وحشة البيوت المهجورة


منير العبيدي
2015 / 3 / 21 - 20:26     

تصدح إغنيةُ فيروز معتلية سياج منزلٍ
على باب بنوقف دا نودع الاحباب
نغمرهمن و تولع ايدينا بالعذاب
و ابواب ابواب.. شي غرب، شي اصحاب،
شي مسكر و ناطر ديرجعوا الغياب
آه الابواب

من برلين، يقودني خيالي المتعب الملحاح، أزور الاماكن التي احببتها، يمنعني من التأقلم و النسيان...
.. أسيرُ مُخلفاً أسيجةَ بيوتٍ بنية، صفراءَ تبنية، أو تلك التي تحمل لون الاسمنت الحائل. أشجار الزيتون و البرتقال و النارنج و النخيل تطوّق بيوتَ الطبقة الوسطى المتواضع الحميمي. ينتهي الطريق متعامدا على نهر ديالى عند السدة التي اذا ما اعتليتها ينكشف أمامي النهرُ يجرى هادئا في العمق و بساتين الهويدر في الضفة الأخرى حيث أشجار البرتقال تلوذ بالشموخ الفاتن للنخيل. من أول فتحة على اليسار، حيث ينتهي سياجُ المستشفى، ادخل شارعا تقع على يمينه بيوتٌ متطامنة ، تتهامس لبعضها بحفيف حدائقها، نخيل و أشجارُ تين و زيتون و برتقال. البيوت على الجانبين، أطفالٌ يلعبون، سيلوحون لي بأيديهم الصغيرة لأنهم يعرفونني. قبل النهاية، قبل ان أصل الى تعامد لشارع عرض، عند البيت قبل الأخير، انظر إلى باب فاتحِ الزرقةِ صغيرٍ بعرض متر واحد، ربما تكون من عمل حدّاد ستيني، أشعر برهبة لكني أفتح الباب، ألِج إلى الداخل ، فأجد خطين من الياس مثل حرس الشرف يحفّاني من الجانبين ، أكون عندئذ في حديقة البيت.
هذا هو بيتنا .
إنه بيتنا الوحيد الحزين.
أسمع يروي
أنا البيت
أفتقد من غابوا، عيوني تفتش الغرفَ و المسالكَ، يحزنني فقدان ما اعتدته طويلا، أشتاق إلى ما كان يجري تحت سمعي و بصري: رائحة الشاي، إيقادِ المدافئ، تحضيرِ الفطور، اندلاق الحليب على الطاولة، الصراخ المتذمّر، التهدئة و التهوين، قطعة القماش التي سارعت للمسح، تقريع مصطفى الذي تنحى جانبا مطرقا في الزاوية شاعرا بالذنب، خطوات (توده) الصغيرة حافيةً تهرع تصطف إلى جانبه تضامناً تواسيه، تتطلع منحنيةً قليلا إلى الأمام لتلم بوجهه المُطرق، صوت فيروز، حامل الفرح (عودك رنان، رنة عودك إلي)، الخطوات المرتبكة للصاحين توا من نوم صباح الجمعة، أنفاسكم التي تعلق بخاراً على الزجاج، القطة التي تنظر خللَ شباكِ المطبخ، أصوات الجيران تعبر معتلية السياج، حفيف النارنج و الصوت المكتوم لسقوط الثمار على الأرض الهشة.
اللوحات
نحن اللوحات: (حديقة أبي فريدون)، (ليلة اغتيال القمر)، (الموت الابيض)، (كتب و فانوس)، (كابوس) نشتاق لمن ينظر إلينا، يعيد اكتشاف أسرارٍ فينا، يرى مكامنَ الجمالِ في ألواننا و بناءنا، يشم فينا عطرَ زيت الكتان، التربنتاين و اللونَ المتقادم، يمسحُ عنا الغبار بقماشِ (الململ) المبتل ببقايا دفء الماء المغلي، يرشنا بالوارنيش يعيد لنا استقامتنا على الجدار عائدا خطوتين الى الوراء متطلعا إلينا بودِّ صديق.
نحن الكتب
نحن الكتب المرصوفة في المكتبة، المقروء بعضنا راقدا بملل على الاريكة، نبحث عمّن يقلبنا، يزيح عن حوافنا الغبار، نفتقد من طالما عانقت عيونُه كلماتنا، من هزته قصائدنا و قصصنا، من أمعن التأملَ في معانينا، من فك مغاليقَ رموزنا الممتنعة، من أمسك بمعجم ألـ ( The Advanced Learner s Dictionary ) ليلاحق الكلمات ، معانيها و تأويلاتها.
النخلتان
نحن النخلتين، وحدنا بقينا، نفتقد نشوةَ التلقيح، النشوة الراعشة التي تهز الشجرة الراسخة، شعورَها المغيّبَ بالأنوثة إذ تعانقُ حبوبَ الطلع الفوّاحة بالذكورة، نتطلع لمن يزيحُ عنا حملَ الشيص لسنوات تلاحقت... جذعُنا يبحث عن ملمس باطنِ القدم المقوسة و هي ترتقينا و رنين (التباليه) على جذعنا الشائخ ، نفتقد (التكريب)، القصَّ اللذيذ، الأنيقَ للزوائد، لليفِ المتلفِّ على الكرب.
أنا زهر (الشبوي)
شذاي يفتقد من يستنشقه .. بكم ، بوجودكم أدركت نفسي، بنشوتكم انتشيت، بمديحكم افتخرت. دَرجتُ أجول ممتطيا الهواء ماداً ذوائبي الى الشارع الإسفلتي، طالاً على بيوت الجيران مُرسلا لوامس عطري الى أطراف الحديقة، محيطا بجذوع النخيل و النارنج. أنا مُطلقُ العطرِ الأنيق الممراح، المُرحّبُ بي في الأماسي الطرية، حين يلتم شملكم ضاجين بالفرح، أشاكس العذارى العابرات، ألتف حول الأجساد الممشوقة، أطوق تدويراتها المثيرة، أقتحم خفاياها اللذيذة أكشف بميسمي مكامن السر و الشهوة....
أجول الآن وحيدا، وحيدا الا من نفسي.