة انقلاب حماس على فتح بغزة(14حزيران/يونيو2007)ومحطة7أيار/مايو2008ببيروت ثم تتوج هذا ايرانياً في بغداد يوم25تشرين ثاني/نوفمبر2010بتشكيل حكومة نوري المالكي وهو الذي وضع بيضه كله في السلة الايرانية بعد أن كان هناك توازن أميركي- ايراني ببغداد في مرحلة مابعد صدام حسين. لم يكن ممكناً اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري ببيروت،وهو في لحظة الاجتماع مع الرئيس الأميركي بالبيت الأبيض ،يوم 12كانون ثاني/يناير2011،لولا قبض طهران على مقاليد الأمور في عاصمة بلاد الرافدين قبل شهرين. بعد يومين من الحدث البيروتي سقط الرئيس التونسي في أول تداعيات"الربيع العربي"،وبعده بأحد عشر يوماً بدأ الفصل الثاني في القاهرة ثم اليمن وليبيا وسوريا،حيث استطاعت طهران أن تخرج أقوى أمام عاصفة"الربيع العربي"بفضل رصيدها العراقي الذي وضح حجمه لماخرجت واشنطن بانسحاب قواتها باليوم الأخير من عام2011خالية الوفاض.
منذ خريف2006 وفي أثناء زيارة مستشارة الأمن القومي الأميركية كوندوليسا رايس للمنطقة،بعد قليل من انتهاء حرب لبنان،بدأ طرح(معتدلون ضد متطرفين)بالتداول أميركياً.تم تعويم الدور التركي من قبل واشنطن لموازاة المد الايراني فيماكانت أنقرة ضد غزو العراق ورفض البرلمان التركي فتح الجبهة الشمالية بينما كانت طهران حليفة وشريكة لواشنطن.أصبحت القاهرة ودول مجلس التعاون الخليجي(ماعدا الدوحة ومسقط)في (معسكر الاعتدال ) ضد معسكر(طهران- دمشق- حزب الله- حركة حماس)،وانضاف له الرئيس محمود عباس في رام الله والرئيس اليمني علي عبدالله صالح المتحارب مع الحوثيين أتباع ايران منذ عام2004و(جبهة 14آذار) في بيروت.في أثناء"الربيع العربي"اختلطت الأمور:ابتعدت الرياض عن أنقرة،وتلاقى الأميركان والأتراك والايرانيون في دعم الرئيس محمد مرسي بالقاهرة،وتلاقت طهران وأنقرة مع (الحوثيون)و(التجمع اليمني للاصلاح)،وهو التنظيم الاخواني المحلي،في دعم الثورة اليمنية ضد الرئيس عبدالله صالح.كانت الرياض متوجسة من مد(جماعة الاخوان المسلمين)في عموم المنطقة وتفارقت في هذا مع الأميركان والأتراك. في (المجلس الوطني السوري) عام2011كان واضحاً النفوذ التركي من وراء هذا الجسم المعارض السوري الذي تصدره (الاخوان المسلمون)وكان الحذر السعودي واضحاً أيضاً منه،وعندما تشكل (الائتلاف )بديلاً له كان موضع نزاع سعودي- تركي .انفجر التصادم التركي- السعودي،ووضح التفارق الأميركي- السعودي،يوم 3يوليو /تموز2013لماأزيح الرئيس المصري مرسي من قبل الجيش وسقط حكم(الاخوان) في القاهرة.
كانت صنعاء21سبتمبر2014-6فبراير 2015،لما أعلن(الحوثيون)"اعلانهم الدستوري"لترجمة سيطرتهم على العاصمة قبل أربعة أشهر ونصف، هي التي أعادت تجميع الأوراق التي شتتها "الربيع العربي"في داخل (معسكر الاعتدال)وأعادت معادلة كوندوليسا رايس المطروحة منذ عام2006:في حملة (تحالف26مارس2015)الذي بدأ يومها بضربات جوية على الحوثيين،وحليفهم المستجد علي عبدالله صالح ومحاربهم السابق،كان هناك إعادة تجميع لمعسكر معتدلي2007-2010:الرياض- القاهرة- أنقرة .كان المستجد هنا هي قطر ثم (الاخوان المسلمون)في دخولهم بتحالف26مارس2015.باكستان تمثل تفصيلاً مهماً. أعلنت واشنطن دعمها لهذا التحالف الذي من الواضح أنه موجه ضد ايران وامتدادها المحلي اليمني،وهي التي كانت بنفس الوقت تدخل في مدينة لوزان السويسرية بمحادثات مع طهران حول الملف النووي الايراني.
في صنعاء26مارس2015تكثفت المنطقة بصراعاتها واصطفافاتها من خلال المرآة اليمنية:من خلال حدث كويت2آب/أغسطس1990انخلقت اصطفافات وتحالفات جديدة ،وأزيل بعض ماكان قائماً(مثلاً:مجلس التعاون العربي:القاهرة- بغداد- عمان- صنعاء)،وتقارب متباعدون مثل واشنطن ودمشق.الحدث اليمني ليوم26مارس2015يعكس اصطفافات تشكلت قبله يلفت النظر أن صنعاء مابعد21سبتمبر2014هي المساهمة الرئيسية في نشوئها.في لوزان2نيسان/إبريل2015كان الاتفاق مع طهران ليس لصالح الايرانيين وكما وصفه حسين شريعتمداري،مديرصحيفة"كيهان"الايرانية الذي يعين مباشرة من المرشد الايراني السيد علي الخامنئي،بأن"ايران قايضت حصانها المسرج بآخر مكسور اللجام". في لوزان تمت مقايضة(النووي)ب(الاقتصاد). تدل(اليمن)على أن (الاقليمي)هو خارج لوزان ولو كان ثالث المعادلة لكانت الحصيلة الايرانية في سويسرا مغايرة،كماتدل(لوزان)و(اليمن)على أن اقليم الشرق الأوسط برمته هو ميدان لمجابهة ستتحدد فيها التوازنات من خلال الوقائع القادمة التي ستكون طريقاً إلى تشكيل حقائق سياسية جديدة في المنطقة

خبر صحفي

بتاريخ 28/آذار/2015 عقدت أحزاب معارضة سورية في دمشق لقاءاً تداولياً ناقشت فيه التطورات السياسية الجارية واتفقت على إجراء هذا اللقاء بينها دورياً, وهي تؤكد أن هذا اللقاء التداولي المشترك لا يمثل كياناً سياسياً بل هو لقاء دوري عابر للتحالفات القائمة ولا يلغيها، ويسعى إلى تعزيز وتوسيع الأطر التحالفية القائمة، كما يسعى إلى تلمس التقاطعات الإستراتيجية وقضايا المستقبل للتوصل إلى صيغ عمل مشتركة, وتأمل أحزاب اللقاء أن يتطور عملها إلى خطوات عملية تنفيذية على طريق التغيير الديمقراطي الجذري.
وترى أحزاب اللقاء المشترك أن المسؤولية الوطنية والأخلاقية تقتضي من قوى المعارضة أن تستثمر جميع الفرص المتاحة لتخفيف معاناة الشعب السوري، وتلاحظ أحزاب اللقاء التداولي المشترك حصول تحسينات في لقاء موسكو التشاوري على صعيد الإجراءات والتنظيم والتمثيل، ولما كانت هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي وجبهة التغيير والتحرير ستشاركان في لقاء موسكو فيجب ويمكن للمعارضة المشاركة أن تنسق أداءها وأهدافها من اللقاء وخصوصاً ما يتعلق بالملف الإنساني (الحصار ـ قصف المدنيين ـ المعتقلين)، ويجب الخروج من اللقاء بنتيجة إيجابية ملموسة في ميدان بناء الثقة, كما يجب التأكيد على أن أساس العملية التفاوضية هو (بيان جنيف1) وأن إطارها هو عملية جنيف التفاوضية التي يجب أن يفضي لقاء موسكو إلى استئنافها في مؤتمر جنيف3.
الجدير بالذكر أن الأحزاب والتيارات المشاركة في اللقاء التداولي المشترك هي:
1 ـ حركة الاشتراكيين العرب.
2 ـ التيار الثالث لأجل سوريا.
3 ـ الحزب الديمقراطي الكردي السوري.
4 ـ الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
5 ـ تيار طريق التغيير السلمي.
6 ـ حزب الإرادة الشعبية.
7 ـ الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي.
8 ـ حزب الاتحاد الديمقراطي pyd.
9 ـ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي.
10 ـ حزب العمل الشيوعي في سورية.
-----------------------------------------------------------------------------------------

ورقة المعارضة و المجتمع المدني للحوار مع الوفد الحكومي
موسكو 7 نيسان 2015
تم التفاهم عل النقاط التالية بين المشاركين في لقاء موسكو من المعارضة والمجتمع المدني لمناقشتها مع الوفد الحكومي :
1- التأكيد على حتمية الحل السياسي على اساس بيان جنيف " ومبادئه " المؤرخ في 30 حزيران 2012 والذي صادق عليه مجلس الأمن الدولي بالقرار2118 عام2013والعمل على المسارات السياسية السورية والإقليمية والدولية التي يمكن أن تمهد لمؤتمر جنيف 3 ناجح .
2- جميع السوريين قوى وأحزاب وفعاليات المؤمنين بالحل السياسي شركاء في العملية السياسية السورية في كل حوار سوري سوري .
3- اعتبار القضايا والمهمات التالية حزمة واحدة هي الاكثر إلحاحا على الاجندة الوطنية السورية والاساس في جدول عمل الحوار الوطني للتفاوض حولها وإنجازها :
o العمل على الوقف الفوري لجميع اعمال العنف والقتال على الاراضي السورية .
o مواجهة وحل مجمل الكوارث الإنسانية التي يعاني منها السوريون .
o مكافحة وهزيمة الإرهاب .
o إنجاز التغيير والانتقال الديمقراطي إلى دولة مدنية ديمقراطية على أساس حق المواطن والمساواة بين السوريين والمساواة بين الجنسين ، مع ضمان كامل حقوق السوريين ومكوناتهم القومية والإثنية وضمان حرية العبادة لكل السوريين ودراسة كافة التجارب الميدانية التي حصلت خلال الأزمة السورية وتعميم نتائجها الايجابية وبشكل خاص تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية ومجالس الإدارة المحلية وتجرب المجتمع المدني .
o مواجهة قوى التدخل الخارجي وتحرير الأراضي السورية المحتلة .
4- إن وسيلة عمل الأطراف الشركاء هي التفاوض من أجل التوافق على الخطوات الضرورية وتنفيذها عبر آليات ومؤسسات مشتركة .
5- رفض أية تسوية سياسية على أساس عرقي أو طائفي أو مذهبي .
6- مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على كافة الأطراف الإقليمية والدولية التي تساهم في سفك الدم السوري وتأجيج الصراع واتخاذ كافة الإجراءات لسحب المقاتلين غير السويين ووقف كافة الأعمال الداعمة والممولة للإرهاب والمغذية للعنف .
الخطوات والملفات الملحة والعملية المطروحة على اجتماعنا للحوار حولها وإقرارها وتنفيذها :
1- وقف استهداف المدنين وخصوصا عمليات القنص والقصف المتعمد والعشوائي ( مثل البراميل ومدافع جنهم ) من أي جهة كانت وعدم استخدام المدنيين كدروع بشرية .
2- إطلاق سراح كافة معتقلي الرأي والناشطين السلميين وبالدرجة الأولى النساء والأطفال .
3- تحرير المخطوفين والأسرى وبالدرجة الأولى النساء والأطفال .
4- إدخال الغذاء والدواء إلى جميع المناطق السورية والالتزام بالقرار الدولي رقم 2139 لعام 2014
5- العمل الفوري على عودة اللاجئين والنازحين والمهجرين إلى موطنهم وتوفير ضمانات السلام والإغاثة من جانب المؤسسات والمنظمات الدولية المختصة .
6- تشكيل مجلس سوري أعلى لحقوق الإنسان وتمكينه وعدم إعاقته من التدخل المباشر في أي قضية انتهاك لحقوق الإنسان .
7- إلغاء احتكار الإعلام وفتح المجال الإعلامي لجميع السوريين وعدم تجريم أصحاب الرأي الآخر واعتقالهم ومحاكمتهم .
8- العمل على رفع العقوبات الاقتصادية التي تمس الشعب السوري وإنهاء الحصار الاقتصادي .
9- حل ملف الاعتقال القديم .
10- منح وتجديد جوازات للمواطنين السوريين وأفراد عائلاتهم .
11- من أجل تفعيل دور المجتمع المدني في مسارات الحل يجب :
o تفعيل دور المجتمع المدني كجهة تقوم بالتعبير عن أولويات ومصالح الشعب السوري وفي بناء السلام والرقابة على تنفيذلا الإتفاقات والشراكة في تنفيذ البرامج المتفق عليها .
o توسيع الفضاء الذي يستطيع المجتمع المدني العمل ضمنه في سوريا بأمان .
o أن تلتزم جميع الأطراف السورية والجهات الدولية بتنفيذ قرارات مجلس الأمن 1325 ، 1820 ، 1888 ، 1889 ، 1960 ، 1206 ، 2122 المتعلقة بشأن النسا في الصراعات المسلحة .
o العمل على ضمان مشاركة فاعلة للنساء في لجان الحوار والتفاوض والمشاركة في المسار الكامل للعملية السياسية ومخرجاتها وبنسبة لا تقل عن 50 % .
12- تثبيت آليات واضحة وتشكيل لجان مشتركة لإنجاز هذه الخطوات المشتركة.





بيان صحفي من المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية في سوريا
19/4/2015
تزداد الأوضاع الكارثية في سورية تدهوراً على كافة الأصعدة، على الصعيد الإنساني تستمر هجرة أبنائنا إلى الخارج هروباً من أعمال القتل والتدمير والاعتقال، وكذلك موجات النزوح المستمرة خوفاً من وحشية داعش وأخواتها، وخوفاً من التدمير الذي تلحقه عمليات القصف الجوي والمدفعي على المدن والمناطق السكنية، ليقع المتبقي من أبناء شعبنا في المناطق "الآمنة" فريسة للجوع والعوز الناتج عن الغلاء الفاحش المتصاعد والذي تسببه عمليات النهب المنظم للمافيا في جانبي الصراع.
وبعد أن عجز النظام عن الحسم العسكري انتقل إلى استجداء دول العالم لمناصرته في حربه على الإرهاب، في الوقت الذي يزداد تمدد خطر التطرف والعنف ليصل بعد السيطرة على إدلب وبصرى الشام ومعبر نصيب، إلى الحي الجنوبي في دمشق (مخيم اليرموك).
ولأن الهيئة تدرك بأن لا حسم عسكري للصراع، وأن محاربة الإرهاب لا يتم بواسطة القصف الجوي لقوات التحالف، ولا بادعاءات النظام واستعراضاته، وأنه لا بد من حل سياسي يعيد للشعب لحمته ويخلق المناخ المناسب لتضافر كافة القوى السياسية والمجتمعية للتصدي لهذا الخطر الظلامي، كما يؤمن دعم دول الإقليم والعالم لجهود الشعب المسؤول الأول عن محاربة الإرهاب على أرضه، لذلك حرصت الهيئة على عدم تضييع أي فرصة قد تساعد للوصول إلى حل سياسي و تحقق شيئاً لتخفيف معاناة الشعب السوري، كما عملت على توحيد جهود المعارضة بشكل جدي ومثابر بدءاً من اللقاء التمهيدي في القاهرة وما نتج عنه.
وفي الاجتماع الأخير للمكتب التنفيذي بتاريخ 14/4/2015 تدارس أعضاء المكتب الأوضاع وخلص إلى ما يلي:
1. يثني المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي على الجهود التي بذلها وفد الهيئة المشارك في منتدى موسكو 2 (6-9/4/2015) ويؤكد على الإيجابيات التي حصلت في هذا المنتدى ومنها ورقة التوافق التي أجمعت عليها جميع القوى والشخصيات المعارضة وممثلي منظمات المجتمع المدني المجتمعة في موسكو والتي أودعت لدى الحكومة الروسية عن طريق ميسّر اللقاء إضافة إلى النداء الموجه إلى السيد بان كيمون الأمين العام للأمم المتحدة الذي تطلب فيه العديد من القوى والشخصيات المعارضة الدعوة إلى مؤتمر جنيف على أساس بيان جنيف 1.
2. كما يرى المكتب التنفيذي عند مراجعته لمنتدى موسكو التشاوري الثاني بأنه لم يكن ناجحاً بسبب تعنت النظام ورفضه بحث إجراءات بناء الثقة والقضايا الإنسانية. وفي هذا الصدد يعتبر المكتب التنفيذي أن أي أوراق عدا المذكورة أعلاه في لقاء موسكو التشاوري الثاني تعتبر لاغية وكأنها لم تكن كما صرح بذلك المنسق العام للهيئة الأستاذ حسن عبد العظيم، وهنا يؤكد المكتب التنفيذي على أن مكان ونتائج التفاوض حول الأوضاع في سورية هو في جنيف 3 وعلى أساس بيان جنيف 1 وليس في أي مكان آخر."
3. الهدف من مؤتمر القاهرة هو توحيد رؤى وجهود أوسع طيف من المعارضة السورية المؤمنة بالحل السياسي التفاوضي والتغيير الديمقراطي الجذري والشامل وليس العمل لإنتاج جسم أو هيكل أو كيان سياسي جديد
4. وبالنظر إلى فكرة تجميد القتال في سوريا، يؤكد المكتب التنفيذي تأييده لجهود المبعوث الأممي الخاص لسورية السيد ديمستورا على صعيد تجميد الصراع في حلب على أن يشمل بقية المناطق وكذلك على صعيد دعوة المجتمع الدولي للإسراع بالدعوة لعودة العملية التفاوضية في جنيف 3.
إن هيئة التنسيق الوطنية تحذر من استمرار النظام في نهجه، التعطيلي لأية مساعي للتخفيف من معاناة السوريين والوصول إلى حل سياسي، والذي ابتدأه بتعطيل مبادرة الجامعة العربية مروراً بإفشال جنيف 2 وصولاً إلى إفشال موسكو 2، وما سينتج عن ذلك من فقدان الأمل بإمكانية الحل السياسي مما يمهد الطريق لتدخل عسكري خارجي يقضي على ما تبقى من بلدنا.
المكتب التنفيذي

‏فيسبوكيات:
بشار العيسى
"فصل من جحيم عدن"
يغادرني الصباح باكرا حاملا قلبي بين يديه،
انتبه! يا هذا، انه هش مثل دمعة لم تطفر بعد، من العين.
اتيه في شوراع ا"لدرباسية" ابحث عن مدخل لا أعرفه،
وعن صبية أجهل طول شعرها!
ابحث عن مزق خبز مرمية مع صرخة " كرّافي".
أدور في بقايا غبار قرميدي لفَّ المدينة، عن شقاوتي.
كأني "رامبو" في عباءته وعلى ظهري صناديق الذخيرة والقات المجفف.
لا لست "ارتيميو كروز" بل أشدّ بؤسا من رامبو العائد.
"فيكتور هيغو" الثائر يمشي في دهاليز باريس السفلية برفقة "شاتوبريان" الرجعي، وانا ابحث عن بيت له حبل غسيل.
صباح كهجرة السنونوات الراحلة.
لقد تهشّمت اعشاش "يشار كمال" واحدة واحدة والمدينة فارغة إلاّ مني، أين طريق المحطة؟
أووه هو منزل "نجمة قطة" وضحكة "موسى كرمو" وسلة "بافي موريس" لم تعد "عدن" مدينتي!
خائبا أبحث عن بوابة مفتوحة!
الكلّ حفاة يركضون في اتجاهات الرب، وانا وحدي مثل الديك المعدني على سطح المنزل المحترق.
أو أني " كلينت ايستوود " يلفظه غبار المدينة القرميدي.
-----------------------------------------------------------------------------------------------

الملف الماركسي:

ندوة نحو نهضة اليسار في العالم العربي- بيروت- بمناسبة صدور كتاب كريم مروة
June 10, 2012
arabmaoists maoism today
كلمة د. سناء أبو شقرا في تقديم المتحدثين
في ليل الأزمات ينحت كريم مروة مسارب للأمل وكوى” للحلم. انها لقدرة مذهلة على التفاؤل، يدفعها اجتهاد لا يتعب، وهمة شابة، مجنحة تتوسل حدود المعجزة – أقول المعجزة لأنني لا اؤمن بحدود للوهم .
لم يفارق مشروع تجديد اليسار، فكرا” وممارسة وتنظيما”، عقل كريم منذ كان أحد قادة هذا اليسار البارزين. كتب، وناضل، وثابر، محاولا” تقصي أسباب الفشل في مواجهة التحديات الجديدة دائما”. وها هو اليوم يضيىء، مع شمعة الثمانين، نجمة جديدة يضيفها الى كوكبة أعماله الفكرية.
لن أناقش في هذا التقديم السريع مضمون الكتاب وقضاياه. سيكون نقاش، ونأمل أن يساهم فيه كثيرون. هنا أكتفي فقط باشارتين:
الأولى هي أن تجديد اليسار أو بناء يسار جديد هما، بالنسبة لكريم، تعبيران عن معنى واحد في نهاية المطاف، حتى لو كان التعبير موضع جدل، وحتى لو كان الاختلاف يذهب أبعد من اللغة الأبجدية الى لغة الترميز الواسع. هو لا يحب أن يقطع بل ان يتجاوز، بالمعنى الجدلي الايجابي لفكرة التجاوز. ثم هناك امتلاء الذاكرة، وهناك الحنين الانساني، وهناك الأهم: التواضع. فتوليد الجديد أبوة تحمل تعسفا وادعاء بعيدين تماما” عن بنية كريم النفسية والذهنية. همه أن يحفز اليسار، قائما” أو آتيا” من الغد، لأن يكتشف في نفسه عناصر الحياة، والقدرة على ابداع نماذج اجتماعية وفكرية تستجيب لضرورات المواجهة في المرحلة الراهنة من تطور العالم والرأسمالية.
الثانية اشارة من بنية البحث: عندما يثقل المؤلف كتابه بنصوص مختارة من كلاسيكيات الفكر الماركسي – وهي بالمناسبة نصوص جميلة وحاضرة – فليس لأنه يقترحها مرجعية جديدة لمنظومة ايديولوجية ليسار ما، بل للتمثل بكون ماركس تعامل مع فكره – ودعا الآخرين لأن يفعلوا – ككتابة مفتوحة على الاحتمالات، ونقد مستمر من الفكر للفكر نفسه، حين يمتحن ذاته في تجارب الحياة.
أجمل وأرقى الأفكار لا تعدو كونها تأطيرا” باهتا” للحظات عابرة من الانساني، الحي، الباحث أبدا” عن العدالة والحرية في دروب التاريخ والمستقبل.
محاولات اصلاح كثيرة فشلت عبر التاريخ، لكنها تركت، كلها، معالم وبصمات. واذا كانت محاولات القرن العشرين التي أعلنت نفسها اشتراكية، قد قصرت عن أهدافها المعلنة، الا أن بصماتها على التاريخ كانت اكثر عمقا” وتأثيرا”، لأن منظومات القيم اكتسبت هذه المرة قدرة أعلى على التحقق عبر التصاقها المباشر والواعي بالصراع الاجتماعي،من جهة، وبارادة الناس في تقرير مصائرهم من جهة ثانية، بعيدا” عن اية قوى متعالية عن المجتمع، غامضة الأهداف، أو مجهولة الدوافع. مع ماركس الصراع بات مكشوفا” والتاريخ شفافا”.
ذلك هو كريم في كتابه الجديد. حامل القيم عينها التي تخاطب عقل ونضال الملايين من البشر للخروج من غابة الاستغلال، والتخلف، والجشع ، وشهوات السلطة الى مجتمع جدير باسم الانسانية
كلمة كريم مروة
اليسار في عالمنا العربي وفي العالم يعاني من أزمة، أزمة عميقة بالتأكيد. هذا أمر لا جدال فيه. لكن الأزمة في هذه المسألة بالذات لا تلغي الضرورة. وأنا من المؤمنين بأن اليسار اليوم، وغداً، وفي أزمنة قادمة، هو حاجة موضوعية لبلداننا ولجميع بلدان العالم. وفي يقيني، استناداً إلى تجربتي الطويلة في العمل السياسي باسم اليسار في صيغته الإشتراكية، وفي ضوء ما تقدمه لنا وقائع العصر حتى قبل الأزمة المالية الحالية للرأسمال امعولم، هو أن العالم المعاصر المليء بالفوضى وبالتناقضات، والحافل، على وجه الخصوص، بكل أنواع القهر والظلم والإستبداد والظلام والظلامية، الموجهة جميعها ضد الإنسان الفرد وضد الإنسان الجماعة، هذا العالم لا يمكن أن تستقيم فيه الحياة من دون دور كبير وفعال لليسار. لكن اليسار الذي أدعو إلى النهوض به هو يسار جديد، يسار ينتمي واقعياً إلى العصر وإلى تحولاته في الإيجابي منها وفي السلبي. وهو يسار يفترض به أن يمتلك القدرة على مراجعة تاريخ حركة اليسار القديمة بنماذجها المختلفة، ليعرف الخلل فيها الذي أدى إلى انهيار تجربتها ووقوعها في أزمتها العميقة الراهنة. لكن للمراجعة وظيفة أساسية يتمثل القسم الأول منها برؤية الإيجابي والصحيح في التجربة فكراً ومشروعاً كبيراً للتغيير، ويتمثل القسم الآخر منها بالتحرر من ذلك الخلل، قبل كل شيء، التحرر منه بكل أنواعه وأشكاله ومصادره، وسلوك الطريق إلى مستقبل جديد مختلف. ومن بديهيات الأمور أن حركة التاريخ هي في تواصل دائم من دون انقطاع. وهي تمر في مراحل وحقبات، فيها تقدم وفيها تراجعاً. لكن التقدم مقروناً بالحرية هو الوجهة الدائمة لهذه الحركة. ومن بديهيات الأمور أيضاً أن لكل مرحلة ولكل حقبة في التاريخ خصوصياتها وشروطها، ولها أفكارها، ولها قواها في جبهتي التناقض الأساسية. الوقائع تتغير في اتجاهات وفي شروط مختلفة. والناس يتغيرون. تتغير مواقعهم ارتقاءاً واتساعاً، تقدماً وتراجعاً. وذلك في عملية لا نهاية لها. والجديد إنما يولد دائماً من القديم. لكنه يتخذ له بعد الولادة شخصيته المستقلة، من دون أن يفقد صلة الوصل والقربى بالقديم الذي يولد منه.
ثمة ظاهرة خطيرة يشهدها عالمنا المعاصر، تحدث عن مثيل لها كارل ماركس منذ ما يزيد عن قرن ونصف القرن. تتمثل هذه الظاهرة بالتناقض المذهل بين التقدم الهائل للعلوم وللمعارف وللتقنيات وللإتصالات، وهي إنجازات كبرى يصنعها البشر، وبين الإستخدام المفرط في السوء لهذه الإنجازات من قبل البشر ذاتهم الذين يصنعونها، الأمر الذي يعبر عن تدن خطير في مستوى وعيهم. وإذا كان عتاة الرأسمال المعولم المتوحش هم الأصل في هذ الإستخدام السيء للمنجزات الكبرى فإن لهم شركاء من القوى الظلامية، التي تمارس القتل العبثي لناس باسم الدفاع المزيف عن حقوقهم. والإستبداد في بلداننا، بصيغه المختلفة، هو شريك حقيقي لأولئك الذين يمارسون القهر والظلم والإستعباد للبشر، الإستبداد بأسمائه وصيغه وطرائق حكمه المختلفة.
إن أهمية اليسار الجديد، بمكوناته المختلفة، الذي ينتمي إلى لاعصر، أهميته الأساسية، إنما تكمن في قدرته على امتلاك الإرادة والجرأة لمواجهة واقعية وعقلانية لهذه الظاهرة المشار إليها، وذلك دفاعاً عن الحياة بعامة، ودفاعاً عن الإنسان، بالمفرد وبالجمع، من خلال الربط الدائم والواقعي بين الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية.
إن محاولتي في كتابي الجديد الذي يتمحور هذا اللقاء حوله وحول موضوعه إنما هي استممرار لمحاولاتي التي لن أدع اليأس يحد من استمراري فيها، برغم الثمانين من العمر. فالأعوام التي تجاوزت الستين من انتمائي إلى الإشتراكية لم تزدني إلا صلابة وتفاؤلاً. لكن تفاؤلي هذا، لا سيما في هذه المرحلة المتقدمة من العمر، ليس تفاؤلاً ساذجاً. إنه تفاؤل مبني على الواقعية في قراءة الأحداث ووقائعها، ومبني على معرفة الشروط التاريخية التي تتم وتتكون فيها هذه الأحداث والوقائع. وهو تفاؤل مبني في الوقت عينه على الحلم بمستقبل جميل لشعوبنا ولشعوب العالم، الحلم من دون أوهام. والحلم هو ضرورة الحياة. وقد بدأت شبابي حالماً بالمستقبل. وما زلت، برغم الثمانين، أعيش بين الواقع القائم والحلم بتغييره في اتجاه الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية لإنسان بلادي، بالمفرد وبالجمع.
ليس لديّ ما أقوله أمامكم أكثر من هذ ه الكلمات. فكتابي هذا يعبر بصدق عن أفكاري. وهو، بالنسبة إليّ، قد خرج من مملكتي وصار ملكاً لأهل اليسار. والأفكار فيه والآراء والتصورات حول المستقبل هي مطروحة للنقاش.
وإني لسعيد بهذا الإهتمام الذي لقيه الكتاب، بصفته حامل دعوة إلى النهوض من جديد باليسار في العالم العربي، والعمل على تجديده. وسأكون أكثر سعادة عندما تتحول الدعوة إلى نهضة جديدة لليسار في العالم العربي إلى عمل حقيقي قائم على تجديد هذا اليسار بمكوناته المختلفة، اليسار ذو القاعدة الإجتماعية والسياسية والفكرية والإنسانية الواسعة التي تجعل منه ، عندما يتأسس من جديد، قوة كبيرة قادرة على إحداث التغيير.
كلمة د. الطاهر لبيب
اليسار العربي: ملابسات النقد الذاتي

يجمعنا، اليوم، حول كريم مروّة، كتابُه عن نهضة جديدة لليسار العربي، كتَبه ? “اشتراكي مخضرم، من موقعه المستقِل راهنا”، على حد تعبيره. في الكتاب معرفةٌ وتجربة ومشروع تغيير، باسم اليسار، وفيه، فوق كل هذا، هدوءٌ مستفِزّ بعدم استفزازه: فأنت لا تصل إلى رأي قد تخالفه فيه إلاّ وقد هدّأتْ من رأيك مفاهيمُ العقلانيّة والموضوعيّة والنسبيّة وما جرى مجراها… في الكتاب، إذاً، حِنكة وحكمة. ومهما يكن، فمزيّة الكتاب الأولى هي في سعة ما يتّسع له النقاش. وممّا يتسع له، ضِمناً، إذ تحاشى الخوضَ فيه، قديمُ اليسار الذي ساد نقدهُ ونقده الذاتي، باسم الجديد أو من دون جديد. ملاحظاتي هي، إذاً، في اتجاه ماضٍ، من الظلم أن يتخلّى عنه حاضرٌ ليس هو، بالضرورة، أفضلَ منه.
***
إن كان لليسار أن يعرَّف فالتجاوز من أكثر الكلمات شمولاً وكثافة. لها مُلحقاتها، طبعاً: أن تكون الحركة تقدّماً وأن لا تحمل وعياً زائفاً، وأن تكون غير ذلك مما ألِفت قولَه نُصوصُ اليسار. وإذا ذهبنا بالاستعارة بعيداً، قُلنا، على وجه الكناية: إذا كان في الواقع القائم “جنّةٌ” فوجهة اليسار جنّةٌ أفضل. وللجنّة الفضلى أسماءٌ كثيرة وسبلٌ متوازية أو متقاطعة، أكثرها جذباً وسراباً تسمَّى إيتيوبيا. ويبدو – وهذه مفارقة – أن سبلاً ومسارب كثيرة امًّحتْ، وبقيت الايتوبيا يترجرج سرابها، صوراً وحنيناً. السبب، في ما أرى، أن للإيتوبيا، وللسراب أيضاً، وجهاً تراجيديّاً لم تُمحَ ملامحُه، منذ بداية الأساطير. من هذه الملامح ما يوحي ? “البطولة الإشكاليّة”، كما رآها لوكاتش: بطولةِ من يصرّ على مواجهة المستحيل، وهو يعلم أنه مستحيل. لنختم التعريف، إذاً، بأن التجاوز قد يكون نحو المستحيل: مستحيلِ اللحظة، إذ لا مستحيلَ، تاريخيّاً، في المطلق.
اليسار العربي الذي كان، هذا الذي نصرّفه في الماضي حديثُ عهدٍ، ولحظته قصيرة. قد يعود به بعض العرب إلى أوائل أجدادهم، ولكنّ المواربة، مهما كانت حيلتُها، يصاحبها شؤم اليسار في حقول الدلالات القديمة: إنه شؤم الخروج من وعلى، شؤم الفتنة، وقبل ذلك شؤم من أُوتيَ الكتابَ بشِماله. شِمال الجزيرة نفسُه بحرٌ وهلاك.
معلومٌ ما تناثر وتباعد، عبر العصور، من بؤر التنوير والاحتجاج، ولكنّ اليسار العربي، في اصطلاح اليوم، لا امتداد له في التاريخ. قد تكون ارهاصاته في ما تداخل بين النهضة والاستعمار، ولكنّ الدفع كان بعد النّكبة والقوّةَ بعد النكسة أو الهزيمة: 67 منعطفٌ حاسم. استخلاصٌ أوّل: نشأ اليسار العربي من أزمة، وأزمة النشوء هذه تحوّلت سريعاً، خلال عقدين على الأكثر، إلى أزمة وجود. هذا هو عُمر اليسار العربي الذي يُنتقد ويُنتقد ذاتياً.
قد يتهوّر البعض في المقارنة بيساراتٍ أخرى. لنتّخذ مثلاً يسار فرنسا: وراءه “الأنوار”، وهو ابن الثورة الفرنسية (التي أكلت منه ما أكلت). بدأ توبوغرافيّاً: عنى اليسارُ، أوّلَ ما عنى، جلوسَ الليبيراليين أو “الحرّيين” يسار المجلس، في حين جلس المحافظون جهة اليمين. وكان لا بد من مرور قرن من الزّمن، تقريباً، قبل أن تتحوّل المقابلةُ إلى يمين ويسار، أي أن يكتسب اليسار معناه المتداول اليوم. هذا المدى الزمني أتاح للفكر أن ينبني وأن يتراكم، وللحركات أن تمتد وأن تتصارع، ولمستويات الواقع أن تتمفصل.
لا مقارنة إذاً: فلا عمر اليسار العربي امتدّ إلى توالي مراحله وتراكم تجاربه ولا الزمن الاجتماعي العربي اتّسع لنضج حركته. استخلاصٌ ثانٍ قد يكون ضدّ التيار الغالب: ما انجزه اليسار العربي، في حدود العمر الذي افتكّه من قبضة الزمن العربي كان أرقى ما وصل إليه الفكر والفكر السياسي العربي في تاريخه الحديث والمعاصر. هذا الانجاز الكثيف، المضغوطُ في ضيق العمر والزمن ليس أقلّ قيمةً ولا أثراً مما أنجز آخرون، في ظروف أخرى.
لهذا يبدو غريباً تنكيلُ بعض اليسار العربي بماضيهم، ويبدو أغربَ منه اعتذارُهم عن وعي سابق: وعيِ مرحلةٍ بنى البعض فيها البدائلَ وناضلوا واضطُهدوا وقُتلوا من أجلها. ممَّ يعتذرون؟ من واقعٍ لم يتحمّلهم؟ من جدليّةٍ زيّفها أن اليمين كان أجهزةً لا فكر لها يجادله اليسار فيه؟ يقول بعض اليسار الناقدِ ذاتَه إنه لم يفهم الواقع الموضوعي: هذا صحيح، ولكن هل ساد في مرحلته، في الكون كلّه، غيرُ ما كان له من آليات الفهم والتحليل والتفسير؟
ما حدود النقد الذاتي إن لم تكن حدودَ المرحلة؟ أن تبنيَ جديداً أو أن تعيد بناءً أو أن تستخلص الدروس، كما يقال، فهذا من صلب التجاوز، من تعريف اليسار، لكنّه ليس فرصةً للاعتذار عن لحظةٍ مؤسِّسةٍ كان فيها الجهد والإصرار وكان لها، ككلّ لحظةٍ، أخطاؤها. اختصاراً، ليس المطلوب تطهيرَ لحظةٍ ماضية وإنما المطلوب الدفاع عن استثنائيّتها وعما بذل جيلها من أجلها.
للنقد الذاتي، إذا، حدود مرحلته، وله أيضاً حدود شرعيته: هناك من تغيّرت أفكاره ومواقعه، متحرّكاً داخل اليسار، وهذا ملمح حياةٍ وتطوّر، ولكنّ كُثراً من قدامى اليسار نقدوا يسارَهم من مواقع لم تعد لها صلة باليسار ولا بتخومه. النقد، في هذه الحالة، تبريرٌ للانزياح ولتغيير الموقع. وهو لذلك لا يُقنع، وقلّما يرتقي إلى ما ينتقده من فكر وتجربة.
ماذا بقي من اليسار العربي؟ لا ندري، على وجه الدقّة. ما نعلمه أن قلّة متحركة أو ثابتة حيث كانت، لا يزال التجاوزُ حاملَ فكرها وحاملَ بدائلها ومواجهاتها. ما نعلمه أيضاً أن أغلب من ساروا باليسار أو سار بهم غيّروا مساراتهم إلى ضفاف أخرى. توزّعوا في فضاءات أوسعُها ثلاثة: السياسةُ التي لها قدرة الاحتواء بالإغراء، استيعاب الخبرةِ مسلوبةً من فكرها، والدينُ الذي عرف هجرةً إليه، هجرةً بلا عودة، طلباً للغفران، ثم الإعلامُ الذي يجيد صنعَ مثقفين عابرين في ثقافة عابرة.
الحيرة هنا والآن، لا في أمرِ ما مضى. لِيجبْ قدامى اليسار عن سؤال أوّل: أين كانوا وأين أصبحوا؟ وعن أسئلة أخرى، منها: هل، حقّاً، أخذتهم حيويّةُ الفكر إلى حيث هم أم أخذتهم رياح أخرى؟ في الإجابة، مهما كانت وكانت ذرائعُها، ما يجعل من نقد اليسار لحاضره ضرورةً أخلاقية. الماضي أنجز وخاب ظنُّه ومضى.
نعم، لا نعرف، على وجه الدقّة، ما بقي من اليسار العربي. هذا إذا نُظر إليه، كما هي العادة، من منظور الفكر السياسي والتجربة السياسيّة. أما إذا نُظر إليه من منظور فكري أو معرفي فما ظهر منه، في لحظته، وما بقي منه، واسع التأثير إلى اليوم. بعضه لم يكن مسبوقاً، في إبداعه، وبعضه لم يأت، بعدَه، ما يرتقي إليه. لِنتذكّر، من الستينيات وأوائل السبعينيات، نصوصاً مؤسِّسةً في الشعر والرواية، وأعمالاً كبرى في المسرح والسينما، وفي الموسيقى والفن التشكيلي، وكذلك في البحث والتحليل. إنها، إلى اليوم، معالمُ كبرى، وهي ما كان لها أن تكون لولا حركة اليسار وما ارتبط بها من طلائعيّة عالميّة وعربيّة. لا يعني هذا أن كلَّ من أبدع في مرحلة اليسار كان منه، ولكنه يعني أن تلك المرحلة كانت محفّزةً ليسارها ولغيره.
مثقفو تلك المرحلة، شئنا أم أبينا، هم كبار مثقفي العرب في تاريخ الفكر العربي المعاصر: لقد أبدعوا في صياغة أحلامٍ لم يستفق واقعُ العرب لتحقيقها. لقد تراجعت المرجعيات الفكرية الكبرى وتراجعت معها الحركات التغييريّة والاحتجاجيّة، ولكنها تركت خيوطاً لها في النسيج الفكري، في التمثّلات وفي اللّغة، بعضها امتدّ إلى وريثٍ غير شرعي، إلى الخطاب الرسمي العربي.
لقد أردت ردّ اعتبارٍ إلى جيل يسهل نقدُه على مقاعد الورشة الجديدة. أما المستقبل فله مستشرفوه، ولا قدرةَ لي على المجازفة فيه.
----------------------------
الحاجة إلى يسار عربي جديد وإلى برنامج واقعي وراهن للتغيير
June 10, 2012
arabmaoists maoism today
كريم مروة
أثار كتابي “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي” الصادر عن دار الساقي في بيروت نقاشات واسعة من قبل عدد من مثقفي اليسار العربي من لبنان ومصر وفلسطين وتونس وسوريا والعراق (37 مثقفاً). جمع هذه النقاشات مركز البحوث العربية الأفريقية في كتاب صدر عن مكتبة جزيرة الورد في القاهرة بعنوان “حوارات مع أطروحات كريم مروة نحو نهوض جديد لليسار في العالم العربي”. وتضمن الكتاب تعقيباً مسهباً من قبلي على تلك النقاشات. وأقدم هنا مقتطفات من هذا التعقيب.
يهمني، وأنا أدخل في النقاش مع أصدقائي من المثقفين اليساريين العرب حول مواقفه من أفكاري التي تضمنها كتابي بأنني حرصت على التأكيد في الكتاب بأن ما قدمته من أفكار حول نهضة اليسار العربي هو محاولة، مجرد محاولة، لا أجزم فيها بأمر، ولا أعطي لنفسي صفة الحكم أو ما يشبه ذلك. وهي محاولة أستند فيها إلى تجربتي الطويلة في مواقع مسؤولة لمدة زمنية طويلة داخل أطر اليسار في بلدي لبنان وفي علاقتي المتعددة صيغها وأشكالها ومناسباتها مع اليسار العربي والعالمي. وأستند فيها أيضاً إلى طموحي في أن أرى يسار بلداننا قد جدد أفكاره وبرامجه وصيغ عمله، واستعاد عافيته ودوره، قبل أن أغادر الحياة بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر. وقد تناولت النقاشات جملة من القضايا البالغة الأهمية، قضايا ذات صلة وثيقة بواقع بلداننا وبالدور المفترض لليسار في التصدي لها.
لنبدأ بالقضية الأولى. وهي تتعلق بالمراجعة النقدية وبشروطها، وتتعلق بدوري فيها وبموقفي منها، كما تشير إلى ذلك النقاشات. وفي الواقع فإن لهذه المراجعة النقدية جانبين يكمل أحدهما الآخر. فهي تتطلب بالضرورة من أهل اليسار في بلداننا، وهو الأمر الذي يعنيني ويعني أصدقائي اليساريين العرب، أن يرتبط فيها الجانب المتعلق بالتجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي وفي المنظومة العالمية التي حملت اسم الاشتراكية بالجانب المتعلق بتجربة اليسار بتياراته المختلفة في الأحزاب خارج السلطة، سواء بالإرتباط العضوي لتلك الأحزاب بالتجربة بنموذجيها السوفياتي والصيني، أم بالاختلاف والتمايز عن تلك التجربة
بنسب متفاوتة. لذلك فإنني أتفق مع الذين أشاروا إلى ضرورة الربط بين هذين الجانبين في المراجعة النقدية. وفي التعقيب على الملاحظة التي تقول ان كتابي قد خلا من النقد والنقد الذاتي، أود أن ألفت نظر الأصدقاء إلى أن القسم الأول من الكتاب يتضمن جزءاً من هذا النقد بشقيه، لكنه نقد مجتزء وغير كاف وغير مقنع، وأعترف بذلك. إلا أن المفارقة في هذا الأمر هو أن عدداً من الأصدقاء ممن ساهموا في نقاش الكتاب رأوا، بخلاف أصدقاء آخرين، أنني أكثرت من النقد والنقد الذاتي إلى حدود المبالغة في جلد الذات. وذكرني هؤلاء الأصدقاء بالإنجازات الإجتماعية التي تحققت في التجربة الاشتراكية، ذكروني بالرموز الكبيرة التي برزت باسمها في بلداننا وفي العالم، في الآداب وفي الفنون وفي الفكر وفي العلوم، وتركت بصماتها على عصر بكامله. وإذ أقدر هذه الملاحظة بالذات وأتفق مع الذين أطلقوها، وأعترف بالنقص في كتابي حول هذا الموضوع، فإنني أخشى، بالمقابل، من أن تؤدي المبالغة في الحديث عن المنجزات إلى تغييب الخلل الذي رافق التجربة وإخفاء الأخطاء التي تراكمت وقادت التجربة ذاتها إلى الانهيار بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها.
مفهوم اليسار وهويته
يتمحور النقاش في القضية الثانية حول مفهوم اليسار وحول هويته. وهي القضية الأهم في كل النقاشات. ذلك أن ثمة اختلافاً كبيراً داخل قوى اليسار حول مفهوم اليسار ذاته وحول أفكاره وحول تحديد هويته وحول المهمات الراهنة المطروحة أمامه وحول قاعدته الإجتماعية الجديدة. وفي الواقع فإن هذا المحور الذي يشكل الأساس في كتابي والأساس في النقاشات هو موضوع صعب وشائك. لذلك فإنني لا أعترض على وصف محاولتي في تحديد مفهوم اليسار وفي البحث عن نهضته بالارتباك، ولا أعترض على وصفي بالإنسان القلق والمقلق. فالإنسان القلق هو إنسان حقيقي، كما وصفه أحد الأصدقاء، إنسان يبحث ويفتش ويجرب، ولا يتعب ولا ييأس ولا يغرق في الأوهام. لذلك فإنني أعترف بأنني قلق ومرتبك ومهموم ومنهمك في البحث في مستقبل يسارنا العربي وفي الدور المفترض له في تحقيق التغيير المنشود في بلداننا. وإذا كان بعض الأصدقاء قد اتهمني بأنني غيّبت في تحديدي لليسار دور الطبقة العاملة باعتبارها حصراً حاملة مشروع التغيير، وأنني، في تحديدي للقاعدة الإجتماعية لليسار المعاصر، غيبت الطابع الطبقي لليسار وغيبت الصراع الطبقي، وهي تهمة غير دقيقة، فإنني أتساءل، وأرجو ألا أكون متعسفاً، هل أخذ أصدقائي في الإعتبار في تحديدهم لليسار ولدور الطبقة العاملة المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم المعاصر بعد مرور مائة وخمسين عاماً على وفاة ماركس، وبعد مرور المدة الزمنية ذاتها على أفكاره ومفاهيمه وعلى تحديداته لأقطاب الصراع في المجتمعات المعاصرة؟ لن أدخل هنا في النقاش حول الجديد الهائل الذي أدخلته العلوم والتقنيات على عملية الإنتاج وعلى القوى ذات الدور الحاسم فيها، والجديد غير المسبوق الذي أدخلته تلك التطورات على المجتمعات وعلى طبيعة ونوع الصراعات داخلها، ليس فقط بين المالكين لوسائل الإنتاج والعاملين بالأجر، بل كذلك داخل تلك الفئات الإجتماعية ذاتها في مواقعها المختلفة، أعني فئات المالكين وغير المالكين على حد سواء. ذلك أن الإكثار من الحديث عن الطبقة العاملة وعن دورها وعن الصراع الطبقي، من دون تحديد للمفهوم المعاصر للطبقة، ومن دون رؤية موضوعية للمتغيرات التي شهدتها الطبقات والفئات الإجتماعية في كل المواقع، لا يقدم معرفة بالواقع القائم في بلداننا، ولا يقدم معرفة بالواقع القائم في العالم المعاصر. ولست أرمي من هذه الإشارة إلى المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم خلال القرن ونصف القرن من عمر الزمن إلى تغييب دور الطبقة العاملة في النضال باسم اليسار من أجل التغيير، استكمالاً لمشروع ماركس. كلا قطعاً. لكنني أريد أن أشير إلى أن مفهوم الطبقة ذاته قد أصبح بحاجة إلى تحديد جديد أكثر دقة وأكثر صلة بالواقع المعاصر. وأزعم، في ضوء قراءتي لوقائع العصر وللمتغيرات التي أحدثتها فيه العلوم والتقنيات، أن الطبقة العاملة في المفهوم الماركسي القديم لها لم تعد بالدقة ذاتها وبالدور ذاته اللذين كنا نتصورهما ونقتنع بهما في أدبياتنا القديمة، لم تعد هي وحدها وبالحصر حاملة مشروع التغيير الذي يسعى اليسار المعاصر إلى تحقيقه في بلداننا وفي سائر البلدان، وفق الظروف الخاصة بكل بلد منها. فالوقائع المعاصرة باتت تشير بكثير من الوضوح إلى أن القاعدة الاجتماعية التي تعاني من الظلم ومن الإستغلال، والتي تنشد التغيير بصفتها صاحبة المصلحة فيه، قد اتسـعت موضوعياً وتنوعت وتعددت فئاتها. وضاقت، بالمقابل، قاعدة القوى المهيمنة التي يستهدفها التغيير ويستهدف مواقعها. وبلغ الإستقطاب ذروته الكبرى. إن ما تقدم يقودني إلى القول بأن الطبقة العاملة بالمفهوم الماركسي القديم، أي طبقة العاملين بالأجر في المصانع والمعامل وفي المؤسسات الإنتاجية على اختلافها، قد تقلص دورها بفعل تقلص عددها، وكثر، بفعل ذلك، عدد العاطلين عن العمل، وعدد الفئات المهمشة. وكبر، بالمقابل، جيش القوى الإجتماعية المناهضة للرأسمال المعولم، والساعية لإحداث التغيير في اتجاه العدالة الإجتماعية، على قاعدة مشروع ماركس معدلاً لكي يكون أكثر تطابقاً مع شروط العصر. بهذا المعنى فإن الصراع الطبقي لم يعد هو ذاته بالدقة كما جاء في تحديد ماركس له، أي بين الطبقة العاملة بمفهومها القديم والطبقة البرجوازية بمفهومها القديم أيضاً. بل هو اتخذ له معنى أوسع وأشمل ليصبح صراعاً بين هذه الكتلة الاجتماعية المتعاظمة من الذين يقع عليهم الظلم الإجتماعي وبين أقطاب العولمة الرأسمالية الذين يستأثرون بالقسم الأعظم من الثروة، ويتحكمون بمصائر شعوب الأرض. أقول ذلك باقتناع متزايد عندي، من دون أن أدعي امتلاك الحقيقة فيما أقول. وما أقوله هو محاولة مني في فهم المتغيرات التي يشهدها العالم المعاصر على جميع الصعد، بما في ذلك في تحديد مفهوم اليسار وفي تحديد هويته وفي تحديد قاعدته الاجتماعية وفي تحديد مهماته، وفي تحديد دوره في عملية التغيير. لذلك فإن التهمة التي وجهت إليّ بصيغ مختلفة حول تحديد مفهومي لليسار، ومن ضمنها تهمة الليبرالية، فهي لا تشكل، بالنسبة إليّ، مادة للنقاش الحقيقي حول جوهر ما طرحته من أفكار تتصل بتحديد وتجديد مفهوم اليسار المعاصر. وقد تولد لديّ إحساس، أرجو أن أكون مخطئاً فيه، بأن كثيرين من أهل اليسار في بلداننا لا يدركون بالوعي الضروري أنهم هم ويسارهم يعيشون في أزمة كيانية بكل المعاني، وأنهم معنيون، من موقع مسؤولياتهم ومن الموقع الذين هم فيه، ببذل الجهد النظري والعملي لقراءة ما جرى من انهيارات وما يجري من تحولات في العالم المعاصر وما هو قائم في بلدانهم من كوارث. وتشكل هذه القراءة الشرط الضروري لسلوك الطريق الواقعي الذي يقودهم، في شروط العصر بالتحديد وليس خارج هذه الشروط، إلى الخروج من أزمتهم وإلى الإسهام في تحقيق التغيير الذي تنشده شعوبهم في نضالاتها القديمة وفي ثوراتها المعاصرة.
المهمات
يقودني هذا الحديث على مفهوم اليسار إلى الحديث في المحور الخاص بالمهمات التي تواجه اليسار في بلداننا في هذه الحقبة التاريخية التي نعيش فيها. وهي القضية الثالثة. وفي الواقع فإن النقاش حول مفهوم اليسار من دون تحديد المهمات التي يفترض بها أن تكون مهماته تحديداً، المهمات ذات الصلة بالزمان وبالمكان المحددين، هو نقاش غير واقعي. إذ لا توجد مهمات عامة غير محددة بالزمان وبالمكان، بالنسبة إلى أية قوى سياسية واجتماعية، وبالأخص بالنسبة إلى اليسار الذي تمتلئ أدبياته بالحديث عن المرحلية وعن المراحل في النضال من أجل التغيير. على أن اليسار، في محاولتي لتحديده ولتحديد هويته ولتحديد انتمائي القديم والحديث إليه، هو الذي يفترض به أن يحمل في مشروعه المهمات الأساسية المباشرة والبعيدة المدى، للوطن وللشعب اللذين ينتمي إليهما. لذلك فإنني، حين حددت في كتابي عشرين مهمة مباشرة ملموسة كمهمات راهنة لليسار في بلداننا، بمعزل عن الترتيب لها حسب الأولويات، إنما انطلقت أولاً من الواقع القائم في بلداننا الذي استوحيت منه هذه المهمات، وانطلقت ثانياً من تحديدي لدور اليسار في تحقيق هذه المهمات، وانطلقت ثالثاً من أن مشروع اليسار للتغيير الذي يحدد هويته إنما يبدأ واقعياً من المهمات الملموسة الراهنة التي يفتح تحقيقها الطريق إلى المستقبل. وتتمحور النقاط العشرون في كتابي كمهمات لليسار المعاصر حول ما اعتبرته بالمصالح الأساسية للمجتمع برمته، بدءاً بإصلاح الدولة لكي تصبح دولة حق وقانون ومواطنة وحقوق إنسان وعدالة اجتماعية، في نظام ديمقراطي حديث متحرر من كل مظاهر الاستبداد التي تسود في بلداننا منذ ما يقرب من نصف قرن. وانطلاقاً من التغيير في الدولة وفي النظام وفي طبيعتهما وفي وظائفهما، طاولت النقاط العشرون كل ما يتصل بمصالح المجتمع بكل فئاته تحقيقاً للعدالة الاجتماعية التي لا تتحقق إلا بثلاثة شروط أساسية : التقدم الاقتصادي في ميادينه كلها، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والحرية بجوانبها المتعددة، التي تؤمن للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة حقوقه وكرامته والشروط الضرورية للتعبير عن ذاته. واستناداً إلى هذه النقاط البرنامجية التي اقترحتها لليسار في بلداننا، حرصت على التأكيد بضرورة تجنب القفز فوق المراحل، أي القفز فوق الواقع، وتجنب الوقوع في أسر الأوهام والبقاء في حالة الحنين إلى الماضي الذي مضى. واستناداً إلى تجربتي الشخصية في اليسار التي استحوذت على عمري كله، أستطيع القول اننا، في الحزب الشيوعي اللبناني على سبيل المثال، قد أصبنا وأخطأنا. وكان جزء مما أصبنا فيه مجيداً. وكان جزء مما أخطأنا فيه فادحاً. لكن المهم، فيما نحن بصدده، هو أن المهمات المباشرة في اللحظة التاريخية المحددة الموضوعة أمام أهل اليسار هي التي تحدد القاعدة الإجتماعية لهذا اليسار. وهي التي تعطيه مفهومه المعاصر. وهي التي تعطيه دوره وموقعه كيسار في كل ما يتصل بقضايا الوطن والشعب. ولا أرى، في ما يتعلق بي كيساري مخضرم، أي ضرورة راهنة لتحديد قاطع للهوية الفكرية لليسار، إلا بالمعنى العام الذي تعبّر عنه القيم والمثل الإنسانية التي حملتها وبشرت بها الإشتراكية. إذ ان علينا أن نقر كيساريين، من دون خوف على موقعنا وعلى درونا، بأن بعض اللحظات التاريخية تخلق في صورة مؤقتة وعابرة أساساً موضوعياً لتقاطع ما في المصالح بين أهل اليسار وبين أهل اليمين في العمل لتحقيق مهمات معينة. ولا أعني هنا باليمين السلطات بالضرورة. بل أعني بالتحديد القوى السياسية والإجتماعية في البلد المعين من ذوي الإتجاهات الليبرالية المستنيرة منها على وجه الخصوص.
الدولة
هنا بالذات يأتي الحديث عن الدولة. وهي القضية الرابعة. وفي الواقع فقد استغربت كيف أن بعض الأصدقاء قد عاب عليّ وضع مهمة بناء الدولة الحديثة كمهمة أولى بين مهمات اليسار. وأعترف بأنني لم أفهم ماذا يريد المنتقدون اليساريون قوله بصدد الدولة. ففي معرفتي المتواضعة التي أغنتها تجربتي الحزبية، وعززتها قراءاتي التي لم تنقطع لكتابات ماركس ولكلاسيكيي الماركسية التي تحدثت عن الدولة في المجتمعات البشرية، لا سيما في ظل الرأسمالية، كان نضال أحزابنا يتجه ويسعى دائماً نحو استحداث قوانين جديدة بديلاً من قوانين رجعية قائمة، قوانين ديموقراطية تخدم مصالح المجتمع بعامة، وتخدم مصالح الفئات الكادحة على وجه التحديد. أي اننا كنا نضع أمامنا مهمة إحداث تعديلات ضرورية في وظائف الدولة وفي وظائف مؤسساتها لكي تكون أكثر عدلاً وأكثر احتراماً لحقوق ومصالح الفئات الفقيرة على وجه الخصوص، أي دولة حق وقانون وعدالة إجتماعية. وكنا نعلم أن استحداث تلك القوانين الديمقراطية الجديدة لا يغيّر في الطبيعة الطبقية للدولة. وكنا نعلم بالمقابل أن هذه الدولة ذاتها، دولة طبقة الرأسماليين التي تدافع عن مصالحهم، إنما تتخذ، في حدود معينة وبالنضال، بفعل وظيفتها العامة كناظم للمجتمع، صفة استقلال نسبي عن الطبقة التي تمثل مصالحها في السلطة. والكلام عن الاستقلالية النسبية للدولة في المجتمعات الطبقية هو لماركس بالذات. وإذا كان الأمر كذلك فإن مهمة تحديث الدولة وتحديث قوانينها والعمل على تحريرها من أنماط الاستبداد والظلم والاستغلال هي مهمة ذات أولوية بالنسبة إلى أهل اليسار قبل سواهم من القوى السياسية في بلداننا. وإلا فما هو المطلوب؟ هل المطلوب أن يضع اليسار أمامه مهمة إقامة دولة بروليتارية باسم الاشتراكية فوراً، ورفض الدولة الرأسمالية القائمة، ورفض التعامل معها، بانتظار قيام هذه الدولة البروليتارية؟ ! وأحيل أصدقائي في هذا السياق من الحديث عن الدولة وعن دورها وعن التغيير في أدائها وفي وظائفها، إلى تلك الثورات التي تجتاح العالم العربي من أقصاه |إلى أقصاه المطالبة بالتغيير، تغيير الأنظمة الاستبدادية القائمة، واستبدالها بأنظمة ديموقراطية يكون فيها للدولة المدنية ذلك الدور وتلك الوظيفة اللذان يخدمان مصالح الوطن ومصالح الشعب في آن، وتحترم فيهما وتصان الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان.
المشترك بين البلدان العربية
يقودني الحديث عن الدولة إلى المحور الخاص عما هو مشترك بين البلدان العربية. وهي القضية الخامسة. فقد أثار عنوان الكتاب تساؤلاً عند بعض الأصدقاء في صيغة “اليسار في العالم العربي”، بدلاً من صيغة “اليسار العربي”، تساؤلاً يتعلق بموقفي من القومية العربية ومن الأمة العربية. وذهب البعض إلى حد اتهامي بأنني أتسامح مع إسرائيل ومع أميركا وأقلل من اتهامي لهما في حديثي عن الوضع المأسوي الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني في ظل الصراعات بين فصائله، وفي إشارتي الساخرة إلى شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وفي حديثي عن الهزائم العسكرية التي منيت بها الأنظمة العربية فيما اعتبرته في كتابي مغامرات تمثلت في حروبها مع إسرائيل التي بدلاً من أن تحرر فسلطين أدت إلى احتلال كامل أراضيها وإلى احتلال أجزاء من أراض عربية أخرى. وأرى في هذه الإعتراضات على كلامي المترافق بعضها باتهامات تشبه التخوين، في قراءتي لها، الدفاع من قبل بعض اليساريين عن الأنظمة الإستبدادية التي حولت الجيوش في بلداننا من جيوش للدفاع عن الوطن، وهو وظيفتها الأصلية، إلى قوى أمن تحمي سلطاتها واستبدادها المتمادي وتحمي استيلاءها على مرافق الحياة برمتها، مستخدمة في الآن ذاته شعار المعركة القومية للخداع. أليس في ذلك الكلام ما يدعو إلى الغرابة؟ ! أما في ما يتعلق باستخدام صفة “العالم العربي” بدلاً من “الأمة العربية” أو ما يشبه ذلك، فلا يعني من قبلي التنكر لانتمائي العربي. فلست بحاجة إلى شهادة من أحد في نضالي ونضال حزبي على امتداد عقود طويلة من أجل القضايا العربية، على أرض لبنان بالذات، وفي المحافل الدولية. وانتمائي العربي الذي أعتز به لا يفرض عليّ تبني نظريات ومواقف ومشاريع وأفكار وشعارات وتسميات أعتبرها في معظمها شعبوية وغير
ذات معنى وجدوى. وهو ما دلت عليه ممارسات الأنظمة القائمة وممارسات الأحزاب والحركات القومية خلال أكثر من نصف قرن.
القضية السادسة في النقاش تتمحور حول تحديد طابع وسمات العصر الذي نحن فيه اليوم، وتحديد طبيعة النظام الرأسمالي المعولم المهيمن. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بأن الرأسمال المعولم هو الذي يهيمن اليوم، بمكوناته المختلفة، على العالم ويتحكم بمصائر البشرية. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بالأسباب التي جعلت هذا الرأسمال المعولم يحمّل نتائج أزماته المتواصلة المتكررة للأكثرية الساحقة من الناس في جميع البلدان، الغنية منها والفقيرة على وجه الخصوص، الأزمات التي تعلـٌّمنا الكثير عنها وعن استمرارها وعن اتخاذها طابع أزمات دورية من قراءاتنا في كتابات ماركس وكبار كلاسيكيي الماركسية. أسوق هذا الكلام لأقول بأننا، من موقعنا كيساريين عرب في بحثنا عن نهضة ليسارنا تخرجه من أزمته الخانقة التي همشته وهمشت دوره، بحاجة لأن نعرف بدقة علمية وبواقعية طبيعة وسمات العصر الذي يهيمن فيه الرأسمال المعولم بوحشيته، وأن نحدد بدقة علمية وبواقعية الطرائق التي يستعيد بها يسارنا دوره في ظل هذا الوضع بالتحديد، وليس خارجه. ذلك أن أي قراءة غير واقعية للعالم المعاصر تستند إلى تصورات خيالية وإلى أوهام يعلن بها أصحابها ببساطة مدهشة أن هذا الرأسمال المعولم سينهار من تلقاء ذاته بسبب أزماته، وأنهم سيرثونه بعد انهياره ليعيدوا للمشروع الاشتراكي موقعه في حركة التاريخ، هذه القراءة ليست خاطئة فحسب، بل هي مليئة بالمخاطر على دور اليسار وعلى موقعه في حركة النضال من أجل التغيير. فضلاً عن أنها لعدم واقعيتها إنما تخلق أوهاماً تقود، بفعل سقوطها السريع، إلى الإحباط واليأس. وقد حاولت في قراءتي للعالم المعاصر وللتحولات فيه وللإتجاهات المتناقضة في هذه التحولات، أن أدعو أهل اليسار في بلداننا للبحث عن نهضة يسارهم في هذه الشروط التاريخية للعالم المعاصر بالتحديد، أي خارج تلك الأوهام وخارج تلك الشعارات الشعبوية التي شوّه استخدامها معنى اليسار لدى شعوبنا وأفقده مصداقيته.
تلك هي بعض الأفكار التي استوحيتها من النقاش الذي أثاره كتابي وأثارته أفكاري ومواقفي فيه. وإذا كنت قد ركزت على بعض القضايا التي كانت محور اختلاف في الرؤى بيني وبين أصدقائي، فإنني لا أستطيع إلا أن أتوجه بالشكر إلى أصدقائي الذين أعلنوا اتفاقهم معي في العديد من أفكاري، حتى وهم يتمايزون عني في تحديد فهمهم لها. وأخص بالذكر توقفهم عند المرتكزات التي اعتبرتها في الكتاب مرتكزات ذكّرت فيها بضرورة إعادة السياسة إلى أصلها وربطها بالثقافة وبالأخلاق، وإخراجها من الشعبوية والعدمية والاتنتهازية، وجعلها أكثر احتراماً لحقوق الإنسان، وأكثر حرصاً على تحريره من العبوديات الجديدة التي حولته، في الإصطفافات السياسية والعقائدية والزبائنية، إلى ما يشبه القطيع.
وبعد، فإنني أعتبر أننا ما نزال في بداية الطريق إلى نهضة يسارنا وإخراجه من أزمته، وأننا ما نزال بحاجة إلى تجديد الآليات والشروط التي تؤهلنا لأن ندخل من الباب الواسع، لا من الأبواب الضيقة، إلى تلك الأهداف التي تعبّر عن مشروعنا اليساري لتغيير بلداننا. وهذا التأكيد إنما يتطلب منا بالطبع أن نواصل النقاش حول مكونات اليسار على اختلاف اتجاهاته، وأن نبذل جميعنا المزيد من الجهد في البحث عن مستقبل اليسار من دون أفكار مسبقة نحاكم فيها بعضنا البعض. فالمهم بالنسبة إلينا هو أن نخرج يسارنا من الهزيمة إلى النهضة لاسترجاع موقعه الطبيعي الذي يعود له لتحقيق التقدم لبلداننا والحرية والسعادة لشعوبنا. وهي حاجة موضوعية راهنة تتصل بما يجري من حراك بالغ الأهمية والدلالة، تعبر عنه الثورات التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.
--------------------------------------------
نبيل عودة: من أجل صياغة برنامج فكري سياسي حديث
June 10, 2012
arabmaoists maoism today
الفكر المطروح استنفذ نفسه- هل تصبح هذه المهمة الملحة منطلقاَ للتحول والتحديث؟!
عندما إنضم ابناء جيلي ، لمعسكر الفكر الماركسي.المتمثل اساساً بأحزابه الشيوعية، كنا نتفجر بالطاقات الفكرية والنضاليه، والثقه التي لا تتزعزع بصحة نهجنا ، وبأننا قادرون ، رغم ضعفنا الواضح في مناطق ما من العالم، على تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً ، بالانتصار على الاعداء الطبقيين ، والانضمام الى العالم الحضاري المتنور ، عالم العدالة الاجتماعية والحريه البعيد عن الاستغلال . الا وهو العالم الاشتراكي ، وكنا مؤمنين بنهجنا ، متعصبين له بشكل مطلق ولكن اتضح فيما بعد ان ما كان يبدو قريب التحقيق ، اصبح مستحيلاً ، وأقرب الى معجزات السيد المسيح وكنا قد تجاوزنا جيل الحماسة والاندفاع ، وبدأنا ننظر للقضايا الفكرية والاجتماعية ، بواقعية ومنطق مختلفين عن أساليب التلقين الحزبية التي واصلت،(والمرعب انها لم تتغير حتى اليوم) التمسك بنفس النهج والتصرف وكأن ما جرى في النظرية والتطبيق مجرد خطأ مطبعي ، سيجري تجاوزه ، وتعود الثوابت الايمانيه الى مكانها الطبيعي ، فالحديث ليس عن نظرية ، أو فلسفة تتعارك مع الواقع الفكري والاجتماعي ، انما عن دين له كهنته وبطاركته ونصوصه المقدسة بل وله حرمته الدينيه ، وكأن المعسكر الاشتراكي لم ينته ، ونموذجه الاشتراكي هو النموذج الوحيد القادر على انقاذ البشريه … رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي ، ومن انحرافات ، وتجاوزات للفكر العظيم لمؤسس الماركسيه-كارل ماركس ، وقزمت فلسفته ، وحولتها الى ستالينيه ضيقه الافق ، مارست أبشع اشكال القهر والاستبداد ضد شعوب الإتحاد السوفياتي والمجموعة الخاضعة لها في اوروبا الشرقية.
ما زلت ارى في الحركة الشيوعية ، رغم كل الكوارث ، الحركة المؤهلة (فكرياً على الاقل ) لإنقاذ العالم من العولمة المتوحشة للرأسمالية.غير أن هذا الأمر يحتاج الى شروط متعددة ، لا أرى ان الاحزاب الشيوعية جاهزة لها، خاصة في العالم العربي ، حيث نشهد غياب الدور الرائد للأحزاب الشيوعية، وتحولها الى تنظيمات للثرثرة والتخبط الفكري ، عاجزة عن النهوض بمهامها النضالية .
إن عدم قدرة الأحزاب الشيوعية الفكرية ، وعدم رغبتها ، وربما خوفها ، من اعادة تقييم المرحلة التاريخية لتجربتها ، بدءاَ من أول تنظيم شيوعي عرفه التاريخ ، في أواسط القرن التاسع عشر ، على يد أباء الفلسفة الماركسية –ماركس وانجلز … ووصولا لثورة أكتوبر وتجربتها التاريخية وإنهيار هذه التجربة ، هو من دلائل مواصلة الانهيار في البنى التنظيمية للأحزاب الشيوعية ، وفقدانها لطليعتها الفكرية ، واحيانا التنظيمية في مجتمعاتها.
إن تجاهل نقد التجربة الذاتيه، ونقد التجربة الاشتراكيه ، سيبقى هذه الاحزاب عاجزة عن إعادة تكوين نفسها وفكرها ونضالها من جديد ، والأهم عجزها عن صياغة مشروعها الاشتراكي الجديد ، في ظروف عصر العولمة المتوحشة .
لا شك أن النظام السوفياتي ، عبر مؤسساته الداخليه والدولية ، استطاع ان يفرض على الحركة الشيوعية العالمية مواقف غير قابلة للنقاش ، لا تتماشى أحيانا مع الواقع الاجتماعي والتاريخي والسياسي للعديد من البلدان ، وخاصة في الشرق العربي ، ويبدو واضحا ان فقدان الاحزاب الشيوعية العربية لمكانتها السياسية الطليعية كانت نتيجة تلقائيه للفرض الفكري والسياسي السوفييتي.
كم هو مثير للإستهجان اليوم ، التمسك بالصيغة القديمة لمفهوم الطبقة العاملة ، وكأننا ما زلنا نعيش في عصر الثورة الصناعية الاوروبية في أواسط القرن التاسع عشر ..بل وما زلنا نتحدث عن البروليتاريا ، دون وعي منا ، بأن البروليتاريا ظاهرة اوروبية لم تتكرر في أي بقعة أخرى من العالم… ولم تنشأ هذه الظاهرة في دولة احتلت مقدمة دول العالم في التطور الصناعي مثل الولايات المتحدة ، فكيف الحال بالشرق . الذي لم يعرف حتى التطور الصناعي… وما تزال بعض دوله تعيش في ظروف سياسية واجتماعية وفكرية شبيهة بعصر القرون الوسطى الأوروبية… وربما اسوأ.
طرأت على بنية الطبقة العاملة تغييرات عميقة ، ألغت كل الفكرة السابقة عن طبقية المجتمع ، لست الأن في مجال الخوض في هذا النقاش ، ولكني على استعداد للعودة له ، إنما أريد أن احدد بعض الأمور الأساسية ، فيما أظنه ضرورة لإحياء التنظيمات الماركسية ، وعلى رأسها اعادة صياغة المشروع الاشتراكي لهذة الأحزاب في الظروف التاريخية الجديدة . هذا يفترض ان تتخلص الأحزاب الشيوعية في اسرائيل والعالم العربي ، من فكرها الديني ، أو سلفيتها الشيوعية ،وأن تخرج من انعزاليتها الفكرية ومن العصبية الحزبية التي تميز كوادرها القديمة … وان تقوم بمهامها الفكرية والاجتماعية الجديدة ، بالتصدي الفكري للموجة التي اخرجت الدين من روحه الانسانيه العامة ، وحولته الى جهاز كهنوتي استبدادي .
أن التصدي لأنظمة الفساد العربية بات مهمة لا تقبل التأجيل للأحزاب الشيوعية في الشرق ، وهذا يفترض صياغة فهم واضح بأن مهمة التغير في العالم العربي لم تعد مهمة طبقية واصلا لم تكن مهمة طبقية ، انما مهمة كل المجتمع بكل فئاته واتجاهاته الفكرية .
لا بد من الإعتراف اولاً بالفشل على الصعيد الداخلي وبفشل التجربة الاشتراكية العالمية التي نشطت الأحزاب الشيوعية في ظلها . إن التهرب من عدم مواجهة الحقيقة هو أشبه بدفن النعامة لرأسها في الرمال حتى لا ترى ما لا يسرها .
لا شك لدي أن للأحزاب الشيوعية ، إذا نجحت في نقد تجربتها الخاصة والتجربة العامة ، امامها مهمات بالغة الاهمية ، على الصعيد الاجتماعي والسياسي الداخلي والدولي .
وعلى رأس هذه المهمات طرح فكرة الدولة الديمقراطيه ، دولة صيانة حقوق الأنسان وحماية حقوق المواطن ، ولا ضرورة لأضيف ان ما أعنيه بالانسان هو الرجل والمرأة بنفس الوقت وبنفس المستوى من الحقوق والواجبات .
لا أعني ان كل التجربة سلبية بل هناك انجازات عظيمة في مجالات ومستويات مختلفة ، خاصة الدور الذي قام به جيل الطلائعيين ، وجرأتهم في طرح الأفكار الثورية والنشاط الخلاق ، وقدرتهم على التثقيف الفكري للكوادر ولأوساط اجتماعية واسعة . اليوم ننظر الى التنظيمات الشيوعية كيف تتحول الى تنظيمات مجردة من الفكر الطلائعي ، تفتقر لأهم ما ميز الطلائعين ، القدرة على الإبداع ، القدرة على التثقيف ، والقدرة على تجنيد الجماهير وكسب ثقتها .
هل حقاً لم يهز فشل التجربة واقع الاحزاب الشيوعية ، بما فيها الحزب الشيوعي في اسرائيل؟…
هل من الطبيعي ان لا تجري محاولات لإعادة صياغة فكرية برؤية جديدة ، وبالتخلص من شوائب الماضي ؟! هل بلغ التحجر في هذه الأحزاب ، لدرجة يبدو أنها لم تستوعب التحولات التي عصفت بعالمنا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وحتى اليوم؟!ألا يشير مواصلة الانغلاق في هذه الأحزاب الى عمق أزمتها الفكرية والتنظيميه ؟! هل يظنون ان النجاح في المحافظه على تمثيل برلماني ( في اسرائيل مثلا ) يعني “انتصاراً عظيما” متجاهلين ان مواصلة التصويت يعتبر اخلاقاً تاريخية ترسخت بنشاط الطليعة الشيوعية ، وأن لا يتوهموا بأن هذا الميراث دائم حتى لو ظلوا متحجرين؟!
مالي لا أرى فكرهم الجدلي في التطبيق ؟!مالي لا ارى أي خطوة نحو التحدث وتنشيط الدورة الدموية ، بدماء جديدة ، وطرح طرق للخروج من هذا الواقع ، الى انطلاقه جديدة ، لا تكرر ما صار مملاً وغير قابل للتنفيذ ، انما تطرح رؤيا ورؤية واقعية للتحديث الفكري والتنظيمي ، وصياغة خطاب تشكل فيه الحرية والديمقراطيه والتعددية الثقافية والاثنية ومباديء العدالة الاجتماعية الابعاد الأساسية.
لا أظن (مع الأسف) أن ما طرحته سيقبل لدى القيادات المتنفذة ، واقول هذا بناء على تجربتي مع الحزب الذي تشكلت شخصيتي الثقافية والفكرية والسياسية والأخلاقية داخل صفوفه ، وتؤلمني الحالة التي تسود صفوفه اليوم ، وما يثلج صدري ان ما اكتبه من نقد حاد جدا احيانا حول ظواهر مستهجنة عديدة تتعلق بالممارسات والطروحات الفكرية والاعلام الحزبي تجد آذانا صاغية لدى اوساط واسعة من رفاقي السابقين ورفاقي في الهم دائما ، رغم ان بعض القيادات ترد بعصبية وتشنج ودون فهم لمصداقية منطلقاتي .. وانها موضوع لفتح الحوار نحو احداث انطلاقة قد تساهم ،بقدر ما ، مهما بدى صغيرا ، الا انه ضروريا لاعادة الزخم لهذه الحركة التاريخية ولدورها الذي لم ينجح اي تنظيم في سد الفراغ الناشيء من تضعضع اوضاعها . الحوار لن يخسر منه الا الذين حولوا التنظيم لمؤسسة تخدم تطلعاتهم الشخصية في عصر تختلط فيه كل الاوراق . لست متفائلا من مستقبل هذه التنظيمات وما اطرحه هو من باب قناعتي بوجود طريق أخرى غير الطريق المأزوم والمتشنج السائد اليوم ، وبوجود نهج يمكن ان يعود بالمكاسب على الجماهير العربية ، للأسف الشديد، لا أرى ما أظنه صحيحا وقابلا للتنفيذ ، يملك فرصة ما لدى اصحاب المناصب الحزبية المنتفعين من مناصبهم ، وبالاخص في الوضع الشيوعي المحلي ( داخل اسرائيل ). واتوقع ان الوضع ليس افضل في الاحزاب الشيوعية العربية ، إن بقاء الفكر الشيوعي السلفي سيجعل من الصعب مجرد التصور بقدرة الأحزاب الشيوعية على الاضطلاع بدورها السياسي والاجتماعي والتثقيفي .
مجتمعنا يزداد تخلفاً … وخاصة في الجبهة الفكرية ، شللنا السياسي والإبداعي يتعمق ، الانفصام بين القول والفعل يتسع . الشخصانية تتبوأ الطليعة واصبحت هي المعيار ، الشعار القومي الزائف بات نقيضا للحلم القومي وللحلم الاجتماعي وللمنطق السياسي وللمنطق الانساني البسيط.
في هذه المرحلة لا أرى قوة سياسية قادرة على احداث التحول إلا بالتنظيم الشيوعي …ومع الأسف هذه القدرة هي نظرية فقط ، وتفتقد للكوادر القيادية القادرة على جعلها نظرية عملية .. ومع ذلك لعل وعسى!!
--------------------------

فواز طرابلسي

(وبعد، يا جوزيف، وهذا بعض من كل، مَن سمح لك أنْ تأخذ نصفي وتغادر؟)
جوزيف سماحة: التوأم!
شباط2013
(توفي جوزيف سماحة في شباط2007)

لست أستغرب عندما يتحدث زهير رحال عني او معي ويسمّيني «جوزيف». ولا انا أستنكر عندما تعبّر لي جنى نصرالله عن عميق صدمتها والحزن على وفاة «فواز». فقد اعتدت، كما اعتاد جوزيف، مثل هذا الخلط بيننا. فبيني وبين جوزيف سماحة شَبَه توأمة لا فكاك منها، تحمل من خصائص التوأمة الشيء الكثير: تعلّق التوأم الشديد بالآخر، مقداراً من المنافسة والغيرة بينهما ومقادير من تطلّب الواحد ان يكون الآخر مثله. ولعلني كنت الاكثر تطلبا والاقل تسامحا. وجوزيف الاكثر باطنية.
تعرفت الى جوزيف سماحة عام ١٩٧٢ من ضمن مجموعة شباب دخلت في حوار مع منظمة العمل الشيوعي قصد الانضمام وكنت مكلفا بالمتابعة معهم. ضمت المجموعة حازم صاغية ووليد نويهض وغانم ابو غانم وآخرين. جوزيف وحازم قادمان من علاقة بحزب العمال الثوري العربي الذي اسسه ياسين الحافظ وقد إختلفا مع ياسين على الموقف من المقاومة الفلسطينية. اما وليد وغانم فمن شباب الحزب السوري القومي الاجتماعي الذين كانوا يثيرون قضايا الديمقراطية الداخلية في الحزب ويطالبون بموقف عملي مشارك تجاه المقاومة الفلسطينية وبالانحياز يسارا في العقيدة الاقتصادية والاجتماعية.
إذ قررت المجموعة الانضمام الى المنظمة التحق جوزيف ووليد باسرة تحرير مجلة «الحرية» الاسبوعية. كان جوزيف آنذاك طالبا في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية. قليلون يعرفون ان الطالب المتفوّق في الفلسفة نال منحة لاكمال دراسته الجامعية في باريس الا انه تنازل عنها وقرر البقاء في لبنان ملبّيا نداء واجب نضالي كان يلحّ عليه الحاحا.
مطلع الصداقة السريعة والحميمة التي نشأت بيننا اختياري لجوزيف شاهدا على زواجي وقرارنا السكن في طبقتين متجاوزتين في بناية واحدة مع نشوب الاقتتال الاهلي وعجز كلينا على البقاء في مسكنه هو في عمق الاشرفية وانا على خطوط التماس في زقاق البلاط.
وفي «الحرية» ايضا مارس جوزيف اول تجربة له في رئاسة تحرير مطبوعة صحفية. في خريف العام ١٩٧٦، عندما طلبتْ مني قيادة المنظمة ان أغادر الى باريس، لدواعٍ قيل لي وقتها انها أمنية، تسلّم جوزيف مسؤولية الاشراف على لجنة الاعلام التي استدرجت مشاركة كوكبة من الشباب المندفع والموهوب، شكل الفوج الثاني من مثقفي المنظمة واعلامييها، ومن اسف انهم ما لبثوا ان تفرّقوا ايدي سبأ. اني اتحدث عن: زهير هواري، سعد محيو، جورج ناصيف، نصير الاسعد، نهلة الشهال، سليمان تقي الدين، عبدالله اسكندر، نجاة طاهر، شربل داغر، رودولف القارح، وليد نويهض، احمد قعبور، زينب شرف الدين، سعدى العبدالله، حسن ضاهر، وفي الاخراج السينمائي، مارون بغدادي ورندة الشهال، وفي التصوير الصحفي، رمزي حيدر وبلال قبلان، غيرهم.
خلال الفترة القصيرة التي تولى فيها جوزيف تلك المسؤولية، وقد كان يعمل منذ مدة في «السفير»، اسهم في «تهوية» المجلة وتغليب الطابع المهني الصحفي عليها وفتح ابوابها على مساهمات من خارج دائرة المنظمة، قبل ان ينتقل لرئاسة تحرير جريدة «الوطن» الناطقة بلسان الحركة الوطنية اللبنانية.
في «الوطن»، اندفع جوزيف في مشروع الحركة الوطنية حتى النهاية، وبالحدة السجالية المستوحاة آنذاك من المناخ الحربي الذي كنا نعيش فيه. فاستثار عداء جهاز المخابرات الذي يرأسه جوني عبده. فتلقى جوزيف تهديدات عديدة اضطرتنا الى اتخاذ اجراءات حماية مشددة، فأسكنّاه في مكاتب المجلة في حيّ الفاكهاني. وللتسلية والترويح على النفس كان علينا ان نزوّد جوزيف بطاولة كرة الطاولة، رياضته الداخلية الاثيرة بعد البليار. وكان من دواعي سروري ان ازوره لالاعبه واخسر دوما امامه في كرة الطاولة كما كنت اخسر في البليار.
غادر جوزيف منظمة العمل الشيوعي في ظروف لا تشرّف المنظمة ولا قيادتها. عند انهيار مشروع الحركة الوطنية، وتخلي يسارها عن برنامجع الديمقراطي الجذري والعلماني، كان لسان حال جوزيف: اذا لا تغيير، فالمصالحة بين الفرقاء النزاع اجدى والعمل في سبيل استعادة وحدة لبنان. كتب جوزيف سلسلة مقالات انتقد فيها تخلي الحركة الوطنية عن العلمانية، وتماهيها مع الاسلام السياسي، فصدر قرار تنظيمي بفصله. ولكن من أسف ان جوزيف عبّر عن مراجعته تلك باتخاذه موقفا ملتبسا من حكم امين الجميّل والمفاوضات الاسرائيلية-اللبنانية التي افضت الى إتفاق ١٧ ايار.
اتذكر ذلك الانقلاب عند جوزيف وانا اتفكّر في الاسابيع الاخيرة من حياته. في «الاخبار» ايضا ذهب جوزيف الى النهاية فيما اعتقده مشروع تغيير في لبنان يحسم الصراع بين خط «اميركي» وخط «وطني قومي مقاوِم». فوضع كل ما اوتي من موهبة وقدرة جدلية دعما لمشروع المعارضة حسم المعركة باسقاط الحكومة في الشارع. ولكن جوزيف كان قد تعلّم من الدرس الاليم لحروب ١٩٧٥-١٩٩٠. فتوقف عند «الخط الاحمر »: الاقتتال الاهلي، وقد لاحت بوادره في كانون الاول الماضي. فقال: كفى.
هذه «الكفى» هي في اعتقادي وصية جوزيف، بل صيحته، في وجه المعسكرين المفلِسين في لبنان.

غادر جوزيف منظمة العمل الشيوعي وفي نفسه توق لم يفتر للعمل الحزبي الجماهيري رافقه حتى ايامه الاخيرة. ولكن الخيط الناظم لفكره ظل موسوما باشكاليات النشأة الفكرية التي طرحتها المنظمة اول عهدها. فكانت محاولاته المتكررة للجمع بين نزعة قومية عربية وبين استلهام ماركسية غير تقليدية وعقلانية. تتنازعه دوما رغبتان: رغبة عارمة في التغيير الجذري لما كان يسميه، بعد ياسين الحافظ، «عمارة المجتمع العربي » من جهة ومن جهة اخرى حماسة لا تقل عنها زخما للدفع في النضال على جبهة المسألتين الوطنية والقومية. الا ان جوزيف ما لبث ان جنح في السنوات الاخيرة الى تغليب الثانية على الاولى، وايلاء الاولوية لما اعتبره معارك فاصلة في ساحة صراع بين معسكرين - معسكر «الهجمة امبريالية » في مواجهة معسكر المقاومات الاسلامية تسندها وتقودها «انظمة الممانعة ». ذهبتْ في جريرة تلك الاولوية امور عدة في المسألتين الوطنية والقومية ذاتها: الاستيعاب الجاد لأبعاد مسيرة الحلول الثنائية، والقياس الفعلي لمدى التعارض بين «انظمة الممانعة » وبين الولايات المتحدة الاميركية، وحدود المقاومتين الاسلاميتين في لبنان وفلسطين، إن من حيث التصدي لامبريالية عصر العولمة او من حيث مشروعهما المجتمعي ناهيك عن محدودية دورهما العسكري في اطار الحلول الثنائية للنزاع العربي الاسرائيلي. وقد تمت تلك الاولويات ايضا على حساب نقد الانظمة العربية (ناهيك عن النظام الايراني ) وعلى حساب اعطاء التحويل الديمقراطي الداخلي ما يستحقه من الاهمية بما هو مسار داخلي يلبّي حاجات شعبية عربية حقيقية، ناهيك عن استخفاف جوزيف الشديد بمسألة الاقليات في العالم العربي.
ولكن فيما يتجاوز هذا كله، لم يكف جوزيف مرة عن الحلم بتجديد وتفعيل اليسار في لبنان والعالم العربي، ولم يتخلف مرة عن اية محاولة من المحاولات التي بذلت من اجل ذلك، حضورا او كتابة او مشاركة. وكم سوف يسرّ جوزيف لو علم ان رفاقه لفّوا نعشه بالعلم الاحمر الى جانب علم لبنان.

جوزيف الصحفي.
لن اطيل عن دور جوزيف في اسر التحرير. سواي اقدر على الكلام في الموضوع مني. يكفيني التشديد على تقديسه العمل الجماعي، وإن يكن يأخذ دوما على نفسه من العمل ما هو قاتل، ودأبه على مساعدة زملائه او المبتدئين على حد سواء، وقسوته على الذات في المراجعة والنقد الذاتي، وقدرته المذهلة على تخيّل المواضيع واقتراح زوايا جديدة للنظر الى كل عنوان من عناوين الصحيفة وكل قسم من اقسامها، وهو الذي يملك حدسا مدهشا لالتقاط الظواهر الجديدة من الشرق اوسطية الى العولمة مرورا بظاهرة الحركات الاسلامية والظاهرة الحريرية.
تقلّب جوزيف في مطبوعات عدة تتراوح بين اقصى اليسار واليمين النفطي المحافظ. مرورا بـ «اليوم السابع »، المؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية و «السفير» حيث امضى جوزيف اطول تجربة صحفية له. في كل هذه، كان جوزيف مدركا كليا لأن العمل الصحفي مهنة لتحصيل لقمة العيش. والمعاش عنده لسداد الديون بالدرجة الاولى. وهنا ايضا يذهب في التجربة الى نهاياتها، يلاعب اصحاب المطبوعة حول الحدود والالتزامات، يمطّ ما استطاع اليه سبيلا من الممكن وغير الممكن ومن النقد والمواقف، ثم يكتم، ويبطن، الى ان يكتشف ان التجربة استنفدت اغراضها، او يبلغ عنده السيل زباه، فينفجر ويغادر. هكذا كان جوزيف يمارس اقدس قيمة نذر نفسه لها: حرية الرأي. بل قُلْ الحرية فقط.
اما صحيفته المثالية ففي مكان آخر. حلمنا معا في المنفى الباريسي بصحافة من نوع جديد. فكانت تجربة «زوايا». تعطي اهمية خاصة للجمالية في الاخراج (تولاها اميل منعم الدي رافق جوزيف في «الاخبار»)؛ وتفتح زاوية خاصة لنقد «الاستغراب»، اي كيف ينظر شرقيون الى الغرب، بديلا من استمرار النقيق في نقد الاستشراق. وتطرح موضوع الديمقراطية بما هي ثورة وعملية تحويل جذرية داخلية وبقوى داخلية. وتفرد زاويا خاصة للمرأة ولفن التصوير وثقافة العين، والثقافة الشعبية. سعت «زوايا» ان تكون مستقلة التمويل على امل ان يمدها بعض متمولي اليسار باكلاف طباعة وتوزيع لا اكثر. فلفظت انفسها وهي على اهبة ولادة عددها الرابع المخصص لقضايا المرأة العربية. حمل جوزيف الحلم ذاته الحلم الى «الاخبار». ولكن جوزيف غادر و «الاخبار » تحبو وإن تكن بصماته الصحافية فيها تبعث على الامل.
على امتداد لا اقل من عقد من الزمن، ارتبط اسم جوزيف سماحة بافتتاحيات انيقة، ليست تخلو الواحدة منها من «لمعة» من اللمعات المميزة لاسلوبه، تتقطّر منها كثافة ثقافية وفكرية تهتدي بمتابعة جلودة، وبحساسية مفرطة للخبر وتحليله وتقليبه على غير وجه. هي افتتاحيات يستحيل ان تترك القاريء في اللامبالاة، تصدم او تثير النقاش او تدفع الى المعارضة او تستفز الى الفعل. وليس سرّا ان جوزيف تخيّل كتابته الصحفية رسالة ذات مؤدى عملي. يحدوه ايمانٌ عميق بدور الكلمة ودور المثقفين في إرشاد وعقلنة وتوجيه الفعل السياسي. من هنا انه رأى الى كتابته الصحفية بما هي فعل سياسي بامتياز، والسياسة هَوَسه الاكبر. ولم يكن يتردد في شخصنة ذلك الدور إذ يتصوّر نفسه يلعب دور المثقف الذي يرشد «الامير»، وقد لعب ذلك الدور فعلا، الى هذا الحد او ذاك، وبهدا القدر او ذاك من النجاح، تجاه الحركة الوطنية اللبنانية، في اواخر ايامها، او تجاه منظمة التحرير الفلسطينية (خلال عمله في «اليوم السابع » و «السفير»)، او تجاه التيار القومي العربي بعامة واخيرا ليس آخرا تجاه المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان.
لكن هذا الصحفي من طراز جديد لم يكن بدون مفاجأت. في الجدل والمحاججة، يبزّ جوزيف نفسه. يوظف كل تربيته الفلسفية لممارسة لعبته الاثيرة في ان يقنعك بوجهة نظر ثم يقنعك بنقيضها، على غرار احمد فارس الشدياق ينظم قصيدتين متوازيتين ومتعارضتين على نفس الوزن والقافية، واحدة في مدح باريس وثانية في ذم باريس! أجاد جوزيف تلك لعبة، احيانا لضرورات التماشي مع خط المطبوعة، او لتبرير تيار سياسي يدعمه، ولكن لعبته الجدلية هذه كانت ايضا، واكاد ان اقول كانت بالدرجة الاولى، بمثابة انتقام جوزيف السرّي من السفسطة والتقّعر العقائدي والسطحية والاستسهال والفهلوة. اراه يطأطيء برأسه تعليقا على هذا التحليل تعلو وجهه ابتسامة خبيثة.

جوزيف الانسان.
قال لي مرة انه مقصّر في تعداد ايجابياتي، فأجبته: انا المقصِّر في مديح سلبياتك. يملك هذا الرجل اجمل السلبيات في الدنيا، خصوصا تجاه من هم اقرب الناس واحبّهم اليه. يسيء اليك بقول او فعل، ثم لا يعود يعرف كيف يتراجع او يعتذر، وقد يستغرق الجفاء اشهرا طويلة. ثم يعود اليك إبن سيسيليا المدلّل بشبح ابتسامة، فينتهي كل شيء فتستأنفان الجلسة وكأنكما تواصلان حديثا من ليل امس. ولن ازيد.
رجل عابس، جوزيف سماحة؟ العبوس إن هو الا قناع جوزيف آخر. لن اقول جوزيف الضاحك. فالامر ارقى من الضحك بكثير. ولن اقول عنه انه «يحب الحياة»، حتى لا أهين جوزيف ولا أهين الحياة.
جوزيف سماحة امير من كبار امراء الفرح.
اني اشاهد جوزيف يمتشق فجأة عصا في احدى السهرات ويأخذ يلاعبها في رقصة منفردة على الطريقة المصرية.
واني اراه ممسكا برأس حلقة دبكة، لم يعد يجاريه فيها الا زهير رحال، يسنده فيما جوزيف يلف ويدور. يفاجئك بقفزة غير متوقعة او يروّعك إذ يخرّ راكعا. ويذهلك عندما يلامس الارض مسّاً كأنه يعتذر منها ثم يرعبك عندما يدبك دبكة رِجلٍ مجنونة. ان كل جوزيف سماحة الفنّان يتلّخص في رقصه الدبكة. كم اجاد احمد بيضون إذ قال فيه انه يكتب إفتتاحياته كمن يرقص. نسي احمد ان يضيف ان جوزيف يكتب كمن يرقص الدبكة تحديدا. فلست تدري الى اين هو آخذك في محاججته الى ان يوصلك الى خلاصة لم تكن تتوقع ان تتلقى فيها الخبطة التي أعدّها لك.
اخيرا، أرانا نتهالك معاً على احد المقاعد، بعيد الثالثة فجرا، يتعتعنا السكر، نستمع في هناءة قدسية الى فيروز في أغاني الجمعة الحزينة، او نرتّل معا، بأصوات منكَرَة كاصوات مَن تعرفون، «يا مريم البِكر/فُقْتً الشمسَ والقمرا »، عندما الحزن في كيميائه ينقلب شحنات مخبّلة من النشوة والفرح.
وبعد، يا جوزيف، وهذا بعض من كل، مَن سمح لك أنْ تأخذ نصفي وتغادر؟

حتى نلتقي .....
كرمى ..
كلّ ما تبقى منّا معك
إلى كرمى خياط
* الشيخ *


في بلادي ..
تناولتنا كواسر
وانتثرت أشلاءنا
بين واحد بنى منها سواتر
وآخر قلاعاً وحصونا
وما بين الواحد والآخر
تشظّت السواتر وتبعثرت الحصون
وما زلنا نكابر موتنا
**
استُبِحنا ..
باسم كل ما ابتدعته الإنسانية
وما زال الواحد والآخر
الآخر والواحد
ينهشان فينا بأظلاف ونواجز ..
وإن تبقى شيئاً منّا
فما تبقى كلّه معك ..
يا كرمى ..





تجمع اليسار الماركسي " تيم "

تجمع لأحزاب وتنظيمات ماركسية . صدرت وثيقته الـتأسيسية في 20 نيسان2007.
يضم (تيم) في عضويته:
1- حزب العمل الشيوعي في سوريا .
2- الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي .
3- الحزب اليساري الكردي في سوريا .
4- هيئة الشيوعيين السوريين .
الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن:
htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715








للاطلاع على صفحة الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي على الفيسبوك على الرابط التالي:
https://www.facebook.com/pages/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي/1509678585952833