حكايات من أرباخا


حمودي عبد محسن
2015 / 3 / 22 - 22:13     

حكايات من أرباخا
عندما قرأت الدرة الجديدة للاستاذ توفيق التونجي الموسومة بعنوان ( حكايات من أرباخا ) وجدتها متلألئة في لونها العراقي الخاص. هذا اللون له ميزة خاصة كصنف قديم من صنوف الأدب الجاد الهادف الذي يبتغي ربط الماضي الموغل في القدم مع الحاضر المتغير بتقلباته ومعاناته بلغة الحكاية التي تعلممنا ان نسمعها ونحن صغار من أصوات الجدة الكبيرة أو الجد الكبير، تلك الأصوات العذبة الرقيقة التي تشدنا بلهفة لا مثيل لها إلى حركة أبطال الحكاية ونتوخى أن تكون نهاية الحكاية مفرحة دون أن يتعرض بطلها إلى أذى. أجل، كنا نستمع إلى الحكايات حول منقلة يتوهج فيها فحم أحمر لتتدفأ الغرفة به وبأنفاسنا البريئة في ضوء شموع راقدة تلك برفوف الغرفة وأحيانا كنا نتطلع بصمت إلى وجه الجدة الحنون في ظل ضوء فانوس باهت سواء في أيام الخريف أو الشتاء.
نعم، هذا الصوت الوقور كان يتدفق إلى أعماقنا، ويأخذنا إلى عجائب وغرائب لا تعرف حدودا بين بلدان التي أسرارها وألغازها لا تنتهي في ذلك الزمان المجهول، وكانت أغلب الحكايات تقودنا إلى مفهومي العدالة والظلم لهذا الملك أو ذاك ـ فهذا عادل وذاك ظالم ـ ومن تلك الحكايات كنا نستوحي الحكمة والتعقل والمنطق لكن حكايات أرباخا شيئ آخر، موضوعها يمزج بين عبرة الماضي وواقع الحال المأساوي المعاش، ومكانها كركوك أغنى مدينة في العالم بمواردها النفطية، وأفقر شعب يعيش فيها لا يجني من ذهبها الأسود سوى الدخان، نعم هذا الشعب الجميل الكريم الوديع المتنوع بأطيافه القومية والدينية وبلغاته المتعددة يتجاوز المستحيل ويصنع من التنوع جمالية الوجود والعيش المتآلف ويحيا بتنوع العادات والتقاليد كأمة عراقية بوطن واحد. أجل، من هذا الشعب الجميل بتآلف العيش والسلام يستمد توفيق التونجي حكاياته القديمة التي تغوص في عمق التاريخ ليميز بين الظالم والعادل، بين الكره والحب، بين الخير والشر، بين التهور والتعقل، بين السلام والحرب، لتتوحد الحكايات بنظرة تقدمية انسانية يبتغي من عبرتها عالم جميل بلا كره، بلا ثأر ليحتويها الكتاب بمئة وخمسين صفحة ولتكون مجمل الحكايات سبعة عشرة في مجملها.
فكما نعرف أن الحكاية تعكس تجربة تاريخية حدثت في الماضي، وهذه التجربة تحمل فكرة، والحكاواتي يوصل الفكرة إلى أجيال جديدة بجهد مضني كي يجعل من المتخيل أشبه بواقع محسوس بلغة تلقي ظلالها ببطء لتكون ثمرة خصبة ذات طعم مميز، وذات معنى، فهو الملقي، والمستمع هو المتلقي، فهذا التخاطب الشفوي المنقول يتحمل التأويل والتغير والتلاعب هدفه الاساسي ايصال الفكرة ببنية الحكاية ودلالتها في تجانس مترابط مؤثر في النفس المتلقية، فالحكاية المؤثرة لا تنسى ولو مرت على مستمعها أكثر من نصف قرن، وهنا نجد أن حكايات أرباخا تؤكد على نهوضها مكتوبة كي تقرأ، وكي تنشر حكمتها، وحكمة أبطالها في عالم يضج بالحروب والعنف والارهاب، فها نحن ندخل إلى شيخوختنا وذاكرتنا لا تنسى تلك الحكايات المؤثرة كما وان استذكارها يجعلنا ليس فقط مراجعة التاريخ بنظرة نقدية بل وكذلك لتكون عبرة لمن يريد أن يعتبر كما يقول الحكماء أن التاريخ يمر مرة بتراجيديا ومرة بكوميديا أي ألف مرة قد تكون عظمة وقد تكون مهزلة، ومهزلة الحكام تتكرر سواء كانوا في بلدان الشرق أو الغرب باشكال مختلفة بذات معنى واحد.
في بعض الأحيان استذكر تلك الحكايات التي رويت لي من قبل الجدة الكبيرة المتصوفة المتعبدة حافظة القرآن الكريم، وأقول كم من الجهد العظيم والمهارة التي لا توصف الذي بذلته بصوتها الحنون كي تترسخ في ذهني وأنا ادخل شيخوختي ببطء، هذا هو أدب المشافهة الجميل الذي صنع الأدب المكتوب، أدب الذاكرة، أدب الكلمة،أدب الاصالة، أدب المعنى باسلوب بسيط ولولا هذا الادب لما كانت هناك ملحمة الألياذة، ولا كانت حكايات ألف ليلة وليلة، ولا أصبح طائر العنقاء سيد الحكايات والأساطير عند العربوالأغريق، وفي الصين والهند وبلاد فارس.
الحكاية هي ثقافة الشعوب الشرقية بالذات وعاداتها وتقاليدها المختلفة، فالحكاية الشفوية هي الوسيلة التي تجاوزت المقدس، إذ ببساطتها صارت مروية وصارت متناقلة، وصارت تحمل عبرة، وصارت تحكي قصة مهما ككانت هذه القصة بنوعها وأخلاقها، والحكاية غالبا ما تلغي الغيبي وتغوص في الدنيوي البشري لكن حكايات توفيق التونجي يختلط فيها الإلوهي بالبشر لتكون شعبية محكية في العادات والتقاليد يغلب عليها الجانب الأخلاقي لتكون انعكاسي كعبرة لواقع اليوم حيث تسعى هذه الحكايات لازدهار العدالة الغائبة لتكون مثالية ضد الشر بالرمز والقيم، ولتكون نموذجية ببطلها الفرد. وهنا بودي أن أقتبس من الكتاب الملئ باخطاء هذا الكمبيوتر اللعين التي كان المفترض تفاديها: ( يروي أن في عهد سحيق منذ ايام سومر، أنه كان هناك ملكا عادلا يحكم مدينة آرباخا التي سميت باسمه، وهي مدينة النار والنور كركوك....)
حمودي عبد محسن
2015.03.22