ثرثرة كاس بيرة


ضياء حميو
2015 / 3 / 26 - 08:44     




تُعطيني شركةُ البيرة الفرنسية "Kronenbourg"، شكلاً انثويا، يجعلني أحبُ مخاطبتي كأنثى، كنتُ ضمنَ إنتاجٍ جديد للاحتفال بمرورِ 350 عاما على تأسيسِ الشركة، والحق يُقال، أن الشركةَ طيلةَ تلك الحقبةِ لمْ تصنعْ بيرةً، مذاقها يضاهي جمالَ كؤوسِها.
لديّ خلفيةٌ (قاعدة) سميكةٌ ومدوّرة، لكنَّ خصريَ نحيفٌ كأني عارضة أزياء، تتجهُ استدارتي نحو الأعلى، صدري مفتوحٍ باتجاهِ الفضاء، ماركةُ البيرةِ خُطَّ بالأبيض على زجاجي مع كتابة العام 1664، سنة الإنتاج الأولى، وأسفله بالأحمر رقم 350، تتسعُ سعتي إلى عشرين سنتيلتر فقط، قياس عذري..لستُ ككأس Hoegaarden"" البلجيكية التيتشبه الكركدن وتتسع إلى لتر، يا إلهي، كم أخاف أن أصطدمَ بها عندما يُقدمنُا النادلُ الى الزبائن، بسبب نتوءاتها القاسية وحجمها العملاق.. لغاية هذه الساعة لم أفهم كيف للبلجيك أن يصنعوا بيرةً بهذا الطعم السيئ برغم خبرتِهم وذوقِهم الرفيع في صناعتها؟
كيفَ لمن صنع بيرة "Leffe"، بمذاقِها الملائكي أن يُنتج هذا القُبح في تصميمِ الكأسِ والمذاق؟
ولكنّ سمعةَ البلجيك الحسنة، التي يستحقونها، لا تغفر لهم هذا الرعب اليومي الذي أعيشه من هاجسِ الارتطامِ بـ Hoegaarden"".
سأقولُ لكم شيئاً: أنا أخافُ أيضا من نوعين بلجيكيين آخريين، ليس بسببِ حجم كأسيهما، بالعكس فهما بغايةِ الروعةِ وكذلك طعمهما رغم ارتفاعِ نسبة الكحول بهما وهماChimay "الشيطان الأصغر"- هكذا اسميه-، و Duvel، وهو شيطان اسم على مسمى، انما اخاف منهما نتيجة مذاقيهما اللذين يخدّران اللسان، وهكذا، لا ينتبه شاربهما إلى قوتهما، فينتهي أمرُ من يُفرط بهما إلى الترنحِ بين الطاولات وربما يسقط على الأرض كمن تَلقّى ضربةً خاطفةً قاضيةً من ملاكمٍ صغير البُنية، لكنَّه قوي وشجاع.. لحسن الحظ، متذوقوا تلك البيرة نادرون.
أنتم لا تعرفون الخوفَ الذي تعانيه الكؤوس المصنوعة من الزجاج الرقيق!!، لم يَتبقَ من طرازي الخاص سواي، فقد كُسرنَ جميعا، ثم اندثرنَ.
قبل شهرين فقدتُ صديقتي التشيكية الشفافة Staropramen""، وهي بيرةٌ أنيقةٌ كأساَ ومرهفةٌ طعماً، وأصالتها المتجددة التي يدل عليه اسمها "النبع القديم"، كأسها يشبهُ راقصةَ الباليه، مميزة بمذاقِ بيرتها التي يتمنى شاربُها أن يجلسَ على سطحِ يختٍ في المساء ويَستغرقَ تاملاً في النجوم.. السرُّ الذي يميّز التشيك بهذه الحرفة هو المياه التي يصنعون منها البيرة، لديهم المياه المعدنية العذبة، مع خبرة متراكمة، والروحُ المحبة التي تمنح العالم أعذبَ شيء.. بيرة "Urqul"، صنف "Pilsner"، هكذا هم التشيكيون، الحياةُ تتدفقُ بحدائقهم وبيرتهم، إنه سرُّ روحِ الفلاحِ والصانعِ الُمنسكبِ على نباتاتهِ وبيرته.
كانت كأسُ "Urquel" تخافُ غسّالةَ الصحون: ليس لها قاعدة سميكة وقويةمثلي، يحفظ توازنها من السقوط، بل انها مدورة تتصلُ بممسكٍ رفيعٍ ككأسِ الشمپانيا.
المسكينة، كانتْ آخرُ مرةٍ تدخل بها "غسّالة الصحون" سالمةً.
في تلك الفترة استسلمتُ لكآبة بوهيميا سوداء، فماعاد يهمّني أن انكسرَ أو أسقطَ على الأرض، حتى أنّي لم أنتبه أو الاحظ إختفاءَ ذلك الشاب الوسيم جون.. كان رسّاما، وكثيرا ماكان يُخططُ في الركنِ الصغير الذي يُحبه : شفتاه تداعبان حافتي فيما نظره على ورقِ التخطيط، احتسى ثلاثة كؤوس وهو يُخطط غيمات تسبح في البحر، جون الذي يطلب بيرتَه المفضّلة ويلحّ أن يقدموني له- أنا الكأس- ليسكبها بي، كان هذا الأمر يفرحني جدا.. كيفَ أصفُ ملمسَ شفتيهِ الورديتين!
كأنّه يقبّل حبيبتهُ من خلالي، ذوقه عذبٌ كشفتيهِ، اختارَ فاتنةَ الطليان بلا منازع، بيرةُ Menabrea""" فاتحة اللون blonde""، لو امتلكتُ قبعةً لنزعتها وانحنيتُ إجلالا لمدينة "Biella" الإيطالية في الشمال الغربي، هكذا ومثلما فعل التشيكيون قبلهم، مزجوا روحَهم بمياهِ مقاطعة Biella"" العذبة، ليصنعوا بيرةَ صديقي الوسيم جون.
استمرتْ كآبتي شهوراً طويلة، كنتُ غائبةً عن العالم، لم ألحظ، أنهم قداختاروني ككأسٍ فائضةٍ على "ستيج" البار، يجمعون بي البقشيش ويلصقون بي ورقةً بئيسةً مكتوب عليها "Tips"، كانت قطعُ النقودِ ترتمي بداخلي، فأحسّها تخدشني، وهذا رعبٌ آخر، وَقعُها مؤلما، لم أبالِ لهذا، بل تمنيتُ للحظةٍ أن يَرمي أحدُهم بقطعةِ بقشيش بقوة ليقضي عليّ وانتهي من هذه الحياة، أو يُعاد تدويري، فأصيرُ ربما زجاجةً صغيرةً لقرطٍ حلو، تشتريني صبيةٌ، تَرشُّ عليّ كل صباح ذراتٍ من عطرها المفضل "Euphoria".
لا تسخروا من خيالاتي الحالمة وثرثرتي، فهكذا أنا .. يسمونني " الفرنسية الثرثارة "، عندما لايوجد زبائن، ليس لدينا نحن الكؤوس، سوى الثرثرة، بعد قرار منعِ التدخين في البارات، طالت ساعاتُ الثرثرة، إذ قلّ عدد الرواد، ومن ثم قلّ مردود مالك البار، خصوصا ان باره متخصص في البيرة الأجنبية وهي أغلى نوعاً ما من المحلية، على اية حال؛ قررَ أن يبيعه، وهو ماحدث فعلاً، إذ باعه إلى سيدةٍ تتحدثُ الدنمركية بلكنةٍ إيرلندية، حوّلته إلى صالون شاي، سيدة الصالون تشبه "پيا كياسكو" Pia Kjærsgaard*، بل هي توأمها- استنساخ.
يالها من غبية! تفتح صالون شاي في كوبنهاگن، المدينةُ التي سرُّ سعادةِ ساكنيها، هو في تذوق البيرة. تظن الحمقاءُ نفسَها في لندن الڤيكتورية، لم تحصلْ على مايكفي من الزبائن، ولذا قررتْ أن تجعله گاليري أيضا، استبدلتْ السيدةُ الكؤوسَ بأكوابِ شايها البليد مثلها، كنتُ كاس البيرة الوحيدة التي لم تَستبدلها، بسبب مهنتي الجديدة على "الستيج".
كانت مهنةً بليدة، ومعيبةً بحقي، سابقا، كانت الشفاه تقبّلني برقة، وها أنذا تُرمى بداخلي بكلِ قسوةٍ نقودُ البقشيش. استولى عليّ الحزنُ واليأس ولم أنتبه إلى سوداويتي إلا حينما أتى جون مرةً ورأيتُ الإحباطَ والحزنَ في عينيه بسبب تغيير المكان ، تحدّث على انفرادٍ مع السيدة، بعيدا عنّي ولم أسمعُ كلامهما، كانت عيناهُ تجوبُان المكانَ والأكوابَ وكؤوسَ الماء، هل كان يبحثُ عنّي؟، تمنيتُ تلك اللحظة لو تمكنتُ من الصراخ لأقول له :
- أنا هنا، خذني معك لا تتركني مع هذه الإيرلندية التي تشرب شايtea Rooibush"، بنكهةِ جنوب إفريقيا، مطعّمٌ بالتفاح، ومتنكرةً إلى تقاليد "الآيرش بوب وبيرتهِ "Kilkenny" ورغوتها، زبدُ الأمواج الراقصة!، لكنّ الورقةَ المتّسِخة والملتصقة بحروفها Tips""، جعلتْ جون لا ينتبهُ إليّ.
علمتُ بعد هذا، أنه اتفقَ معها على إقامة معرضٍ له في الصالون، مرّ من أمامي مرتين؛ في افتتاح معرضهِ وفي ختامهِ، ولم يلحظْني للأسف.. لم يبعْ الگاليري أي لوحة، رغمَ سعرِها الرخيص، كانت لوحةُ "الغيوم السابحة"، هي اللوحة الوحيدة التي كَتب عليها: "ليست للبيع".
لعله بهذا استفزّ النعجة" كياسكو"، التي أرادتْ أن تقتنيها بأي وسيلةٍ، لكنّه كانَ يُوميءُ برأسهِ رافضا.
كان جون أملي الأخير، بعدما فقدتُ كلّ صديقاتي، حتى أني لم أتمكن من وداعهنّ.. مازلتُ أتذكر العيونَ الخائفةَ لصديقتي الألمانية ""Erdinger"، تلك الرقيقة التي نَحتَ جسدَها فنانٌ، كانت نظرات من يحتسيها ترقصُ لجمالِها قبل أن يتذوقَ بيرتها، وددتُ وصديقتي" Erdinger"، أن نعانقَ بعضَنا بعضا قبل الوداع، لكني كنتُ بعيدةً عنها، فأجهشتْ باكيةً، على صدر مواطنتها الميونخية HB"".
ها أنذا في الظلمة وحيدةً مع أكوابِ الشاي والقهوة، وثرثرتهنَّ الغبية عن أصلهنَ الإيطالي النبيل، لم أتمالكُ نفسي فصرختُ بهنّ:
- اصمتن، كفى هراء، هل يزرعُ الإيطاليون القهوة أو الشاي، لتتبجحنَ بذلك؟إنهم معبئوا أكياس لاغير ، أصولكن يالقيطات من هناك، من بلاد الشمس.
وعند إغلاق الصالون مساءً وإطفاء الأضواء، يَعمُّ الصمتُ المكان، فتبدأ ليلةُ رعبي...
لم تمضِ غير ساعة، حتى فتحَ أحدُهم البابَ، حاملا مصباحا يدويا بيدهِ، كنتُ لا أتمكن من الرؤيةِ بسببِ الظلام، ظلَّ يَدورُ في المحل ويقلّب هنا وهناك ثم وَجّه مصباحَه اتجاهي وأخذ يتصفحني بقرَف.. وبسرعةٍ بطحني أرضا ولفّني بأوراقِ Eksra Bladet""، ( صحيفة الفضائح التي تجعلُ من الحبة قبة-) ، آخر شيء لاحظته هو أنه لفّني بالصفحة الخاصة ب "فتاةِ اليوم العارية"، ثم ألقى بي في صندوقِ كؤوس فارغ، فلّفني الظلام.
عزائي الوحيد في هذه الظلمةِ هو أني ملفوفة بصورةٍ شخصيةٍ لفتاةٍ عارٍيةٍ وحلوة ، الحمد لله أن احداً لم يلفّني بصورة "پيا كياسكو"، هذه الأخيرة، حتى لو كانتْ عاريةً مثلاَ،، ساتمنى رغم ذلك، أن اتفتتَ الى قطعٍ صغيرةٍ وأضيعَ في بحر الشمالِ على أن يلفَّني احدُهم بصورتها .
أمضيتُ الليلَ في صندوقِ سيارة، عرفتُ هذا من برودة المكان، كانتْ درجةُ الحرارة منخفضةً جدا إلى تحتِ الصفر بخمس أو عشر درجات، كنتُ ساتكسَّر بهذا الانخفاضِ لولا نهدا الفتاة العارية المنفوختان بالسليكون، فقد وهباني شيئاً من الدفء.
كنتُ أسمعُ في الصباح همهماتِ صوتينِ أنثويين، عرفتُ منهما صوتَ الإيرلندية، امّا الصوت الثاني فكان رقيقا هادئا، كأنه يخاف أن يجرحها الهواء حين ينطقُ الحروف: صوتُ موجةٍ خجولةٍ تسبحُ في غيمة.
رأيت النورَ في شقة "تينا" الصغيرة، أثاثها مرتّب بتمازج لونين؛ أبيض وأزرق فاتح.
بانَ وجهُها أخيرا...
كان مألوفا، كأنني وُلدتُ معه، لم أتذكر أين رأيته، ولكنني، كنتُ واثقةً من أنهُ مرسومٌ في قلبي.
أخذتْ مالكتي تُزيل أوساخي، لم تشطفني في الغسّالة، بل بيديها، يالهذا الملمس، كيفَ لمن يقبّلهما، الاّ يصير إلها؟
نشّفتني بفوطةٍ جديدة، نظرتْ مبتسمةً ، ثم ضمّتني إلى قلبها، وقبّلتني.
البشرُ غريبون! يقبِّلون الزجاجَ عوض تقبيلِ بعضِهم بعضاً، لو كنتُ أمتلكُ دَفقَ الحياةِ في شفاهِهم لما توقفتُ عن التقبيلِ ما حييتُ!
فرحتي بهذا الاستقبالِ لم تدمْ، فسرعان ما بطحتني مالكتي الجديدة أرضا ولفّتني بورقٍ سمائي اللون، ووضعتني بكارتونة لم أميّز لونها.
وهكذا عمّ الظلام ثانيةً، يالحظي التعس! استسلمتُ لقدري.
في النهاية، ما أنا إلا زجاج سينكسرُ يوما، ثم يتخلصون منه.
لا أعلم كمْ مرّ من الوقتِ، فقد استغرقتُ في سباتٍ عميق، لكن هذا الصوت الذي يتحدثُ مع تينا أعرفه، إنه صوت حبيبي الرسام جون، كان يغني هامسا: "تينا الجميلة، لم تكوني يوما سمكة كي أصطادك بصنارتي، بل، أنت غيمة تسبحُ في الموجات، وهكذا، تصيدين قلبي..أوي أوي.. تينا".
لن يحتاجَ المرءُ ذكاءً نادرا ليحزر أن سرّ الصمتِ هو قبلةٌ طويلةٌ، كنتُ أسمعُ أنفاس جون وحبيبته، تتناغم على ترددات نغمة "السي" الموسيقية بين الشفاه الأربع.
طلبتْ منه أن يُغمض عينيه.
كادَ قلبينا أنا وجون يخرجُ من مكانه، حين وضعتْني حبيبتُه بين يديه ممتلئةً ببيرته التي يُحب، قائلة له: "افتح عينيك حبيبي، غيمتك الراقصة ستمطر دوما في قلبك.. نخب عيد ميلاد حبنا الثاني".
إلى هنا انتهتْ ثرثرتي، قد تظنون أنها نهايةٌ سعيدة!..
ولكن مهلا.. ماهي النهايات السعيدة؟
أليست النهايةُ هي التلاشي؟!
شخصيا.. وكذكرى لن تتكرر،- كانت السبب بتصميمي الذي أحبه جون - لا أتخيل نفسي تحفةً بليدةً ، تُورث من جيلٍ إلى آخر، لأن وظيفتي هي كاس بيرة.
مامعنى الحياة بلا بيرةٍ تُسكبُ في داخلي؟ تفورُ فقاعاتها فتتكللُ حافتيبالزبدِ الشفيفِ منها!
لطالما تُسكبُ البيرة في جوفي، إذن، سأُنكسر حتماً ذات مرّة!!!
أترون كم أنا واقعية! إن صرتُ تحفةً فلن أحسَّ ببهاءِ رغوة البيرة وأرومتِها، وبخلاف ذلك، ساموتُ حتماً..
وإن استعملني حبيبي جون، عندها، لن اعرفَ كم من المرات سأرتشفُ عسلَ شفتيه!!
لا مفرّ من الفراقِ والتكسّرِ والتلاشي!
سأطرد خيالات الحتمية الآن، واسمحُ لنفسي الاستمتاعَ بما تيسّرَ لي من نشوةِ الحسِّ، وليكن ما يكون.


*Pia Kjærsgaard عضوة البرلمان، وزعيمة "حزب الشعب الدنماركي" اليميني.