عقل في سروال


عقيل صالح
2015 / 4 / 13 - 02:09     

يتمنطق الغليظ، في لباس المنطق السليم، يترنح، ذهاباً اياباً، تغزو رائحة التمنطق الممرات، يا لها من رائحة بغيضة !. وحين تعبس الوجوه، كاظمة تجليات الغثيان، يمشي، مثل الخيول السقيمة، اعتزازاً : (( لا يتحملون رائحة المنطق !)).

يتوارى الاريج امام نتانة البلاهة. بلاهة العدم، خلال العدم، في التأمل. التأمل نحو العدم، مثل ما يطلق عليه هيجل، الغباء الأبله. مجموعة من الاكاديميين، يفرضون منطقاً احمقاً خاصاً، في عالم الفكر والمنطق، حباً في التمنطق، تجاوزوا زمن ( من تمنطق فقد تزندق)، مثل تجاوز العبيد الاغلال ذاتها، ولكن ماذا صنعوا بعد الحرية ؟، الم يدخلوا في حالة من التشويش الذاتي ؟. هكذا، مناطقتنا، يعيشون، في زمن التشويش الذهني، بحثاً عن الليل الذي لن يأتي.

تكسو اوراق الاكاديميين جبال الفكر، بالكامل !. العالم، كما نعرفه، تم تقطيعه ارباً ارباً، لقد جزؤا الكل. انه حُب التجزئة، لخلق قضايا من لا شيء، انها ليست مشكلة الاكاديميين، بل مشكلة الاكاديمية برمتها.

عدوى الشعار الكانطي : (( ناقش بحرية، ولكن اطع))، انتشرت في كافة انحاء الاكاديمية، وقامت عليه. الامتثال للقائم، تجزئة المشكلات، وحلها بالتجريد. ويصبح هم الاكاديميين، الكتابة حول الافكار، مراجعتها، من دون التحليل النقدي المطلوب، واعتبار العلوم، لا سيما الانسانية، هي علوم فكرية، تناقش الافكار. هيا، لنناقش الافكار، ولنجد افضلها في التطبيق !. الشعار الكانطي، في علاقته مع الفكر البورجوازي ( التنويري)، مبرر جداً، العقل لابد من استخدامه، بشروط تعامله مع القوانين، بإمتثال عقلاني. مبرر في حدوده، اعني في انتاجه المعرفي، التربة التاريخية التنويرية، التي تمكن للفكر، خوض جوانب اساسية، تفرضها فلسفة الحداثة. حينما يتجاوز الزمن ذاته الفكرية، ناقضاً لذات التربة، في تمهيده لولادة الجديد الفكري، تصبح افكاراً زمنية صالحة، لوجود انتاجي معين، تعتبرها نهائية، ابدية، ضد التقويض. بلسان هيجل، « التاريخ حكم قاس جداً»، يبرز صلاحية الفكري فيه، وسيرورته، وانهياره، وصيرورة الاخر من احشائه، والانقطاع عن الاول، نحو ولادة الاخر. تصبح الافكار المنطقية ( او الفلسفية)، بمجملها، ثورات تشكل الفسيفساء المتكاملة لتكوين علم يدرس المجتمع، لا يمكن تجاوز كينونته العلمية، الا من خلال البناء. بذلك، يفهم هذا العلم، او يستحدث موقفاً، ازاء تاريخ الانتاج المعرفي، بوصفه كائناً في المجتمع، بل احدى تداعياته. للفكر، اذن، مهمة محددة، تقتصر على تقويض القائم، وليس تعديله.

كم نحن محظوظين ! على حافة الارض، نستشرف موتنا، ونستبصر ماضينا كاملاً.

لطالما يكرر المنطق مثل الافكار، ولكن في أشكال اخرى. الاكاديميون، بمهزلة عارمة، لا يجترون الافكار في اشكال اخرى وحسب، بل يقومون بإعادة تصنيفها، وتلخيصها، في محاولة لتقديم دارس علمها التعددية الفكرية، ولك حرية الاختيار في تطبيق هذا الاسلوب، او ذاك، في هذه المشكلة المجزئة بالذات. انها ازمة التحليل الكمي، في عرض بيانات، مجتمعية محددة، وتبيان ظواهرها، من خلال الامبريقية التجزيئية ( كما يطلق عليها تشارلز رايت ميلز). تحديد المشكلة الجزئية، تجريدها من الكل، ومعالجتها، هذا ما تعلمنا الدراسة الاكاديمية.

ثورية الفكر، في التحامه مع الواقع، تتشكل في الموقف من الجذور. الاكاديميون، بوصفهم تراجيديا الاسلوب الاكاديمي الكامل، ليسوا على رأس هرم السقم، بل اسفله، النتيجة النهائية، الروح المتكاملة، لمشكلة عويصة بإحكام. لهذا حين يخوض الفكر معركته، ضد كل سفاهة فكرية، وتفلسفات حمقاء، ومحاولات بعث الفكر المثالي، فهو يخوضها ضد كل الجذور. فاذن، يعوز الفكر، ان يتغنى بما هو واقعي وثابت، اذا كان لا يتفحص الجذور، الأبنية الاساسية، التاريخية، بحركتها الديالكتيكية، التي تنتج للملموس الفكري وجوده المعرفي، حتى لو كان في لباس ثوري، فإنه، يجزأ ذاته، في مقارعة ذاته، من دون وعي، ويخلخل القائم، من خلال نفسه، لأنه نتاج له. اما الفكر العلمي التاريخي، الذي ينطلق من اعلى مراحل المنطق المادي الحديث، فهو تقويضي، ضدي، سلبي، بل نقضي. من دون قماش يستره، ومن دون حياء.

قلنا ان ثورية الفكر، تتجسد في موقفها من القائم، ليس حباً في الضدية، او من موقع العدم، في مقارعة العدم. حب الاحتجاج، الغريزي، لدى مثقفي البورجوازية الوضيعة، لذا تغدو افكارهم، عدمية، ظاهرياً وماهوياً، في اهدافها، عدمية البنية، وبالتالي في منهجها. الاكاديميون، يبدون وكآنهم ثوريين، بنقاش افكار جديدة، وعرضها على الجمهور، وتجزئة المشكلات، لإصلاح القائم، فيؤخذون بشكل جدي، جماهيرياً ونخبوياً، ببلاهة الاثنين. فيحتجون، بكلمات منمقة، ومزينة، ومزخرفة، على امور بديهية، ويتحدثون خلال البداهة المفهومة عامة، قل الايديولوجيا السائدة. انها افكار صاخبة، ومجلجلة، ومثيرة، لكنها، مستكينة، وواجفة، وضعيفة. انها تتحدث، بلغة غير لغة الارض، انها كلمات من دون صوت، انها فكر اللافكري، تشير بإصبعها نحو امور عدة، ولكن لا يخرج من فمها سوى اللاشيء، اللاشيء في مقارعة الشيء، انها لمهمة صعبة، فيخلق هذا الفكر لنفسه، قضايا متماثلة بذاته، ليقارعها بشكل واقعي.

اليس غريباً، ان اغلب الاكاديميين، يكتبون الهراء ؟، انه هراء ورقي. القوة السحرية، الفيتشية، الوحيدة التي تستطيع ان تجعل من هذا “ الهراء الورقي”، كلاماً جدياً، هو لقب (( الاستاذ الدكتور)). لقد كتب الاستاذ الدكتور هذا الكلام الفارغ، صفِقوا له !، كيف يمكن ان يكون على خطأ ؟، خريج السوربون هذا، او خريج اوكسفورد، او هارفرد ؟.

الاكاديميون، بالتالي، يتشدقون بتثوير الفكر، وان عليه صعود مسرح الثقافة، والبدء بتشغيل ذاته. فأنه يصبح بذاته، المشكلنة ثقافياً، المخطوطة نسقياً، متماثلاً بوجوده، اي اللامعنى. هكذا ينفصل عن الواقع، ولا يشيد نموذجاً له، ويتبدد. ففي انفلاته، يضحى الفكر الذابل، هافتاً وباهتاً، تواقاً ليكسب صفة “ مقوض لكل ما هو كوني”، في نية ديمومته. الاكاديميون، في الثريا، قابعين، غطت السحب ابصارهم، فيستحيل التحام النظري بالواقعي، يثرثرون، ثرثرة عجائز “شاي الضحى”، ولكنها تحت قبة الجامعات الاكاديمية، في مقهى المتقاعدين فكرياً، يجسدون عقلاً منطقياً متكاملاً، وينشدون :

عاشت البلاهة المرتبة !
عاش المصنع الهرائي العجيب !
عاش عقلنا المترهل العجوز !

فوق كل الناس : لينطفأ عقلكم فوراً، دوماً وابداً
ليعيش العقل في سروال ! ..