نقض فلسفة الإنسان


عقيل صالح
2015 / 2 / 28 - 19:33     

-1-
أسطورة نرجسية متخيلة، لا أحد يمس بها، الذات المعزولة، أنا المتعالي الطموح، فوق ذاتي، الأول والأصلح، الفخور المتبجح، اغوي نفسي بنفسي.
أسطورة نرجسية متخيلة، في مجرة معزولة، حان وقتها، لا يصدر منها أي حس، اجلس وحيداً، اعزف مقطوعتي واستحوذ على كل شيء.
هل عرفت من أنا؟

-2-
الإنسان! الخرافة البورجوازية! المفهوم ذاته، صناعة فلسفتها الايديولوجية، «الحرية، والإخاء، والمساواة» هكذا هتف الفرنسيون المستنيرون في مواجهة الكنيسة، في مواجهة قمع ما بعده قمع، طبقة صاعدة وأخرى هابطة، هكذا يتحرك التاريخ، مجراه هو الصراع الطبقي.
صعود الطبقة البورجوازية، في النظام الاقطاعي، ولّد فكراً خاصاً بها، الحرية الفردية هي حرية اقتصادية، للإنتاج السلعي، فالفن لم يعد ملائماً لسوق العمل، الذي يفرض بيع قوة العمل بوصفها سلعة خاصة. هذا الاقتصاد يفرض، بالضرورة، فكراً خاصاً، في صيرورته، الفرد لا بد ان يملك حرية قانونية، تكفل حريته الاقتصادية، ان يكون حراً من العبودية، ليلائم البناء التحتي.
الإنسان، في نهضة هذه الطبقة، اصبح موضوعاً رئيسياً، حريته هي الأساس الاول لهذا النظام الطبقي. وبالفعل، حصل الإنسان على هذه الوعود الإنسانوية (فلسفة الطبقة البورجوازية)، إذن، هي صيرورة فكرية في احشاء حركة تاريخية، تحولية ومفصلية، ولادتها كانت ضرورية للحركة نفسها، بل انها، كإنتاج فكري، تعقلن هذه الحركة التاريخية.
الإنسان هو موضوع هذا الفكر، ولهذا هي انسانوية، قائمة على مركزيته في الفكر، النظرة الذاتية قوامة على الموضوعية، الفكر والمادة، وليس بالعكس، هذا ما قامت عليه ميكانيكية ديكارت، حيث يلتقي عالم الفكر بعالم الواقع، يلتقي النقيضان، جسم الإنسان المادي الآلي القائم على الامتداد لا يتفعل من دون فكر الإنسان بشكل اساسي، الغدة الصنوبرية، تفصل بين الإنسان والحيوان، الأول كائن وجودي مفكر، الآخر جسم لا نفس فيه. هذا ما قام عليه الاغتراب الروسوي، اغتراب الإنسان هو طريقه الى الحرية، في حرب طبيعته بالمجتمع، فهو مولود حر، ثم يدخل في دوامة الاغتراب، ويمكنه العودة الى حقيقته، وفقاً لأنثروبولوجية روسو، من خلال الإرادة الحرة، الصفة الطبيعية لتكوينه، فهو مغتربٌ عن نفسه الحقيقية، من خلال بيع نفسه في مجتمع المال.
الذاتية الإنسانية ومركزيتها، أساس التفكير البورجوازي، أفكار مثل حرية الفرد، والاغتراب، والعدالة الاجتماعية، جميعها افكار آنية، متعلقة بصعود طبقة وهيمنة ايديولوجيتها في حكمها الطبقي.

-3-
للفلسفة الايديولوجية البورجوازية، اذن، طابعاً خاصاً، في تكوينها البنيوي، قائمة على الإنسان بشكل أساسي، في أفكار مثل الحرية والحقيقة والاغتراب والمساواة، وهذا الطابع، لم تخلقه البورجوازية لتخدع الناس، فهي اضطهدت من قبل الاقطاع، وموقفها الطبقي يبرز موقفها الايديولوجي، فالأيديولوجيا تشكل واقعاً في علاقة المتخيل بالواقع، فإن واقع الاقتصاد الرأسمالي، الذي كان يتأسس في سيرورته التاريخية، خلق واقعاً خيالياً (ايديولوجياً) لدى البورجوازية، وهذا الخيال الذي يتجسد في مقولات انسانوية. هذا الخيال نفسه، ليس خديعة مفروضة على الطبقات الاخرى، كأنما تم التخطيط لها بشكل مسبق، بل انها، كأيديولوجيا، أساسها اللاوعي (آلتوسير)، تصدقها الطبقة نفسها، وتدافع عنها، لأنها كمنظار خيالي للواقع، يبدو حقيقياً لدى الإنسان نفسه. فالإنسان، كما يقول آلتوسير، كائن ايديولوجي بطبعه.
في القرن العشرين، تطورت المقولات الإنسانوية، فظهرت تيارات فلسفية مثل الفينيومولوجيا، لدى (هوسرل)، الذي يقيس الواقع من خلال وجهات نظر الافراد انفسهم، وظهرت تيارات اخرى مثل الوجودية التي تمثل عودة الى (الإنسان).ولكن، المثير للاستغراب، هو ان الشيوعيين تبنوا مثل المقولات، بل ان أغلب الأدبيات الشيوعية، تضمنت في نصها، مقولات انسانوية، مثل كرامة الإنسان، الحرية السياسية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، المساواة، الخ.. لا بأس ان نجد تيارات فكرية اخرى، تردد مثل مقولات عصر التنوير، وتمثل عودة اليها، ولكن الماركسية، في شكلها العلمي، تناقض الكلام الإنسانوي، فكيف تم المزج بينهما، هل هما نقيضان ولكن بمثل الجوهر؟، هل الماركسية النقيض الظاهري لفلسفة التنوير، ولكن لها تجانساً داخلياً (مخفياً)؟، ولئن كان جوابنا ينفي ذلك، فكيف اذن يتحدث الشيوعيون بهذه اللغة الإنسانوية رغم مقارعتهم لأيديولوجيتها؟
الماركسية ليست ايديولوجية ذاتية لطبقة، فأنها ليست، كما يبدو من الاعتقاد السائد، في تكوينها، صممت لغاية، مثل البؤس او الفقر او حالة اللاإنسانية. يعود بنا تحويل الماركسية من علم إلى ايديولوجية طبقية، الى النقطة الذاتية، نقطة البروليتاريا في حالتنا، انها ايديولوجية طبقية، صنعت لغاية، لتحرير طبقة من الاغلال، بينما الماركسية، بوصفها علماً، موضوعها محدد جداً وهو التاريخ، علمها هو التاريخ، فلسفتها هي المادية الديالكتيكية، هذا العلم تأسس في انقطاعه عن الفلسفات الايديولوجية، الفيورباخية والهيجيلية، وكون لنفسه موضوعاً خاصاً، حيث العلوم لها موضوعات خاصة لا تتجاوزها، علم نمط الانتاج (علم التاريخ). الماركسية، إذن، ليست ايديولوجية لطبقة، وليست تاريخانية، انها منفصلة انفصالاً تاماً عن فكر التنوير، الذي يمتاز بالتاريخ الخطي، وانها ليست قائمة على الإنسان، بل على نقضه، في تقديم المادة على الفكر، التفكير الموضوعي هو جوهرها. مفاهيم مثل الاغتراب الواردة عند ماركس، هي من بقايا الفلسفات الايديولوجية التي قام بالانقطاع عنها بشكل كلي اثناء تأسيس علمه، علم التاريخ.
المنطق الديالكتيكي، الفكر حول الفكر، يحدد: اولية المادة وثانوية الفكر، ان الواقع موجود بشكل مستقل عن الفكر، يستقل الواقع عن الفكر، والأخير يحاول فهمه. بهذه الطريقة تدخل سيرورة الفكر في علاقة مع سيرورة الواقع، حيث يتم التفكير في الواقع نفسه، الكل الفكري كما يطلق عليه ماركس. تحديد وتحليل الواقع، إذن، عملية ذهنية بحته، حيث يتم التفكير فيه. هذا هو تحديد المنطق الديالكتيكي، ويدخل الشيوعيون في ملابسات عديدة، في محاولة هضمه، في الرجوع الى الهيجلية، حيث الواقع الذي وقع عليه الفكر، وانه نتاج الأخير، او الى الامبريقية التي تجد ان التفكير في الواقع هو الواقع نفسه. المنطق الديالكتيكي، فلسفة الفكر الماركسي، يحلل الواقع، بفهم سيرورة المعرفة البشرية، ومكانها المادي، وعلاقتها بالواقع المادي نفسه.
المقولات الإنسانوية، (العودة الى الإنسان)، نجدها في مراحل مختلفة عند التطور الفكري للماركسية، فكانت موجودة لدى ماركس (ما قبل 1845) وظهرت مجدداً بعد موته (الاممية الثانية)، وظهرت فيما في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي (الذي انتقد فيه خروتشوف ستالين لممارسته الديكتاتورية والدموية ضد الشعب نتيجة ممارسات «عبادة الفرد») وتم تجسيد الإنسانوية كالخط الفكري للحزب الشيوعي السوفيتي في المؤتمر الثاني والعشرين (حيث تم الاعلان فيه بشكل رسمي إلغاء الاشتراكية). للشيوعيين، إذن، مصادر عدة يستندون إليها في انسانيتهم، النقيضة للماركسية اللينينية، النتيجة الرئيسية للمؤتمر الثاني والعشرين الذي خلق انشقاقاً في الحركة الشيوعية العالمية، ما بين الماركسية اللينينية والإنسانوية، جعل الشيوعيين انفسهم يصطفون ويصنفون ذواتهم، وسط هذا الانشقاق.
أعلن المؤتمر الثاني والعشرين ان الاتحاد السوفيتي لم تعد دولة ديكتاتورية البروليتاريا، لأنها تحولت الى دولة الشعب كله، التناقضات الطبقية، وفقاً للمفهوم السوفيتي، المابعد الستاليني، تتلاشى في الاشتراكية. فهي الآن، دولة الشعب، تحتضن كل طبقاته، المنتجة وغير المنتجة، ويذوب التباين ما بين العمل الجسدي والفكري، الذي كان لا يزال قائماً في المجتمع السوفيتي. تخلى السوفيت عن التحليل الطبقي، البشر لم يعودوا مصنفين طبقياً، بل بشكل فردي. الفردانية هذه، في الفكر، متجانسه جداً مع الفكر البورجوازي، الإنسانوية الفردية.
تبنى السوفييت، اذن، اللغة البورجوازية، وتبنى معهم الشيوعيون (التابعون)، اللغة نفسها، التي تحولت، من علمية إلى ايديولوجية، في اقتباس مفاهيم تبين ميولها الطبقية. الحركة المضادة لديكتاتورية البروليتاريا، الموجودة في قلبها، قامت بعقلنة حركتها، من خلال اقتباسات تبين موقعها الطبقي، اللابورجوازي واللابروليتاري، بل الطبقة وسطوي، الواقعة بين الفكرين، ففي ضديتها للبورجوازية تقتبس مقولات بروليتارية، وفي ضديتها للبروليتاريا تقتبس مقولات بورجوازية. تتفق الطبقتان -البورجوازية والبروليتارية- على أن دولتهما قائمة على حرب طبقية، بينما يظهر الوسط بينهما، ليهدأ من وطأة هذه الحرب.
الحركة التاريخية، المضادة للاشتراكية، من عام 1953 الى 1961 حاولت تبرير انقلابها في هذه السنوات الى ان اعلنت تقويضها للاشتراكية، من خلال عقلنة هذه الحركة، بالعودة الى مفهوم الإنسان. هذه العودة، في جوهرها، بالضرورة تلمح، بأن الشكل السابق، الشكل الديكتاتوري البروليتاري، غير إنساني. العودة الى الإنسان، تعني ان هناك ماضياً لا إنساني، عبادة الفرد، هكذا تم تحديد هذا الماضي، من خلال نقد غير ماركسي لينيني، بطمسه لعلم التاريخ، الصراع الطبقي، ويستبدله بالصراع السياسي المجرد، الواقع في البنية الفوقية، في بنيوية المجتمع الاشتراكي، من دون بنيته التحتية، ويصرح بأن سياكولوجية الفرد الواحد، ستالين في هذا المقام، مسئولة عن بنية اجتماعية بالكامل. هذا النقد، غير العلمي، يعول على التحليل النفسي، ويطمس الطبقي، ماسكاً البناء الفوقي وحسب للمجتمع الاشتراكي.
يساند بعض الشيوعيين مفهوم الإنسانوية من خلال الرجوع الى كتابات ماركس المبكرة، الرجوع الى مفهوم- الايديولوجي- الاغتراب، الذي انقطع عنها في 1845 وصاعداً، الانقطاع التدرجي في خضم تأسيس علم جديد، علم التاريخ (المادية التاريخية). ويقتبسون بأن الشيوعية هي «العودة الحقيقية للإنسان»، بينما الحركة التاريخية لا تحفل بجوهر الإنسان الحقيقي في ظل ما يسمى «اغترابها»، بل في سيرورة الحرب الطبقية وتحولاتها النوعية. الماركسية ليست لوحة تبشر بالمستقبل الزاهر، العودة الى الإنسان الحقيقي، او تحرير البشرية المعنوي، او اعادة الاعتبار للإنسانية المظلومة، بل هي علم يدرس التاريخ وعوامل تطوراته.
وهنا تلعب الايديولوجيا دوراً مهماً، في هيمنتها، انها تخلق نظام القبول (غرامشي)، ولكنها تقوم بخلق واقع متخيل، لأنها تعقلن نفسها، فالواقع الخيالي يصبح واقعاً مع مرور الوقت، وكل القيم والاخلاق الموجودة، غير الملموسة، التي تأسست عبر التاريخ، ضمن الهيمنة الايديولوجية ذاتها، تجعل من مفاهيم مثل «الدولة» و«الطبقات» مفاهيم بديهية، وهكذا المتلقي، يرى الواقع بمنظار الطبقة المهيمنة، فلا يتجاوزها، وان كان بيده الانقطاع عنها (مثلما فعل ماركس)، ولكنه، في خضم علاقته معها، يتلقى الواقع من جهة محددة.
وهذه الايديولوجيا، تعرض لها مجمل الشيوعيين، لا سيما العرب، الذين لم يقرؤوا قراءات جادة للماركسية اللينينية، بل حصروها، في الحرية والمساواة والاخاء، مثل الشعارات البورجوازية التي يقارعونها، بل يذهبون الى أبعد من واقعيتها، بحكم موقعهم الطبقي، الطبقة الوسطوي، في ندائهم للمساواة بين الطبقات، وقيام دولة مستقرة، تتحالف فيها الطبقات، مثل طريقة شريعتي وموسوليني. بهذه الطريقة يمكننا ان ندرس الايديولوجيا، في توليدها الطبقي، بعودتها الى طابعها الطبقي اثناء انتاجها، ولهذا دعا لينين الى تثوير الطبقة الوسطى، تثويرها من نزعتها الطبقية، وبذلك، تتخذ موقع التفكير العلمي.
الإنسانوية، الفكر الايديولوجي، نقيضة الماركسية، ويخطأ الشيوعيون في مزجهما، وهذا المزج حتماً يؤدي الى تحريف المسار الفكري الماركسي، ضمن نفسه، من خلال الفلسفات الايديولوجية، ولأنها تتغلغل بداخله، فتصبح نقيضة، لأنها في احشاء نقيضها، فإما ان تلتحم، فيصبح الفكر مشوهاً، او اما تتنافر ويتفعل الصراع الفلسفي، الصراع الطبقي في شكله النظري.

-4-
يقول نيتشه: يتم اعتبار الأفكار الصوفية بأنها عميقة، ولكنها في الحقيقة، هي ليست بظاهرية حتى.