اليسار الراديكالي والسلطة جنوب أوروبا


إبراهيم فتحي
2015 / 2 / 28 - 13:54     

هل يؤدي نجاح اليسار اليوناني في الانتخابات البرلمانية (25 يناير 2015) وانتشار أصداء ذلك النجاح في انتخابات أوروبية قادمة إلى إعادة رسم خريطة أوروبا؟ يبدي رد الفعل اليساري ضد سياسة التقشف التي طال فرضها علامات الانتشار، فإسبانيا من المقرر أن تجري انتخابات هذا العام، وكذلك البرتغال، وتدل مؤشرات قياس الرأي العام أن الحزب اليساري الراديكالي سوف يحقق هناك انتصارًا حسنًأ. ويسير في المسار نفسه حزب إيطالي يساري. فهل يمكن لليسار الأبعد يسارية مما سمي الديمقراطية الاشتراكية التي ظلت في الحكم عقودًا أن يصل إلى السلطة؟ وصعود اليسار يمثل أكبر تهديد للوضع القائم، أي أن انتخابات اليونان لم تكن مجرد حدث كبير لليونان، بل كانت حدثًا أكبر لأوروبا التي كانت قد دخلت عهدًأ من التقشف أوصت به برلين أدى إلى ركود وانكماش وانعدام للنمو. وهنا يبرز سؤال لم يكن له سابقًأ محل على وجه الإطلاق: هل يصعد يسار أقصى طارقًأ باب السلطة؟ ومنذ وقت قريب هزت العالم حركة احتجاج ضخمة شملت ثمانين قطرًا تحتج على عواقب الأزمة الاقتصادية بدأت في نيويورك بحركة "احتلوا وول ستريت" حي المال والأعمال، ثم صارت حركة عالمية تحتل الميادين عبرت عن سخط عارم موجه ضد جشع الشركات الكبرى. وفي مايو 2011 انبثقت نسخة يونانية لحركة الميادين في ميدان الدستور في أثينا.
ومن العقبات أمام صعود اليسار أنه لا يوجد في العالم أمام الجماهير ولا في أذهانهم أي نموذج حي أو مرجع واقعي لنظام بديل. فالمنتجون المباشرون بطبيعة الحال لا يريدون بعث النظام الاشتراكي المنهار المتصف بسيطرة البيروقراطية المركزية والإدارة الأوامرية وقمعها وامتيازاتها. ولكن تتويج الحركة الاحتجاجية بصعود حركة يسارية ذات قوة انتخابية أمل يتوقعه كثيرون. وفي اليونان نشأت حركة سيريزا عام 2004 بعد خمس سنوات من النضالات والحوارات المشتركة بين قوى يسارية راديكالية كمحاولة للتغلب على التشرذم الإيديولوجي والثقافي بينها ولتحقيق تكامل مطالب وأماني حركات المقاومة الاجتماعية المتنوعة في ساحة المعارك السياسية والانتخابية الأساسية. وقد أرغمت حركة ميدان الدستور في أثينا جورج باباندريو زعيم ما يسمى الديمقراطية الاشتراكية على الاستقالة. ومن الملاحظ أن قيادة الحزب الشيوعي اليوناني الذي يمثل اليسار التقليدي أدانت حركة ميدان الدستور باعتبارها حركة يتلاعب بها النظام ومقصورة على مطالب البرجوازية الصغيرة. أما سيريزا فقادت لجان تلك الحركة، بل عملت على خلقها وتوجيه نشاطها. وفي يوليو 2013 نظمت سيريزا مؤتمرها الأول وحولت نفسها من تحالف منظمات وأحزاب إلى حزب سياسي يساري راديكالي موحد من اتجاهات متعددة ديمقراطي في حواره الداخلي. ونجح حزب سيريزا في انتخابات اليونان وشكل زعيمه تسيبراس حكومة اعتبرت أول حكومة وحدة شعبية في التاريخ السياسي الحديث في اليونان. ويقول زعيم الحزب إنه يتفهم أن عملية الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها عملية نضال وصراع طويلة تعتمد نتيجتها على قدرة الحزب على تحقيق أوسع إجماع ممكن وخلق أوسع تحالفات اجتماعية وسياسية ممكنة لمواجهة ما ينشأ من مقاومة ومصاعب، والأولوية هي الالتزام بالإطاحة بالتقشف لصالح تحقيق برنامج الخدمات الاجتماعية الأساسية ومكاسب العمال وحق تدخل الدولة لتصحيح سياسات القطاع البنكي وتنمية البلاد. إن مواجهة ناجحة للأزمة الإنسانية ستعيد الإيمان والأمل وسط المراتب الشعبية حتى خارج اليونان، وذلك سيعيد تقوية الدعم الاجتماعي والتضامن الأممي مع نضال سيريزا من أجل اتفاق دولي حول إسقاط قسم كبير من الدين العام وإعادة المفاوضة بالكامل حول اتفاقيات بين اليونان ودائنيها. ويعي حزب سيريزا أن هناك مقاومة وتآمرًا وتخريبًأ تعترض طريقه، كما أن الخصوم ينسقون جهودهم لتأليب المواطنين ضده ويستهدفون خلق قطب ثالث يدعون أنه ليس يساريًأ وليس يمينيًا بل وسطي لكسب شعبية لسياسة التقشف، التي تحملت الجماهير عبئها دون المساس بمصالح المصرفيين المتسببين في الأزمة في المحل الأول، خلف واجهة تقدميتها ظاهرية. والإطاحة بالتقشف لا تعني ببساطة زيادة الأجور بواسطة أوامر حكومية، بل تعني زيادة قوة المساومة لدى العاملين وفي النهاية فوزهم بالسلطة. فالسلطة ليست شيئًأ أكثر من القدرة على تحقيق المصالح النوعية التاريخية للطبقات الشعبية. وتلك هي سياسة سيريزا المتخلية عن وهم الانسجام الاجتماعي الذي روجت له الأحزاب المسماة ديمقراطية اشتراكية ولم يؤد إلا إلى الهزائم والخراب. وفي أثناء حكم حزب الباروك الديمقراطي الاشتراكي بقيادة باباندريو عام 2010 طبقت سياسة تقشف قاسية ومعها بالضرورة حملة قمع ضد المواطنين المعترضين. وكانت وسائل الإعلام الكبرى طليعة دعاة الليبرالية الجديدة وسياسة التقشف تزعم أن الأزمة الاقتصادية تصيب اليونان وحدها لأن اليونانيين أسرفوا في الإنفاق بأسرع مما تسمح مواردهم، وأن الأزمة سببها تلك الخطيئة القومية الجماعية بالإضافة إلى تضخم القطاع العام وإنفاقه على مكاسب شعبية. وقد شنت وسائل الإعلام الألمانية حملة اتهام لشعوب اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال التي تختلف في إنفاقها عن البلاد الأوروبية الأخرى. وسرعان ما اتضح أن الأزمة عالمية وليست خصيصة وطنية ولا نتيجة في الإسراف العام. وتدل الوثائق على أن القطاع العام اليوناني وإنفاقه منخفض عن المتوسط الأوروبي. وترى مجلة الإيكونوميست في أحد أعدادها الأخيرة أن قائد الحزب اليساري مصيب في أن دين اليونان الذي ارتفع من 109٪-;- من الناتج الكلي إلى نسبة 175٪-;- المريعة خلال السنوات الست الماضية على الرغم من ارتفاع الضرائب وتخفيض الإنفاق غير قابل للسداد. وترى أن الحل ماثل في أن يتوقف حزب سيريزا عما تسميه اشتراكيته المجنونة!! وأن يتمسك بإصلاحات هيكلية لا تحددها مقابل الحصول على سماح في سداد الدين، فالناخبون اليونان في رأيها يعيشون في جنة البلهاء اليسارية. ومن الواضح أن للشعب اليوناني وعيًا معاكسًا اكتسبه من تجاربه الفعلية في معاناته ونضاله ضد الاحتكارات المؤمنة بلاهوت السوق.