حول مفهوم التقدم، نص من كتاب-جدل الوعي العلمي- هشام غصيب


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2015 / 3 / 29 - 19:24     

المفكر الماركسي الأردني، الدكتور هشام غصيب

اول ما ينبغي التوكيد عليه عند تناول مفهوم التقدم هو موضوعيته وتاريخيته، فهو أولاً ليس مفهوماً قيمياً، وهو ثانياً ليس مفهوماً ذاتياً يعبر عن رغبات ذاتية، وهو من ثم ليس وعاءاً فكرياً لما يظنه هذا الفرد أو ذاك جيداً ومستحسناً بصورة اعتباطية. لكنه صورة موضوعية نشأت تاريخياً في حقبة معينة تحت ظروف تاريخية معينة ونمت مع نمو هذه الظروف وتطورها. فهو يعكس بنية تاريخية وسيرورة موضوعية معينة تتخطى اطار الأيديولوجيا الفردية والقيم الذاتية المحدودة.
وبصورة خاصة، فهو وليد الحقبة الحديثة الصناعية الطابع والروح، الأمر الذي يوحي بأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بخصوصية هذه الحقبة مقارنةً بالحقب التاريخية ما قبل الرأسمالية. واذا توخينا الدقة، نقول اننا نلحظ ارهاصاته في عصر الهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وفي عصر الثورة العلمية في القرن السابع عشر. لكنه لا يتبلور بجلاء بوصفه مفهوماً تاريخياً محدد المعالم والحدود ويعكس ادراكاً موضوعياً محدداً الا في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، ذلك القرن الذي شهد رسوخ الثورة العلمية الكبرى وتفجر الثورة الصناعية في تربة الحضارة الأوروبية.
ولكن لماذا لم يبرز هذا المفهوم الا في الحقبة الحديثة؟ وما هي خصوصية الحقبة التي ولدت مفهوم التقدم، بل وحولته الى قوة مادية اجتماعية جارفة؟ كيف تتميز هذه الحقبة كيفياً عن جميع الحقب التاريخية التي سبقتها؟ ثمة سمتان رئيسيتان لهذه الحقبة تميزانها بصورة حاسمة عما سبقها من حقب التاريخ الأخرى، وهما:
أ- تتميز سيرورة اعادة الانتاج في هذه الحقبة، سواءاً أكان الأمر متعلقاً بالتشكيلات الاجتماعية الرأسمالية ام التشكيلات الاجتماعية الاشتراكية، بأنها سيرورة ممتدة ومتسعة باستمرار، وذلك بعكس الحقب ما قبل الرأسمالية. اذ تتسم سيرورة اعادة الانتاج في التشكيلات الاجتماعية السائدة في الحقب ما قبل الرأسمالية بأنها سيرورة بسيطة تكرر ذاتها من دون أي تغيير يذكر وبصورة مملة تذكرنا بتعاقب الليل والنهار أو تعاقب الفصول الأربعة. اما مجتمعات الحقبة الحديثة من تاريخ البشرية، فهي بالضرورة وبحكم ديناميتها الداخلية، في اتساع مستمر وبحث محموم. فهي لا تبقى ولا تعيش الا بتثوير ذاتها وبأدوات الانتاج في باستمرار.

ب- تتميز الحقبة الحديثة عما قبلها ايضاً من حيث خصوصية ارتباط التشكيلات الاجتماعية السائدة فيها بالطبيعة، فاذا انعمنا النظر في الحقب التاريخية ما قبل الماركسية، وجدنا ان انموذج التغيير فيها مستمد من الطبيعة المتجلية للحواس، ذلك لأن التشكيلات الاجتماعية السائدة فيها شكلت امتدادات مباشرة للطبيعة وارتبطت بها ارتباطاً عضوياً. بذلك، فان دورة الحياة فيها حددتها دورات الطبيعة المتجلية للحواس والتي تتميز بالتكرار الممل الدائم. وبطبيعة الحال، فقد ترك ذلك اثره على بطئ وتيرة التغير في حضارات ما قبل الرأسمالية وأعطى الانطباع بأنها حضارات سكونية تتغير الوجوه فيها من دون ان تتغير البنى، مبدؤها محدودية الانسان والطبيعة كليهما، ومحمور فكرها نفي اللامحدودية الى ما وراء الطبيعة. اما الحقبة الحديثة، فتمثل بدء تحرر المجتمع البشري من هيمنة الطبيعة، بل وبدء تحكم الانسان بالطبيعة وسيروراتها عن طريق المنهجية العلمية والتقانة الحديثة. بذلك فانها تمثل بدء تميز الانسان عن الطبيعة وظهور طبيعته الحقيقية المنفتحة على اللانهاية الفعلية واكتشاف الانسان لجوهره الجدلي اللانهائي الطابع والروح. ففي الحقب ما قبل الرأسمالية، يكون الوعي البشري مكبوتاً مكبلاً، اسير سيرورات الطبيعة ودوراتها، ومن ثم يكون مسلوب الذات والحقيقة والجوهر، فيستعيض عن هذا الجوهر بجوهر وهمي محدود مستمد من الطبيعة الحسية. فلم يتجل هذا الجوهر المسلوب الا في الحقبة الحديثة، في الثورة العلمية الكبرى التي وحدت النظرية والتطبيق في حركة تصاعدية جدلية منفتحة على اللانهاية بحكم دينامية هذا التوحيد، وفي الثورة الصناعية والانتاج الصناعي الحديث الذي يضمر ويموت بغير التطوير المتسمر لأدوات الانتاج المادي. وقد جاء مفهوم التقدم تعبيراً ذهنياً عن هذا الانفتاح على اللانهاية، اللانهاية لمادية الممثلة في نظام كوبرنيكس-نيوتن للكون، واللانهاية الأبستيمولوجية الممثلة في المنهجية العلمية، واللانهاية الاجتماعية الممثلة في طبيعة الانتاج الصناعي المتطور.
ولكن، ما هي الفئات المسؤولة عن بناء هذا المفهوم وتجسيده؟ فالمفهومات لا تلد تلقائياً وعفوياً في التاريخ، وانما تخلق وتنتج وتصنع من قبل جماعات وفئات اجتماعية معينة تعبيراً عن سيرورات طبيعية أو اجتماعية معينة.
والحق أن ثمة فئتين رئيسيتين تتسم بهما الحقبة الحديثة اجتماعياً، هما المسؤولتان عن خلق هذا المفهوم وبنائه، وهما: فئة مفكري البرجوازية الثورية الصاعدة التي ظلت ثورية وصاعدة حتى عام 1848، وفئة مفكري البروليتاريا الثورية الصاعدة التي بدأت بالصعود فعلياً عام 1848.
ويتسم التصور البرجوازي للتقدم في أنه لا يعنى سوى بالجانب المقداري الكمي للتقدم، مهملاً الجانب الكيفي الذي يربطه في البنية الاجتماعية والقوى المتصارعة معاً ضمن هذه البنية. فهو يرى أن التقدم هو خط مقداري متواصل، من الزيادة في الانتاج والرفاهية والمعرفة والحرية الفردية، لا يتخلله التواءات ولا شروخ ولا قفزات. ولا عجب! فهو يرتكز على الاعتقاد بأن علاقات الانتاج الرأسمالية هي علاقة طبيعية وأبدية وقادرة على استيعاب قوى الانتاج الى أبد الابدين.
أما التصور البروليتاري الثوري للتقدم، فهو ينطلق من ادراك الطبيعة الاجتماعية العميقة لكل من الانتاج المادي والانتاج المعرفي العلمي والحرية، ومن ثم فهو يطرح قضية التقدنم لا على انها قضية نمو مقداري عفوي، وانما قضية صراعات اجتماعية حادة ضمن اطر اجتماعية معينة. فهو لا ينظر الى قوى الانتاج على انها مجرد قوى تكنيكية خارج اطار المجتمع والتاريخ، وانما ينظر اليها على انها قوى اجتماعية عاتية مرتبطة
جدلياً بعلاقات الانتاج السائدة المحددة تاريخياً، بمعنى غير الأزلية وغير الأبدية. وبصورة عامة، وفي حال الأنظمة التاريخية الطبقية، فان هذه العلاقات تبدأ مسيرتها بكونها حافزاً على نمو قوى الانتاج وتطورها وتنتهي بكونها قيداً على ذلك. عند ذاك، تدخل قوى الانتاج وتطورها وتنتهي بكونها قيداً على ذلك. عند ذاك، تدخل قوى الانتاج في صراع مريرمكشوف مع علاقات الانتاج السائدة، وتعمل في سلسلة من الثورات الحاسمة والأخرى غير الحاسمة، على تحويل علاقات الانتاج الى اخرى أكثر تطوراً وأرحب بناءاً، ومن ثم أكثر قدرة على استيعاب نمو قوى الانتاج وقدر كبير من الحرية الاجتماعية. وفي هذا التحويل بالضبط يكمن المفهوم البروليتاري الثوري للتقدم. فكل ما يدعم قوى الانتاج ويساعدها على النمو وعلى قهر القيود المفروضة عليها هو تقدمي، وكل ما يعوق نمو هذه القوى ويدعم سيطرة القيود النابعة من علاقات الانتاج السائدة ويساعدها على البقاء والديمومة هو رجعي. ويتبع من ذلك أن كل فعل يصب في بوتقة القوى التي تريد تحويل علاقات الانتاج الى أخرى أكثر رقياً وتطوراً هو فعل تقدمي، في حين أن كل فعل يصب في بوتقة القوى التي تريد المحافظة على العلقات والأطر السائدة يعد فعلاً رجعياً.

هذان هما المفهومان المفيدان والموضوعيان الوحيدان للتقدم، ولا مفهوم غيرهما. ومن الواضح أن المفهوم الثاني (البروليتاري الثوري) هو المفهوم الأوفى والأكثر علميةً بين المفهومين، بالنظر الى ماديته وعيانيته وشموليته.
وأخيراً وليس اخراً، نعلق على مسألة التقدم في الوطن العربي من زاوية التحليلات والتعريفات الطروحة أعلاه.
من الواضح أن العلاقات الاجتماعية السائدة في الوطن العربي تجمع بين سمات الحقب ما قبل الرأسمالي وسمات الحقبة الحديثة، وان كانت الهيمنة فيه من نصيب نمط الانتاج الرأسمالي. لكن رأسماليته ليست من النوع السائد في المراكز الرأسمالية الكبرى، والذي يعمد الى تثوير وسائل الانتاج وأدواته باستمرار والى اذابة أنماط الانتاج ما قبل الرأسمالية المتبقية في هذه المراكز، وانما هي من النوع التابع الذي تقع شروط اعادة انتاجه خارج اطاره، والذي يعمد الى تجديد أنماط الانتاج الأخرى. وفي ذلك بالذات يكمن جوهر تخلف هذا المجتمع. اذ ان هذه التبعية واستمرار علاقات الانتاج ما قبل الرأسمالية يحولان دون اكتمال البناء القومي الحديث ودون اطلاق الطاقات الانتاجية للمواطن العربي.
ومن الواضح أن النضال من أجل التقدم يستلزم كسر هذه العلاقات وقهر القوى الداخلية والأخرى الخارجية التي تعمل على بقاء هذه العلاقات وديمومتها، ويستلزم أيضاً تحويلها الى علاقات عقلانية تطلق الطاقات الابداعية للمواطن العربي ضمن اطار من الاستقلال والكرامة الوطنية.