السيطرة الرأسمالية: المقاومة والثورة


عديد نصار
2015 / 4 / 21 - 01:46     

فرض نظام رأس المال وقائع تاريخية في العالم والمجتمعات وفي مسيرة الإنسانية والشعوب لا يمكن لأي دراسة أو بحث في التاريخ أو الاجتماع أو الاقتصاد أو العلاقات البشرية أو السياسة أن يكون علميا إذا قفز فوقها أو تجاهلها، أو اعتبرها ثانوية.
فالملكية الخاصة لوسائل الانتاج الصناعية وعلاقات الانتاج الرأسمالية التي تفرضها، والتي نشأت بداية في المراكز الأوروبية وأمريكا الشمالية ثم بدأت بالتمدد والاتساع كبقع الزيت لتفرض نظام سيطرة مطلقة للطبقة البرجوازية في تلك المجتمعات، ومن ثم قيام الدولة البرجوازية الحديثة فيها، هذا النمط من الانتاج وهذا الشكل من ملكية وسائل الانتاج، أزاحا إلى غير رجعة علاقات الانتاج البائدة، الاقطاعية، وفرضا علاقات الانتاج الرأسمالية، وكل ما يترتب من بنى فوقية في التراتبية الاجتماعية والثقافية والسياسية ...
مثلت الدولة القومية نقطة الانطلاق للنظام الرأسمالي في التمدد والتوسع نحو توحيد العالم تحت سيطرته، إذ لا يمكنه العيش طويلا ضمن أسار حدود كيانات محدودة مهما كانت كبيرة. الرأسمالي يتطلع أبدا إلى مراكمة الأرباح، وزيادة الأرباح تحتاج إلى زيادة في الانتاج، وزيادة الانتاج تحتاج إلى مواد أولية وإلى الطاقة والأسواق المفتوحة واليد العاملة الرخيصة والمطواعة ..
وهكذا يحصل الصدام بين التطلعات والممارسات التوسعية ( الاستعمارية ) المتضاربة للمراكز الرأسمالية المختلفة في محاولات التوسع والسيطرة على العالم، فكانت الحروب الامبريالية الكبرى، هذه الحروب لم تحدث لا لأسباب قومية و لا دينية ولا في سبيل نشر القيم الحضارية(!!) ولا لأي سبب آخر وكل الادعاءات الأخرى كنشر الديمقراطية والمدنية، كاذبة تهدف إلى التضليل والتعمية.
لقد حصدت حروب الرأسماليين الامبريالية خلال القرن العشرين مئات الملايين من الضحايا البشرية، و أورثت البشرية خسائر فادحة في كل مجال. إذ إن ما دمر و هدر من ثروات جراء هذه الحروب و أموال على تصنيع الأسلحة الأكثر فتكا و دمارا، كان ليكفي أن يحول العالم مكانا رائعا للحياة، و لينشر العلوم والثقافة والفن والرفاه في كل الأرجاء.
وفي حين فرض وجود الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية شيئا من التواضع في طموحات الامبرياليين، فإن انهيار تلك القوة تسعينات القرن الماضي جعل قوى نظام رأس المال العالمية والقوة الأمريكية المهيمنة عليه بلا منازع، تندفع بشراسة غير مسبوقة في مشاريع الهيمنة والسيطرة المباشرة وفي حروب تدميرية شاملة على البلدان والمناطق الأكثر غنى بالطاقة والثروات، حروب أدت إلى تبديد كيانات وتدمير حضارات وتفتيت مجتمعات وهدر طاقات كبرى تخص الانسانية جمعاء.
وفي أقل تعديل، تمثل هذه الحروب وهذه المشاريع جرائم موصوفة بحق البشرية، جرائم لم يسبق للإنسانية أن واجهت مثيلا لها في تاريخها الطويل.
لم يترك نظام رأس المال أمرا إلا وعمل فيه: إلغاءً أو استبدالا أو تعديلا أو استغلالا بدء من أدوات الانتاج وعلاقات الانتاج إلى البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية وجميع أشكال العلاقات بين البشر أفرادا وجماعات وكذلك أشكال العلاقات بين المجتمعات على اختلافها وفي مختلف دوائرها وصولا إلى علاقة البشر بمواطنهم التاريخية والبيئية !

لقد عرّف لينين الثورة بأنها فعل الجماهير المنظمة. هناك ثورة وهناك ثورة مضادة. اما الثورة فهي الفعل الذي يفرض تغييرا جذريا في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية يزيل القديم الرث الذي تحول إلى قيود تعيق التطور ويفتح المجال أمام الجديد الذي يتيح للقوى الحية أن تنطلق في عملية تطور واسعة تشمل كل مجالات الحياة في المجتمع. أما الثورة المضادة فهي رد فعل على الثورة يتوسلها القديم لإعادة أو لاستعادة دوره وسيطرته التي حطمتها إنجازات الثورة، وهو بذلك يتوسل الحفاظ على البنى التي كانت تسمح له فرض سلطته في كافة مجالات الحياة في المجتمع.
الثورة هي فعل إيجابي للتغيير وفتح الطريق، بل تحطيم القيود التي تمنع القوى الحية من إحداث عملية التغيير والتطوير.
أما المقاومة فهي عمل سلبي، بمعناها العام البسيط. كأن تقاوم البنى القديمة التغيير، أو كأن تقاوم القوى المسيطرة في مجتمع ما ما يتهدد سيطرتها سواء من الداخل أم من الخارج. أو كأن يقاوم مجتمع ما وافدا غريبا بغض النظر عما يحمله هذا الوافد من قيم أو تهديد.
لقد فتحت ثورة أكتوبر الاشتراكية باب الثورة والتغيير في وجه نظام رأس المال في العالم أجمع، برغم أنها انطلقت من الحلقة الأضعف في النظام الرأسمالي، وبرغم أن النظام الرأسمالي لم يكن قد استكمل بعد سيطرته على العالم وبالتالي لم يستكمل كل ما يمكن أن يحققه من إنجازات. وهي بالتالي أعاقت تقدمه على محورين:
الأول: أخرت لسبعة عقود سيطرة الرأسمالية على ذلك الجزء من العالم الذي شهد الثورة الاشتراكية بشكل أو بآخر، والذي شهد طريقا آخر للتطور غير رأسمالي،
الثاني: مكنت المجتمعات التي كانت هدفا لغزو نظام رأس المال من تأسيس مقاومات غير تقليدية، بل ثورية تطرح ما يتجاوز القيم التي ينادي بها النظام الرأسمالي، ما أعطى تلك المقاومات الشرعية الثورية التي مكنتها من تحقيق الانتصارات الكبيرة والرائدة على محاولات قوى الرأسمالية في السيطرة والتوسع.
لقد حمل النظام الرأسمالي للعالم قيم من نحو: الحرية وتحرر المرأة والديمقراطية والحريات الاقتصادية والملكية الخاصة وحقوق الانسان، ورفعت، بالمقابل الثورات المقاومة لهذا النظام شعارات: التحرر من سيطرة الامبريالية والصهيونية والديمقراطية الاجتماعية وإلغاء الطبقات والاحتكارات والتبعية الاقتصادية و إشراك المرأة تماما كما الرجل، في النضال والمسؤولية وكذلك محاربة كل تمييز قائم على الجنس أو اللون أو العرق أو الدين، ومارست عمليا تلك الشعارات، في الوقت الذي كان فيه النظام الرأسمالي يدعم أنظمة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا والكيان الصهيوني، ويمارس تسليع المرأة وتحقير الشعوب، ويحيك المؤامرات والانقلابات ويرتكب الاغتيالات لتركيعها واستنزاف قواها.
وبما أن السلطة تقع في صلب المشروع الرأسمالي المتقدم للسيطرة على المجتمعات، في البلدان التابعة، فإنه لا يمكن فصل المقاومة التي تواجه هذا المشروع عن الصراع على السلطة. وفي حمأة هذا الصراع، لا بد للمقاومة أن تحمل مشروعا ثوريا بأفق يتجاوز الرأسمالية كنظام سيطرة، إلى الاشتراكية المفتوحة على الشيوعية كمسيرة تطور إجتماعية شاملة وأممية إنسانية متكاملة. بهذا فقط تكتسب المقاومة ما نسميه الشرعية الثورية، وتكتسب، بالتالي، تأييد ومساندة كافة القوى الثورية في العالم. وهي بالتالي، قد تكون قادرة على تشكيل النواة الحقيقية للثورة الأممية على النظام الرأسمالي، والعامل الحاسم في تقهقره وانهزامه.
أما المقاومات التي تطرح الأفكار المتخلفة عن القيم الرأسمالية، المقاومات الدينية والقبلية و الطائفية والمذهبية والفئوية، فإنها تضفي الشرعية على اقتحام المشروع الرأسمالي بكل همجيته ورجعيته، بحكم تقدمه عليها. وهي بالتالي، تمنع، أو على الأقل، تحد من، دعم قوى الثورة الأممية ومساندتها. لذلك، فمصيرها إما الهزيمة والسحق، وإما أن تتحول أداة تسهم في تحقيق بعض من أهداف النظام الرأسمالي في السيطرة.
والنظام الرأسمالي معني بقوة بنزع الشرعية الثورية عن قوى المقاومة، وهو يستعين بأدوات وقوى استخبارية وإعلامية ضخمة وبعملاء وأنظمة، ويستخدم موارد مالية هائلة لذلك. وهو يحدد استهدافاته العسكرية لخدمة هذا الهدف. فعندما يتغاضى الأمريكيون في العراق عن الشيعة ويمارسون التنكيل بحق السنة فإنهم يمارسون الدور الذي يحول المقاومة فئوية دينية متخلفة تسهم في التفتيت الذي يسعون إليه.
إن هذا يجعل الشعارات والقيم التي يطرحها النظام الراسمالي متقدمة باشواط عن الشعارات التي تطرحها بعض المقاومات الفئوية والتي سيطرت مؤخرا.
لقد تجلت الشرعية الثورية إلى حد بعيد في قوى المقاومة الفلسطينية ماقبل الثمانينات، والتي سميت بحق، قوى الثورة الفلسطينية. فقد كانت محور استقطاب كل المناضلين الأممين في العالم والذين التحق منهم، ومن سائر الشعوب والبلدان أعداد غفيرة بتلك الثورة، وناضلوا واستشهدوا واعتقلوا في صفوفها.
في حين أن حماس و حزب الله شكلا النوذج الثاني، أي المقاومة الفئوية ( التي لا تأمن إلا لمن اتبع دينها ...) حيث يقتصر التأييد الأممي لهما على الشكل المحدود المعنوي والسياسي، حيث أن صراعهما واقع مع عدو مشترك. و هذا التأييد لم يكن بهذا الزخم لولا تحرك القوى الشيوعية واليسارية العربية والمجهود الذي تبذله لحشد هذا التأييد.
إن الشرعية الثورية للمقاومة الفلسطينية حققت إنجازات توجت بقرار أممي يساوي الصهيونية بالعنصرية، وسقوط الشرعية الثورية، أسقط هذا القرار!!
إن رجعية حماس أعطت الشرعية لعملاء الاحتلال في السلطة التابعة، و عنصرية حماس أسقطت الحرم عن عنصرية الكيان الصهيوني.
وعلى الأرض الكل يعرف أن التغيير الديمغرافي الكبير في القدس والضفة الغربية لم يحصل إلا بعد سقوط الشرعية الثورية عن المقاومة، أو ربما بشكل أدق، بعد تخليها عنها. فخلال ربع قرن من الاحتلال، كان الاستيطان فعلا محدودا على الأرض، اما بعد ذلك، وخاصة بعد تولي القوى الدينية الفعل المقاوم، بلغ الاستيطان مدى لا يمكن بعده تحديد من هم، واقعا، أصحاب الأرض الحقيقيين!! فالعرب في القدس اليوم، لا يمثلون سوى جالية محدودة يضيق عليها الخناق علّها تغادر، في بحر من المستوطنين الذين ينتزعون من العرب أملاكهم وبيوتهم ويعمدون إلى تغيير أسماء المناطق والشوارع دون اعتراض من أحد، لا محليا ولا عربيا ولا دوليا. ولو ان الأمر كان قد حدث في سبعينات القرن الماضي لكنا شهدنا معارك شوارع في كل أنحاء العالم رفضا لهذا العدوان.
إن تخلي المقاومة عن شرعيتها الثورية ساهم في تحقيق أحد أهم أهداف المشروع الأمريكي الصهيوني في السيطرة، وهو تفتيت وشرذمة القوى المعادية لهذا المشروع، والحد من فاعليتها، بل تعطيل الجزء الأكبر منها، على قاعدة الفئوية، المذهبية أو الدينية أو القومية او ما شابه. ولا يغرنّك ما يحكى عن تراجع هذا المشروع أو ارتباكاته أو العثرات التي تعترضه، فالواقع يتكشف كل يوم، عن البدائل العملية الحاضرة بما يتلاءم مع ما تحقق على الأرض، خاصة لجهة الانقسامات الفئوية الحادة على مستوى المجتمعات، والتي يجري تعميمها في كل البلدان ( في المنطقة العربية وحولها ) بشكل متسارع وحثيث.
إن الشرعية الثورية للمقاومة تتوقف على: من أنت؟ ومن تقاوم؟
فلا يمكنك هزيمة وسحق الغازي القادم ما دام يتفوق عليك في كل شيء بما في ذلك القيم المادية والمعنوية. التخلف يمكن أن يقاوم، ولكنه لا يمكن أن ينتصر في نهاية المطاف. وعليه، يجب أن نتحلى بقيم الثورة وبمشروع الثورة وبما يجعلنا متفوقين، على الأقل بمشروعنا الثوري المقاوم، على المشروع الرأسمالي الزاحف نحونا بكل ثقة. لقد انتصرت فيتنام كما انتصرت كوبا، على النظام الرأسمالي، وأداته الأمريكية البطاشة، بقيم وبمشروع الثورة الاشتراكية والأممية، وليس بالقوة النارية والصاروخية. وهذا حقيقي تماما وتاريخي لا يتزعزع.
في هذا الزمن الرأسمالي المجرم، أن تقاوم، لا يكفي. أن تثور، هي القضية!

12/10/2009