ضوء على رواية شاكر الأنباري-أنا ونامق سبنسر-


جاسم الحلوائي
2015 / 3 / 26 - 00:06     

في قراءة الكاتب زهدي الداوودي لرواية "منازل الوحشة" للكاتبة دنى غالي، وعند إشارته إلى انشداده لأجواء الرواية وأهمية ذلك، استشهد بقول الناقد الألماني مارسيل رايش – رانيسكي في كتابه "من يكتب، يستفز" والذي جاء فيه: "إن الروائي مسموح له كل شيء على الإطلاق، وعلى سبيل المثال، يمكنه أن يقوم بمخالفات ضد المنطق أو ضد الذوق السليم. فقط شيء واحد غير مسموح له مهما كانت الأعذار: هو أن يبعث الملل في نفس القارئ".
إنني أشهد بأن رواية الكاتب شاكر الأنباري "أنا ونامق سبنسر"، التي لم تخل كلياً من أمور غير منطقية، وأخرى تخدش الحياء العام، لم تبعث في نفسي الملل ، بل وأمتعتني كذلك. وربما أن أحد أسباب ذلك هو أن لديّ معرفة وعلاقة حميمية بالأماكن التي يرد اسمها في الرواية. فقد أقمت في جميع المدن والعديد من المناطق التي مر بها بطل الرواية بما في ذلك كردستان وسوق قاسم رش على الحدود العراقية - الإيرانية وكرج وكوجه مروي في إيران، هذا فضلا عن طهران ودمشق. وقبل هذا وذاك، بغداد عاصمة وطني الأول، و كوبنهاكن عاصمة وطني الثاني. والمدينة الوحيدة التي لم أقم فيها هي ساو باولو في البرازيل. ولكن السبب الأهم لاستمتاعي بالرواية، هو أن الرواية تتناول شأناً وظاهرة سياسية وإنسانية عامة تجلت بقوة في العراق. وهذا ما شجعني على الإدلاء بدلوي في إلقاء الضوء عليها.
أنا على قناعة بأن الرواية الناجحة، إضافة إلى كونها لا تبعث الملل عند القارئ، فهي تلك التي تتضمن موضوعاً رئيسياً وتبعث برسالة. وسأتوقف عند هذا الأمر لقربه من ميدان اهتمامي كناشط سياسي، علماً بأنني لست بناقد أدبي وإنما قارئ عادي يتذوق الرواية أكثر من أي لون آخر من ألوان الأدب.

أعتقد بأن رواية الروائي شاكر الأنباري تتضمن موضوعاً سياسياً وإنسانياً مهماً، ألا وهو الأمن والاستقرار وأهميتهما الحيوية بالنسبة لحياة الإنسان والشعوب. ويشير الكاتب في سياق الرواية بأن هذين العاملين المذكورين لا يكتسبان طعمهما الحقيقي إلا عندما يتوفران في الوطن الذي ولد الإنسان فيه وترعرع في كنفه. وهذه الفكرة هي رسالة الرواية، على ما أعتقد، وكما سنرى لاحقاً.
إن بطل الرواية الذي أنهى دراسته الجامعية وصديقه نامق مدرس التاريخ، يهربان من بغداد ويصلان إلى إحدى قواعد الأنصار، وذلك لكي لا يتحولا إلى وقود لحرب عبثية هي الحرب العراقية - الإيرانية. ويترك الصديقان قاعدة الأنصار، قبل أن ينخرطا في الحركة الأنصارية، ويخرجا من العراق، ويصلان إلى الدنمارك عبر طهران ودمشق، مجتازين صعوبات جمة، وينضم إليهما نادر الذي يصادفوه ويصادقوه في مخيم كرج في إيران.
يلاحظ أن بطل الرواية الرئيسي تتنازعه نزعتان الأولى: "كوزموبوليتية، "أي نزعة إنسان لم يعد ينتمي إلى مكان بعينه.... إنساناً كونياً" ص 22. وهذه النزعة تجد تعبيرها أيضاً في البيتين من الشعر التي تتصدر الرواية وهي للشاعر الصوفي محي الدين بن عربي المتوفي في عام 1240 ميلادية والتي تقول:
رأى البرْقَ شرقيّاً، فحنّ له ولو لاحَ غربيَّاً لحنَّ إلى الغربِ
فإنّ غَرامي بالبُرَيْقِ ولمحِهِ وليسَ غرَامي بالأماكِنِ والتُّرْبِ
ويؤكد الراوي هذه النزعة الكزوموبوليتية بتقييمه الإيجابي للهجرة واللجوء، والإيحاء إلى عالم يجمع، من خلال الظاهرة المذكورة، مختلف الأقوام والأعراق والديانات. فيذكر البطل ما يلي:" أعتقد أن رؤية مثل هذه، وبوجود عشرات الملايين من المهاجرين من القارات هي ما يصنع الحضارة الكونية الجديدة، أي الحضارة المتعددة الأسماء، والأديان، والأطعمة، والألوان واللغات... والهجرة أصبحت عنواناً لحضارتنا الحديثة...الخ" ص 26 و 13.
يتحدث الراوي وكأن الهجرة ظاهرة جديدة، وهي ليست كذلك. فإذا ضربنا صفحاً عن الهجرات لبناء عالم جديد في أمريكا واستراليا ونيوزيلانده، وعرجنا على الهجرات بسبب الحروب والثورات والقمع في العصر الحديث، فسنلاحظ الكثير من الهجرات خلال القرنين الماضيين. وقد حدثت هذه الهجرات منذ أواسط القرن التاسع عشر حيث اندلعت الثورات في العديد من الدول في وسط أوربا وهاجر في حينها الكثيرون، ثم كومونة باريس 1871 فالثورة الروسية الفاشلة في عام 1905 لتأتي بعدها الحربين العالميتين الأولى والثاني. لقد خلفت كل هذه الأحداث الكثير من موجات الهجرة واللجوء واندمج الكثير من المهاجرين مع مرور الوقت، وتعاقب الأجيال، بمجتمعات دول اللجوء. إن أحد أحدث مظاهر الهجرة هي هجرة العراقيين الكثيفة في العقود الأخيرة، وهذا ما يشير إليه الكاتب أيضاً.
أما النزعة الثانية التي تتقاذف بطل الرواية، فهي الحنين إلى أجواء الوطن، حيث بقي العراق همه الذي لم يتمكن التخلص منه ص 57. فهو يعيش في بلد يوفر له الاستقرار والأمان والعيش الكريم مع ضمان اجتماعي وصحي، ومع ذلك يطلق زوجته ويترك طفلتين لا يتجاوز عمرهما الثلاث سنوات، وهما بأمس الحاجة إلى حنان أبيهما. ويتوجه بطل الرواية إلى البيئة المشابهة والقريبة جداً من الوطن (سوريا)، قبل سقوط النظام الدكتاتوري، ثم يقيم في الوطن بعد سقوط النظام، ويعمل مترجماً من الانكليزية في إحدى الصحف.
ويعود بطل الرواية من جديد إلى الدنمارك بعد عقد من الزمن. وهنا يلتقي بصديقه نامق الذي يعاني من اليأس وفقدان الاهتمام بشؤون العراق، وقلقه من مرض ابنته المصابة باللوكيميا، حيث تؤكد الفحوصات أن لا شفاء لها. أما صديقه الآخر نادر، والذي أقام عنده الراوي، فقد طلق زوجته البولونية المدمنة على الكحول والسهرات. وفي هذا البيت تربت أبنته كارين التي انحرفت هي الأخرى عن الطريق القويم وأخذت ترافق المنحرفات. وظل نادر يفتش في المزابل على أجهزة وسلع تركها أصحابها لسقوط موديلاتها أو لقدمها (تلفون، مسجل، سجادة، كومبيوتر و..الخ) ليبيعها في بولونيا. وهكذا يصاب البطل بخيبة أمل، وتتعمق خيبة أمله بعد تسريحه من عمله فيقول: "شعرت أنني غريب تماماً. هذه مدينة ليست مدينتي، لم أعش طفولتي فيها، ولا أعرف أصدقاء المدرسة فيها. هذه مدينة تعتقد أنني مختلف، ولا أنتمي إليها" ص 121. فأخذ بطل الرواية يفكر بالعودة إلى العراق.... إلى أرض العنف والدمار. إن الحافز الكبير لعودته جاء نتيجة لتنكر ابنته الكبرى نجمة أبوته من خلال قصة كتبتها وأرسلته على بريده الإلكتروني. وقد أبدع الكاتب في تأليفها أيما إبداع، ومما جاء فيها: "...لكنك لست أبي، لأنني لا أعرفك. لم تقل لي تصبحين على خير حين أنام في السرير، ولم تشتر لي هدايا رأس السنة، كل الآباء هنا يفعلون ذلك. كما لم تعلمني الحساب واللغة، ولم توصلني يوما إلى مدرستي، لذلك لا أصدق أنك أبي ... لماذا لم تشتق لي، وكأنني لم أكن موجودة في حياتك! ... لا أحتاج إليك. عد من حيث أتيت، لا أريد أن أراك مرة أخرى".
وقد تحمس بطل الرواية للعودة إلى العراق، عندما كلف بكتابة ملف عن العنف لجريدة الأخبار التي تصدر باللغة العربية في الدنمارك ويرأس تحريرها مراد قامشلي. وذهب ليعيش في بغداد وسط الانفجارات والبارات! ويقيم علاقة حب مع سُرى وهي امرأة متزوجة و في نفس الوقت موظفة وعشيقة صديقه سامر الذي آواه وساعده. وعندما تنكشف العلاقة يطرده سامر وتقطع الحبيبة علاقتها به. وتتوقف الجريدة في الدنمارك عن الصدور فتنقطع عنه المنحة. ويتفضل عليه صديق قديم في الإقامة في أحد البيوت وحيداً في حر تموز وينتظر حوالة من أخته ليعود إلى الدنمارك. وهو في تلك الحالة في بغداد يشعر بالغربة والضياع.
وهنا تتجلى قمة مصداقية الكاتب، حيث يتعرى تماما متحدياً كل من يلومه في هذا الكون عندما يقول: "في الحقيقة أنني لم أعد بقادر على الاستقرار في بغداد فقط، بل في كل مدن العالم. خمسة وعشرون سنة من الفراق حولتني إلى مواطن يكره بلده. فحين تجد أن بلدك لم يعد ممكن العيش فيه، ألا تكرهه في النهاية؟ ألا تمتلك الحق بكرهه؟ إن لم نقل تكره العالم كله. وتكره الحياة، وترغب في مغادرتها سريعا؟" ص139.
ما وصل إليه بطل الرواية من يأس وجزع وقبله بطلّي الرواية الآخرين نامق ونادر، يؤكد أن استقرار وأمن البلد، الأمن من جميع النواحي، هما الضمان لعدم تشتت أبناء البلد وضياعهم من جهة، وحبهم لوطنهم وتشبثهم به والدفاع عنه من جهة أخرى. وهذه هي رسالة الرواية الرئيسية، وهي ليست رسالة وطنية فحسب، بل وإنها عالمية أيضاً. وهناك إلى جانب الموضوع الرئيسي، هناك مواضيع و رسائل وعبر أخرى غير قليلة في الرواية، فعلى سبيل المثال : الحب، الخيانة، الوفاء، العنف، الموقف من العمل،الهجرة، والأبوة، فهنيئاً لمؤلفها على هذا المنجز. وهنيئاً لقراء العربية لحصولهم على رواية أخرى جديرة بالقراءة.