تونس الحالية بين الواقع وضرورة الانحياز لمطالب الثورة

فتحي الشامخي
2015 / 3 / 11 - 21:11     


دخلت تونس سنتها الخامسة بعد الثورة، بعد أن شهدت عديد الأحداث والتطوّرات التي كانت، في أغلبها، في اتجاه معاكس لمطالب الطبقات الشعبية، وتطلعاتها الاجتماعيّة والديمقراطيّة والوطنيّة.

علّق الشّعب التّونسي آمالا كبيرة على الانتخابات التشريعيّة (٢٦/١٠/٢٠١٤)، وبقدر أقل، على الانتخابات الرّئاسيّة (٢٣/١١– ٢١/١٢/٢٠١٤)، بعد فترتي حكم الائتلاف الثّلاثي (التّرويكا)، بقيادة حزب النهضة الإسلامي (١١/٢٠١١- ٠١/٢٠١٤)، وحكومة ‹التكنوقراط› الليبراليّة (٠١/٢٠١٤- ٠١/٢٠١٥)، التي فاقمت الازمة الاجتماعيّة، وغذّت الكساد الاقتصادي، وتسبّبت في هشاشة الوضع الأمني العامّ.

كما كانت هذه الانتخابات اختباراً سياسيّاً وتنظيمياً هامّاً، بالنسبة للقوى التقدّميّة، التي قرّرت خوض غمارها.

أخيراً، لم تساهم الحملة الانتخابيّة في توضيح الرؤيا السّياسيّة والاجتماعيّة، لدى الطبقات الشعبيّة، وبالتّالي لم تكن نتائجها في صالح قوى التغيير الاقتصادي والاجتماعي، حيث نجحت القوى المعادية للثورة، التّي جنّدت طاقاتها وإمكانياتها الماديّة الكبيرة، في اختزال المسألة الاجتماعيّة في الصراع ما بين الرجعيّة الدينيّة، من جهة، والمدنيّة الحداثيّة، من جهة أخرى، وتهميش المسائل الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافية والبيئيّة، وتغييب مسألة السّيادة الشعبيّة الوطنيّة.

خسر حزب النّهضة الإسلامي عشرين مقعداً، في مجلس نوّاب الشّعب، مقارنة بمقاعده الـ ٩٦، في المجلس التّأسيسي السّابق. في المقابل تحصّل حزب نداء تونس، النّسخة الجديدة للحزب الحاكم في النّظام السّابق، على ٨٦ مقعدا. كما فاز رئيسه، الباجي قايد السبسي، في الانتخابات الرّئاسيّة، بنسبة ٥٤ بالمائة من الأصوات.

أمّا حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، شريك النهضة في التّرويكا، فإنّه لم يحتفظ إلاّ بأربعة مقاعد من مجموع ٢٩، التّي تحصّل عليها في الانتخابات السّابقة (٢٦/١٠/٢٠١١). فيما خسر حزب التكتّل، الشريك الثاني لحزب النّهضة في التّرويكا، جميع مقاعده العشرين. في المقابل، غنم كلّ من حزب رجل الأعمال، سليم الرّياحي، الاتحاد الوطني الحرّ، ستة عشر مقعدا، و٨ مقاعد لحزب آفاق تونس، الذي ينادي بتعميم إعادة الهيكلة الرّأسماليّة النيوليبراليّة، وتعميقها. أخيراً، اكتفت الجبهة الشعبيّة، التي تنادي، من جهتها، بمواصلة المسار الثّوري لتحقيق أهداف الثّورة، بخمسة عشر مقعدا.

بناء على هذه النّتائج، كلّف الرّئيس الجديد للجمهوريّة، الباجي قايد السبسي، يوم ٥ كانون الثاني/يناير/جانفي الماضي، الحبيب الصّيد، مُرشّح حزب نداء تونس، بتكوين الحكومة الجديدة في أجل لا يتجاوز يوم ٤ شباط/فبراير/فيفري ٢٠١٥.

شغل الحبيب الصّيد العديد من المناصب الحكوميّة، في عهد المخلوع، خاصّة منها مدير ديوان وزير الدّاخلية (١٩٩٧-٢٠٠١). أمّا بعد الثّورة، فقد عيّنه الباجي قائد السّبسي، عندما كان يشغل خطّة رئيس الحكومة (آذار/مارس- تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١١)، وزيراً للدّاخليّة. ثمّ تولّى منصب مستشار مكّلف بالمسائل الأمنية، لدى رئيس حكومة الترويكا الأولى (نيسان/ابريل/أفريل/٢٠١٢- شباط/فبراير/فيفري ٢٠١٣)، حمّادي الجبالي.

تدرّج الحبيب الصّيد في السلّم الوظيفي، داخل جهاز الدّولة، ودعّمه في سلطة ما بعد الثورة. وهو يمثّل اليوم همزة وصل بين حزبي النّداء والنّهضة. لقد أثار هذا الاختيار حفيظة الجناح الأقلّي، ولكن المؤثّر، داخل حزب النّداء، الذّي يتزعّمه الطيّب البكّوش، والذّي يضمّ العديد من الوجوه النّقابيّة والدّيمقراطيّة، التي لم يكن لها ارتباط بسلطة بن علي، بمقابل الجناح الأغلبي المتمثل بوجوه بارزة وقيادات في النّظام القديم، والذي يتزعّمه الباجي قايد السبسي. كما غذّى اختيار الحبيب الصّيد استياء كبيراً في صفوف من منحوا أصواتهم للنداء، في الانتخابات الأخيرة، وخاصّة النساء، تجاوباً منهم مع وعوده الانتخابية المتعلقة بعدم التحالف في الحكم مع رجالات النّهضة، وبضرورة إبقائهم بعيداً عن السّلطة.

لكن، خلافاً لما كان مُتوقّعاً، لم تتضمّن التشكيلة الحكوميّة، التي أعلن عنها الحبيب الصّيد، يوم ٢٣ من شهر كانون الثاني/يناير المنصرم، وزراء نهضويّين، ولم تتضمّن كذلك وزراء من حزب آفاق تونس، القريب من حزب النداء، كما أنّها لم تتضمّن قيادات سياسيّة بارزة، في النّظام السابق، حيث اقتصرت على بعض الإطارات الاداريّة السّامية في جهاز دولة بن علي. في المقابل تضمّنت حكومة الصّيد المقترحة، بالإضافة إلى عديد الوجوه البارزة في حزب نداء تونس، وبعض الوجوه ‹المستقلّة›، ثلاثة وزراء من حزب الاتحاد الوطني الحرّ.

سوف يقدّم الحبيب الصّيد يوم الثلاثاء (٢٧- ٠١) حكومته أمام مجلس نواب الشعب، لنيل ثقته، كما ينصّ على ذلك الفصل ٨٩ من الدّستور الجديد: «تَعرض الحكومة مُوجز برنامج عملها على مجلس نوّاب الشّعب لنيل ثقة المجلس بالأغلبيّة المطلقة لأعضائه...».

لا يوجد أدنى شكّ حول طبيعة برنامج حكومة الصّيد، الذي عبّرت عنه ميزانية الدّولة لسنة ٢٠١٥ بكل وضوح، والذي يمثل امتداداً ومواصلة للسّياسات السّابقة. في المقابل تطرح هذه الحكومة في اللحظة الرّاهنة أسئلة عديدة حول معناها السّياسي، والترتيبات التّي هيّأت لتشكّلها، خاصّة ما بين الحزبين الحائزين على أغلبية كبيرة داخل المجلس.

نبدأ بالسؤال المباشر والمتعلّق بالأصوات ١٠٩ الضروريّة لحصول حكومة الصّيد على ثقة المجلس؟ ليس بإمكان مجمُوع أصوات نواب الحزبين المشاركين في حكومة الصّيد، أي النّداء (٨٦ مقعدا) والوطني الحرّ (١٦ مقعدا) ضمان هذه الأغلبيّة بمفرده.

في الأثناء، أصدر مجلس شورى النّهضة المجتمع يوم الأحد موقفه من الحكومة، بتأكيده على عدم منحه ثقته لحكومة الصّيد، بناء على كونها: «لا تستجيب لمعايير حكومة وحدة وطنية، وعدم انسجامها مع التصورات التي أكدت عليها الحركة، حول حاجة البلاد إلى حكومة وحدة وطنية....». ما يعني أن حكومة الصّيد لن تحصّل على أصوات ٦٩ نائبا، في المجلس، ينتمون لحزب النّهضة. لكن لا شيء يمنع البعض منهم، بناء على اتفاق مسبق مع قيادة النّداء قد يكون حصل بينهما، من منح أصواتهم، لتمكين هذه الحكومة من عبور اختبار مجلس نوّاب الشّعب بسلام.

كما أنه بإمكان حزب آفاق تونس (٨ مقاعد) توفير عدد الأصوات الضروريّة، لضمان الأغلبية المطلقة لحكومة الصّيد، برغم عدم تواجده فيها، وامتعاضه بسبب ذلك، وبرغم ما تروج له قياداته حول احتمال رفضهم منح الثقة للحكومة، حيث ليس لحزب آفاق من مكان آخر سوى الاصطفاف وراء حزب النّداء.

في المقابل، تأكّد الآن رفض الجبهة الشعبية منح الثقة لحكومة الصّيد، الذي تقرر خلال اجتماع قيادتها. وبذلك تضع الجبهة حدّاً للتردّد الذّي ميز موقفها خلال الفترة المنقضية.

ليست الأغلبيّة المطلقة المعضلة الوحيدة التّي تنتظر حكومة الصّيد، وهو الأمر الذّي تدركه تماما قيادتا النّداء والنّهضة، حيث أن المسألة الأساسيّة تتعلّق بالقاعدة السّياسيّة، التي ستستند إليها هذه الحكومة،لمواجهة تحدّي فرض المزيد من «الإجراءات الاقتصادية والاجتماعيّة الموجعة»، كما يحلو لرموز البرجوازية المحلية القول، على الطبقات الشعبيّة، وتحقيق انتعاشة اقتصاديّة، بثمن اجتماعي عالي الكلفة.

يبدو من الصعب الآن توقّع صمود حكومة الصّيد، في حال نيلها ثقة مجلس نواب الشعب، طويلا في وجه الحركة الاجتماعيّة، والحراك الثّوري عامّة، اللذين استعادا حيويتهما، في المدّة الأخيرة، من دون مساندة سياسيّة قويّة وواضحة من قبل نداء تونس، وكذلك النّهضة.. وهو ما يدعم الاعتقاد حول توصّل النداء إلى اتفاق في الغرض مع النهضة، برغم عدم تواجدها في هذه الحكومة. وهو ما يدلّ عليه الانسجام الحاصل ما بين كتلتي الحزبين في مجلس الشعب، منذ بداية انعقاده يوم ٢/١٢/٢٠١٤، وخاصّة عندما اتفقا على اسناد رئاسة المجلس للنداء، ونيابة رئاسته للنهضة، ثم بمناسبة مناقشة ميزانية الدّولة لسنة ٢٠١٥ والمصادقة عليها. وكذلك من خلال إعداد النظام الداخلي للمجلس والتصويت عليه.

لقد أظهر إعداد الميزانية من قبل حكومة التكنوقراط المنتهية مهمّتها، ثمّ مناقشتها داخل لجنة المالية لمجلس نواب الشعب، والمصادقة عليها خلال الجلسة العامّة، بأغلبيّة بكبيرة، التوافق الكبير وشبه الكلّي الذي يتسع إلى أبعد من كتلتي النّهضة والنداء، ليضمّ أغلب المكوّنات السّياسيّة الممثّلة في هذا المجلس. أي التّوافق حول مواصلة السّياسة الاقتصادية والاجتماعية الرّأسماليّة الليبراليّة للنظام السّابق، مع تشديد طابعها المعادي لحقوق أغلبيّة السكان الاقتصادية والاجتماعية، وإرادتهم الديمقراطية والوطنيّة التّي عبّروا عنها من خلال الثّورة. هذا هو المعنى الاجتماعي لحكومة الوحدة الوطنية التّي تنادي بها النهضة.

وحدهم نوّاب الجبهة الشعبية، الخمسة عشر، في المجلس التأسيسي، بالإضافة إلى عدد قليل من النوّاب التقدميّين، الذين لا يتجاوز مجموع عددهم بالكاد العشرين نائباً، ممّن ينتمون لأحزاب سياسيّة أخرى، خاصّة حركة الشعب، أو من المستقلين، يحاولون، من داخل المجلس، مُقاومة المساعي المتواصلة الرّامية لتسريع مسار ترميم شُروط عمل وسير النظام الاجتماعي الاستعماري الجديد، في تونس، الذّي كانت ترعاه سلطة بن علي الدكتاتوريّة.

ليس هناك موضوعيّا ما يبرّر الاختلال الكبير لميزان القوى السياسي، داخل المجلس، لصالح القوى المعادية للثورة. إذ ليس بإمكاننا تفسير ذلك إلا من خلال العوامل الذّاتيّة، خاصّة منها المتعلّقة بالجبهة الشعبيّة، التّي لم تتوصّل إلى حدّ الآن إلى تحقيق التقدّم المنشود، على جميع الأصعدة السياسية والبرنامجية والتنظيميّة والتكتيكية، بما يتناغم مع المسار الثوري، الذي تعيشه البلاد في السّنوات الأخيرة. حيث لا يزال يغلب عليها التردّد، بسبب غياب الانسجام السياسي بين مختلف مكوناتها، وضبابية الرؤية البرنامجية، والخلل التنظيمي الكبير، الذي أفضى إلى بداية تآكل أغلب هياكلها الجهوية والمحليّة وتشتتها.

في المقابل تتميّز الحركة الاجتماعية، خاصّة منها الحركة النقابيّة، بحيويّة متواصلة، وهو ما يشهد عليه تطور الحركة الاحتجاجية العماليّة، في الأشهر الأخيرة الماضية، المتمثل خاصّة في الاضراب شبه العامّ في قطاع النّقل الذي تواصل أربعة أيام، أو الإضراب لأساتذة التعليم الثانوي يومي ٢١ و٢٢/١/٢٠١٥، كما إضراب عمال قطاع الفسفاط في الحوض المنجمي، الذي استمر أكثر من أسبوع قبل تحقيق مطالب العمّال. كما شهدت الساحة الاجتماعية تحرّكات احتجاجية أخرى، على غرار دخول طلبة معاهد الهندسة في إضراب مفتوح عن الدراسة، منذ بداية الشهر الجاري، واتساع دائرة الاحتجاجات لتمتد لحركة تلامذة المدارس، التي تشهد بدورها حراكا كبيرا على خلفيّة رفض القرارات الجديدة المنظمة لامتحان الباكالوريا.

وتأتي جميع هذه الاحتجاجات والمطالب على خلفيّة تنامي الاحتقان الشعبي، جراء تواصل الارتفاع المشط للأسعار، فيما تظل الأجور في القطاع العمومي مجمّدة للسنة الثالثة على التوالي. أما التعديلات الطفيفة للأجور في القطاع الخاصّ، وفي الحد الأدنى للأجور، فإنها غالبا ما تبقى حبرا على ورق، بسبب رفض أصحاب الأعمال تطبيقها بتعلّة المصاعب الاقتصادية، أو أنها تظل دون مستوى التضخم بكثير.

لن تحظى حكومة الصّيد، في حال نيلها ثقة مجلس نواب الشعب، بهامش كبير من المناورة، برغم ما هو متوقّع من دعم النّهضة لها. وذلك بالنظر إلى حدّة الازمة الاجتماعية وحيوية الحركة النقابيّة، بالإضافة إلى تعارض برنامجها مع المطالب الأساسيّة التي ما فتئت تنادي بها الأغلبية السّاحقة من التونسييّن والتونسيّات. هذا ما يضاعف المسؤولية السياسيّة الملقاة على عاتق القوى التقدميّة والثوريّة، وعلى رأسها الجبهة الشعبية، والحاجة الملحّة كي ترتقي إلى مستوى ما تتطلبه المرحلة من مواقف سياسيّة واضحة وجريئة، ومنحازة صراحة لمطالب الثورة، ومن خطة نضاليّة تقطع مع التردّد الذي ميزها خلال الفترة السابقة.

يجب أن تثق هذه القوى التقدميّة في نفسها، وفي وجاهة مطالبها، وفي قدرتها على دفع البلاد في الاتجاه الصحيح الذي رسمت ملامحه ثورة الحرية والكرامة.. بهذه الطريقة فقط سوف تنال ثقة الجماهير الشعبية ويضعف بالقدر نفسه تأثير القوى الرّأسماليّة الليبراليّة، على اختلاف أيديولوجياتها. وسوف تحمل إلينا الأسابيع والأشهر القادمة الكثير من الاجابات، التي نعمل من داخل الجبهة الشعبية، كي تكون جميعها في صالح المسار الثوري، وتحقيق المطالب الأساسيّة التي قدّمت الطبقات الكادحة من أجلها ثمنا عاليا.