التعليم واعادة انتاج التخلف


مارك مجدي
2015 / 3 / 5 - 08:13     

• وضع التعليم و دورة في اعادة انتاج التخلف .
"كي يتغير العالم, يحتاج المرء إلى تغيير الطريقة التي يصنع بها العالم. هذه هي الرؤية والممارسة العملية التي يتم عبرها إنتاج وإعادة إنتاج الجماعات".
بيير بورديو
من اجل ان نحصل علي اجابة وافية عملية لمسببات تدهور الوعي لدي الاجيال الصاعدة في مصر , يتعين علينا ان نلقي نظرة سريعة علي دور التعليم في المجتمعات الانسانية كاداة لاعادة انتاج القيم و الثقافة الاجتماعية , و اذ كنا نبحث كتقدميين عن مسببات ازمة الوعي في مجتمعاتنا , فعلينا ان نوصف الامور بشكل موضوعي و نعترف اعترافا صريحا, ان القيم الثقافية السائدة هي احد العقبات الضخمة امام عملية انضاج الوعي لدي جموع البشر , و ان الرجعية في وطننا العربي هي مرض مزمن تغذية القيم الثقافية المتخلفة التي كانت السبب الاساسي في انهاء محاولا تغير عديدة في عالمنا العربي .

تلك القيم التي ترسخ ثقافة الخضوع و الانهزام و التي تجعل التخلف و الرجعية مكون من المكونات الاساسية للبنية الثقافية في مجتمعاتنا , و لكن هذة القيم ليست سوي ستار يخفي قبح النظام الراسمالي الذي يتغذي علي تخلف العملية التعليمية , فتخلف التعليم يعني بقاء المنظومة الموجودة كما سنوضح بايجاز في السطور القليلة القادمة .
و كما خدعتنا الراسمالية باكاذيبها حول تكافؤ الفرص و حيادية التعليم , لزم علينا ان نوصف التعليم في ظل المجتمع الراسمالي وصفا واضحا يمثل الدور الذي يؤدية في محاربة التقدم . فقد وصف انطونيو جرامشي التعليم كسبيل لهيمنة الدولة البرجوازية و كمصدر اساسي لتزييف الوعي الجمعي , حتي اوضح بورديو دور المنظومة التعليمية بشكل مفصل كمنظومة تعيد انتاج نفسها و انتاج المجتمع . و لو اختلفت رؤية بورديو مع الماركسية في النظرة الي المجتمع و طبيعة الصراع و التركم , فانة قد وصف التعليم وصفا دقيق ( اداة لاعادة انتاج الجماعات )
و في سبيل ان نبين دور التعليم في اعادة انتاج المنظومة القائمة, لا سبيل امامنا سوي ان نبحث في كتابات المفكر و عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" , ليس لانة الوحيد الذي بحث في مثل هذا الملف , انما لوضوح رؤيتة الراديكالية لملف التعليم علي مستوي العالم , تلك الرؤية التي ساهمت بشكل اساسي في البناء الفكري لليسار المعاصر و خصوصا اليسار الفرنسي .
.يعتبر بيير بورديو (1930-2002) ، ومنذ نهاية الستينات قامة من أهم القامات الفرنسية والعالمية في علم الاجتماع . قام بورديو بكتابة أكثر من ثلاثين كتاباً إلى جانب مئات المقالات العلمية . أكثر ما ميز بورديو هو اشتغاله على مفاهيم تجريبية حيوية يأخذها من الشارع ومن الثقافة الحية بين الناس ، ويسائل عبرها ويختبر الأذواق الاستهلاكية والثقافية ، وأنماط الهيمنة ، ومنطق العلاقات في الحقول الاجتماعية. بينما الجانب الآخر من بورديو تمثل في صعوبة لغته العلمية ، ومفاهيمه التي قد تكون جديدة وخاصة به في هذا الحقل .
و في كتابة (إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم) يذهب إلى ما بعد التفسير البنيوي للنسق الاجتماعي باعتبار أن هناك عملية إعادة إنتاج ذاتي من قبل النسق لنفسه, ففي عملية دائرية يعيد النسق بناء نفسه وينتج كامل أدواره. ويتركز هذا العمل حول (نسق التعليم) باعتبار أن المؤسسة التعليمية تحتكر التلقين الشرعي، ولديها رتابة عمل هي غاية في التنميط، وتنتج فيها امتيازات شفاهية تميز الأساتذة والمؤسسات عموماً، مثل التقليد والتكرار والرتابة وترسيخ القوالب الجاهزة... ويرى أيضاً أن الوضع الاجتماعي إنما ينطلق من الحقل المدرسي الذي ينتج التفاوتات والاختلافات الاجتماعية .
1_ الابيتوس habitus_
يري بيير بورديو ان العملية التعليمية بشكل عام تشكل و تنسخ نماذج الادراك و اشكال السلوك لدي الدارسين , و يساهم بجانب التعليم الاسر و كافة الاشكال الاجتماعية الاخري . و ينتج ما يطلق علية بورديو استبطان خارجي , فهو يفترض ان الاشخاص اذا وجدوا في اوضاع اجتماعية مختلفة فانهم سيكتسبون نتيجة لذلك استعدادات مختلفة ذلك حسب وضعهم التاريخي و موقفهم من نسق اجتماعي معين أي مجموعة الاستعدادات المكتسبة و الإدراك والتقويم والافعال التي طبعها المحيط الاجتماعي في لحظة محددة و موقع خاص و هذا ما اسماه بورديو بالأبيتوس habitus..و طبقا لهذا التحديد فالأبيتوس منتج للممارسات , و أصل الإدراكات و عمليات التقويم و أصل القواعد المولدة للممارسات.حيث أن الأبيتوس يتوسط العلاقات الموضوعية و السلوكيات الفردية و تهدف تحاليل الأبيتوس لدى "بورديو" إلى استخلاص كل النتائج من أفعال إعادة الإنتاج الثقافية , فيتوقف بشكل خاص عند وظائف الشكل المدرسي لعمليات إعادة الإنتاج هذه و عند التمايز الثقافي.
" يخضع النظام التعليمي المؤسسي لسنة التنميط الروتيني, بقدر ما ينتظم نشاطه التربوي ليلبي وظيفة معاودة الإنتاج الثقافي. ما تتطلبه عادة الطبقات الحاكمة من النظام التعليمي يتمثل أساسا في معاودة إنتاج الثقافة الشرعية وإنتاج فاعلين قادرين على استخدامها شرعيا ( أي مدرسين , أساتذة , إداريين أو محامين أو أطباء أو أدباء إلى حد ما)...) , ومن جهة أخرى تخضع الممارسات التربوية وخاصة الثقافية منها التي تقوم بها فئة الفاعلين الخاضعين لسنة التنميط الروتيني...) ".
2_ التعليم و و هم الحيادية .
و عندما يطل علينا اولئك السذج المزيفون و يقولون ان التعليم حيادي , فليس علينا سوي ان نقرا عليهم فقرة من كتاب بورديو بصدد المسالة :"يصل موهوم (استقلالية النظام التعليمي المؤسسي ) المطلقة , إلى ذروته حين يتحول الجسم التعليمي بصورة كاملة إلى مجموعة من الموظفين , و ذلك لأن الأستاذ حين يتقاضى أجرا من الدولة أو من المؤسسة الجامعية , و ليس من الزبون مثل البائعين الآخرين للسلع الرمزية (المهن الحرة) , أو على الأقل مقابل الخدمات التي يقدمها لهذا الزبون , ليجد نفسه في ظل أفضل شروط التغافل عن حقيقة مهمته الموضوعية " .
.فالمدرسة تخفي الفكرة التقليدية لمبدا تكافؤ الفرص التي تهدف إلى جعلنا نقبل أنها أي المدرسة تعمل على توفير المساواة في الحظوظ للطلاب و لا ينجح إلا من يستحق النجاح.
بمعنى أن النظام التعليمي يشرعن التعسف الثقافي للمسيطر "حيث أن النظام التعليمي المؤسسي يتضمن ميلا إلى معاودة إنتاج نفسه بصورة ذاتية , فإنه يميل إلى معاودة إنتاج التغيرات التي تطرأ على نموذج التعسف الثقافي الذي يتولى معاودة إنتاجه.
إن نسق التعليم حسب "بورديو" , مكان لإقرار وترسيخ الثقافة , أي مكان فرض التعسف الثقافي و إنتاج التدابير الثقافية اللامتكافئة ,و بالتالي تدابير إعادة إنتاج التنظيم الاجتماعي القائم . فكل عمل تربوي هو عنف رمزي , على اعتبار أنه فرض تعسفي لنمط ثقافي من قبل سلطة تعسفية . "يعود ما لأي نظام تعليمي مؤسسي من ميزات بنيوية ووظيفية مخصوصة , إلى كونه يقوم بإنتاج ومعاودة إنتاج , بما للمؤسسة من وسائل خاصة , اللوازم والشروط المؤسسية التي لا بد من وجـودها و استمرارها سواء لاضطلاعه بوظيفة الترسيخ الخاصة به أو بوظيفة معاودة إنتاج نموذج ثقافي لا يكون من إنتاجة,هو يسهم بمعاودة إنتاج العلاقات القائمة بين الجماعات أو الطبقات .
3_ اعادة الانتاج الثقافية و ضرورة تخلف التعليم لصالح الطبقات الحاكمة.
إن المدرسة في نظر"بورديو" وسيلة أو أداة في يد الطبقات الحاكمة لإنتاج ولمعاودة إنتاج الثقافة السائدة , و هكذا إعادة إنتاج نسق العلاقات الذي يخدم مصلحة الطبقة المهيمنة ,من خلا ل موظفين تغافلوا عن مهمتهم الموضوعية.
"النظام التعليمي أداة لتكوين التعسف الثقافي في المجتمع و للحفاظ على استمرارية الأوضاع الثقافية و الاجتماعية القائمة و بالتالي تكريس التبعية و هكذا الدفاع عن استمرارية السوق الرمزية بما لها من فعالية للحفاظ على الوضع القائم . و هكذا نجد أنه من الممكن أن تأخذ التبعية شكلا مفارقا تماما, و ذلك عندما تتم من خلال نظام تعليمي مؤسسي معين". "حيث أن النظام التعليمي المؤسسي يتضمن ميلا إلى معاودة إنتاج نفسه بصورة ذاتية , فإنه يميل إلى معاودة إنتاج التغيرات التي تطرأ على نموذج التعسف الثقافي الذي يتولى معاودة إنتاجه ".
و عندما ننظر الي الحالة المصرية نجد انفسنا امام نسق تعليمي يسهم ليس فقط في اعادة انتاج الوضع القائم بل يجعلة يزداد تدهورا, فان الوضع في مصر فيما يتعلق بالتفاوت الطبقي قد تجاوز حدود اعادة انتاج التفاوت داخل المدرسة في شكله النمطي الراسمالي, فالنمط الراسمالي المتخلف الذي تعيشة مصر , قد سمح ببناء مدارس متاحة لابناء الطبقات المحظوظة و فقط ,و هي مدارس مختلفة كليا عن المدارس الحكومية او الخاصة المتاحة للعامة (المؤسسة الرسمية لاعادة الانتاج) , بل اننا لو نظرنا اليها قد نعتقد انها في بلدا اخر . فمناهجها مختلفة و مساحتها شاسعة و بها وسائل ترفيه لا محل لها في العملية التعليمية .
لقد لجات الطبقة المحظوظة في مصر الي النزوح خارج المنظومة التعليمية العامة , و انتجت لنفسها منظومة المدارس الاستثمارية الخاصة و هي المنتج الاساسي للرؤساء و المديرين و القضاة و كبار الموظفين , بينما المدارس الاخري هي المنتج الاساسي للكادحين و المعدمين و العاطلين المسمومين بالقيم المعادية لمصالحهم .
اذن نستخلص من السطور السابقة :
1_ تروج المدرسة الثقافة السائدة لدى الطبقة المهيمنة , و التي تختلف عن الثقافة السائدة لدى أبناء الطبقات الشعبية و في هذا نوع من عدم تكافؤ فـرص التعلـم , و بالتالي هناك إقصاء ممنهج للدارسين من الأوساط غير المحظوظة .
2- ان تخلف العملية التعليمية ضروري لبقاء المجتمعات الراسمالية , كسبيل لاعادة انتاج القيم السائدة و توفير اعداد كبيرة من الموظفين الخاضعين و للتامين اعادة انتاج اعداد كبيرة من العمال المتسربين من التعليم ,تلك الاعداد التي تشكل عموم الطبقة الكادحة , و ايضا في حالة المتعطلين المكون الاساسي لجيش العمل الاحتياطي .
3_ان نسق التعليم من المدرسة الي الجامعة هو مجال دائم للصراع الثقافي و رغم محاولة الطبقات الحاكمة لاستخدام نسق التعليم في اعادة انتاج ثقافتها لتسيطر علي المجتمع و تضمن بقائها , تبقي امكانية تحويل نسق التعليم الي اداة في سبيل التحرر من ما هو سائد عن طريق عملية نضالية واسعة الافق .
خاتمة :
و بعد ان عرضنا بشكل سريع و مختصر رؤية بورديو حول التعليم و دورة , يتعين علينا ان ننظر الي التعليم كاداة للتحرر من التبعية , فان كانت عقولنا تدور في دائرة مفرغة و مواردنا البشرية يتم اهدارها قصرا بسبب منظومة تعليمية قائمة . وجب علينا ان نعيد تاسيس المنظومة التعليمية علي اسس علمية نقدية تعطي الاجيال القادمة الفرصة في الابداع .و التحرر من كل اشكال الدوغمائية التي لا تصنع لنا سوي مجموعة من الخاضعين المتقولبين في قوالب جامدة ,لا تنتج سوي التخلف .