ملاحظات في جغرافية التنمية والتخلف


هاشم نعمة
2015 / 4 / 3 - 18:22     

منذ فترة طويلة اهتم الجغرافيون وعلماء الاجتماع الآخرون بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الموجود سواء بين الدول أو بين المناطق. وقد ساهمت اعمالهم في فهمنا للتنمية، بتعريفها عموما بأنها عملية من خلالها تُحسن الدولة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها وكذلك معرفة حصيلة هذه العملية. وتبنى العلماء من مختلف التخصصات مثل الاقتصاديين، والسسيولوجيين، والانثربولوجيين ومن علم السياسة وجهات نظر مختلفة لدراسة التنمية؛ لكن المساهمة المميزة للجغرافيين تتحدد بأنهم ينظرون لعملية التنمية بإطارها الواسع والشامل والذي يدمج الخاصيات البشرية والبيئية للبلد مع إرثه التاريخي الفريد وعلاقاته مع البلدان الأخرى.
وبالرغم من أن المصطلح يستخدم على نطاق واسع، لكن مفهوم التنمية باعتباره عملية قد تغير عبر الوقت ولا يزال مثيرا للجدل للغاية. وكانت فكرة التنمية قد أصبحت فكرة عامة في الخمسينات من القرن العشرين عندما بدأ الكثير من المستعمرات السابقة بالحصول على استقلاله. وبالنسبة لهذه البلدان، فإن نجاح خطة مارشال في أوروبا التي اعقبت الحرب العالمية الثانية أصبحت نموذجا يحتذى به. كنتيجة، ركزت التنمية في الخمسينات والستينات على نمو الناتج الوطني الإجمالي لكل شخص من خلال الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الرئيسية ومشاريع البنية التحتية، التبادل التقني، والتعويل على الأسواق المفتوحة. طريقة التنمية هذه أو هذا النموذج اصطلح عليها بـ "التحديث" وكانت قد ارتبطت باسماء علماء مثل والتر روستو، الذي كتب مقالة مؤثرة للغاية بعنوان "مراحل التنمية الاقتصادية" عام 1959.
في السبعينات بات واضحاً، بأنه بالرغم من جهود عقود من الزمن، لم يشهد الكثير من بلدان العالم الثالث نمط التنمية المتوقع بحسب نظرية التحديث. في الواقع، في العديد من هذه البلدان، ساءت أوضاع الفقر والتفاوت. وبدأت مجموعة اخرى من العلماء تؤكد بأن التحديث ببساطة قد عزز من الأنماط التاريخية الاستعمارية، لأن الطريق الوحيد للبلدان الفقيرة لتنمية رأسمالها المستثمر كان يتمثل في الاستمرار في تصدير المحاصيل الزراعية والمواد الخام إلى الدول الصناعية. وقد أكد الكتاب مثل فرانك بأن هذا الوضع قد اطلق عملية التخلف بسبب من أن اسعار صادرات القطاع الأولي من البلدان الفقيرة كانت تتجه للانخفاض عبر الوقت، في حين هذه البلدان مضطرة لدفع اسعار عالية مقابل الواردات الصناعية من الدول الصناعية. وقد استخدم والرشتاين هذا الإطار ليتوصل إلى أن "النظام العالمي" يضم المركز، وشبه الهامش والهامش، مكانيا يتمثل نمط الدول الصناعية "أو المركز" بالدول التي تطورت على حساب العالم الثالث أو بلدان "الهامش" التي تزود هذه الدول بالمواد الخام. أما بلدان شبه الهامش فكانت تلك التي تشترك بمميزات مشتركة مع كلا المجموعتين من الدول. واستنادا إلى فرانك ووالرشتاين، فإن طبيعة النظام العالمي تقضي على جهود بلدان الهامش لتنمية اقتصادياتها.
هذا النقد الموجه لمشروع التحديث اصطلح عليه بأشكال مختلفة منهج البنيوية، التبعية أو منهج الأنظمة العالمية. وهو يقترح أنه بدلا من نمو الصادرات الأولية، ينبغي أن تسعى بلدان الهامش لتصبح معتمدة على نفسها في إنتاج السلع المصنعة بواسطة فرض ضرائب عالية أو تعريفات على السلع الصناعية المستوردة، مترافقة مع تأميم الصناعات الرئيسية كوسيلة لكسر دائرة الاعتماد على دول المركز. وعلى نطاق أوسع، يستخدم مصطلح البنيوية، في الوقت الحاضر، للإشارة إلى أي منهج يقر بأن التفاوت في التنمية ناجم عن النظام العالمي المترابط والذي تكون فيه التنمية في بعض البلدان على حساب البلدان الأخرى. ومقالة غرانت وناجمان المعنونة "إعادة قياس التنمية غير المتوازنة في غانا والهند"، مثال جيد لوجهة النظر هذه، حيث أشار الباحثان بأن اتجاهات العولمة المعاصرة فاقمت عمليات التنمية غير المتوازنة في غانا والهند.
في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات نتج عن انهيار الإتحاد السوفيتي التحول إلى نهج السوق الحرة في الكثير من البلدان الاشتراكية والشيوعية السابقة. وقد سقط نموذج الدولة المركزية للتنمية الذي دعا له البنيويون باتجاه زيادة الاستياء، وتحول سياسة التنمية إلى الليبرالية الجديدة، مع التأكيد على خفض حجم الحكومة، وخصخصة الصناعات التي تملكها الدولة، والتوقف عن ضبط الاسعار والمساعدات، وتعزيز الصادرات من خلال تخفيض قيمة العملة. هذه الحزمة من الوصفات السياسية، اصطلح عليها بالتكيف الهيكلي، قد دُعمت بقوة من قبل الوكالات الدولية المانحة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باعتبارها إجراءات صعبة ولكنها تمثل "دواءا" ضروريا لتمكين البلدان النامية من تقوية اقتصادياتها. في الوقت الحاضر، وبعد أكثر من عشرين سنة على برامج التكيف الهيكلي ظهرت فقط نتائج مشكوك فيها في معظم الحالات، لذلك بدأت بالتزايد الانتقادات الموجهة لهذا النهج.
أخيرا، اقترح عدد متنامي من العلماء مناهجا بديلة للتنمية تتجاوز ثنائية البنيوية مقابل الليبرالية الجديدة. مقالة آ. ببنغتون ود. ببنغتون المعنونة "بدائل التنمية: الممارسة، المعضلات، والنظرية"، تفحص معرفة التنمية البديلة. حيث ينتقد الباحثان نظريات التنمية البديلة بالقول بأن علماء التنمية يجب عليهم التعامل مع السياسة العالمية الحقيقية. هذه المقالة أيضاً تتناول دور المنظمات غير الحكومية في عملية التنمية. البعض يسأل فيما إذا يمثل تزايد دعوات المشاركة والبحث عن بدائل للتنمية تغييرا حقيقيا، أو أنه مجرد إعادة تعبئة بسيطة لمفهوم التنمية دون معالجة القضايا البنيوية الأساسية للتفاوت والفقر.
رد فعل آخر على فشل الإصلاح الاقتصادي المستند إلى الليبرالية الجديدة كان قد تمثل في صعود "الجغرافية الاقتصادية الجديدة". والمفارقة الكبيرة هي أن أكبر عدد من العلماء الباحثين في هذا الحقل الفرعي الذي برز بسرعة هم اقتصاديو التنمية، وليس الجغرافيون. وقد دعا الاقتصاديون العاملون في هذا الميدان إلى إعادة اكتشاف أهمية الجغرافية وهم يستخدمون هذا المنهج لتفسير لماذا يشهد بعض مناطق العالم الجنوبية أداءا باهتا في التنمية رغم الاصلاح الاقتصادي المستند إلى الليبرالية الجديدة. ويشير الكثير من الجغرافيين بأن هذا المنهج يمكن أن يحيل اساس الاختلاف في أداء التنمية إلى "الطبيعة". وهذا يمثل مشكلة بسبب أنه يحجب التباينات القوية الموجودة داخل وبين الدول، والعلاقات التجارية غير العادلة، التي تمتلك تأثيرا هائلا على مسارات التنمية. هذه البراهين المعارضة ملخصة بشكل دقيق بمقالة بعنوان "الجغرافية، الثقافة، والنماء" للباحث اندريس أوبنهايمر.
من هذه القراءات يصبح واضحا بأنه لا توجد نظرية واحدة يمكن أن تفسر بشكل كامل لماذا توجد تباينات جغرافية في التنمية عبر العالم. ومع ذلك، اخذ هذه النظريات مجتمعة، يزودنا بمادة غنية عن الكثير من العوامل التي تساهم في التنمية، وكذلك يفيدنا بتعريف هذه العملية الذي يوصف بالمهمة المعقدة، ويستفزنا للاستمرار بالبحث في هذا الميدان الهام.

الترجمة عن كتاب: William G. Moseley et al.,(eds.)The Introductory Reader in Human Geography (Malden, Oxford, Victoria: Blackwell Publishing, 2007)