نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (13)


موسى راكان موسى
2015 / 2 / 14 - 02:57     

:: تكلمة ::

في الفصل السابع / الثورة العلمية التكنولوجية مرحلة جديدة في تطور الفكر و الممارسة الإنسانية :


(أولا) الثورة العلمية و التكنولوجية و الحتمية التاريخية :

فتبدأ الدكتورة : { دفع النجاح الذي حققته العلوم الطبيعية في القرن الثامن و التاسع عشر و لا سيما نظرية نيوتن في الجاذبية العالم الفرنسي لابلاس أن يؤكد في مطلع القرن التاسع عشر أن العالم تحكمه الحتمية , أي أن مجموعة من القوانين تتيح التنبؤ بكل ما سيحدث في العالم شرط أن نعرف كل شيء عن حالته الراهنة (...) كما أكد على وجود قوانين تقوم بوظيفة مماثلة في حكم المجتمع بما في ذلك سلوك البشر } , فلن يكون غريبا أن يكون أول المعارضين للحتمية هم المؤمنين بتدخل القوى الغيبية : { و لقيت نظرية الحتمية العلمية هذه معارضة المؤمنين لأنهم يرون فيها خرقا لحرية الله في التدخل في شؤون ما خلق } , و تكمل : { لكن التطوّر العلمي و التكنولوجي في مطلع القرن العشرين أوحى بالشك بالنظرية الحتمية فقد أكد العالمان الإنجليزيان اللورد رايلي و جنيز بأن الجسم الحار أو أي جسم كالنجم يصدر طاقة بإستمرار على شكل أمواج كهرومغناطيسية , كأمواج الراديو و الضوء و الأشعة السينية بكمية موزعة بالتساوي على كل التوترات , و هذا يعني أن الطاقة الكلية الصادرة من الجسم الحار يجب أن تكون بمعدل لا نهائي الكبر مما يعني إضمحلاله , و إستغلت الرأسمالية هذا الإكتشاف لإثبات عدم صحة النظرية المادية بأن المادة لا تفنى و لا تستحدث , و قد تصدى لذلك علماء و فلاسفة كثيرون , و كذلك لينين في كتابه [المادية و النقد التجريبي] و بما أن العلم مادي إقترح العالم الألماني ماكس بلانك للخروج من المأزق فكرة أن الضوء و الأشعة السينية و كل الأمواج لا يمكن أن تصدر بمعدل إعتباطي بل على شكل حبات سماها كونتا [Quanta] و كل من هذه الكونتات يتمتع بمقدار معين من الطاقة متناسب مع تواتر الموجة و صدور كل كونت واحد يتطلب توترا عاليا قد يستلزم طاقة أكبر مما متوفر و بذلك تكون غزارة الإشعاع ذي التوتر العالي قليلة مما يجعل معدل خروج الطاقة من الجسم محدودا , و لكنه لم يشر إلى أن الجسم بقدر ما يطلق من كونتات يستقبل أيضا , و إزداد الشك بالنظرية الحتمية و لا سيما بعد أن صاغ العالم الألماني فيرنر يزنبرغ عام 1926 نظريته [مبدأ الإرتياب] حول قياس موقع و سرعة الجسم في آن مستقبلي (...) و برهن بأن حاصل ضرب الخلل في قياس موقع الجسم بالخلل في قياس سرعته لا يقل أبدا عن كمية ثابتة تسمى [ثابت بلانك] الأمر الذي أثار الضباب على نظرية الحتمية العلمية و دفع إلى صياغة نظرية [ميكانيكا الكم] التي ترى عدم إمكان تحديد موقع و سرعة مكونات العالم اليوم بدقة و لا يمكن التنبؤ بالحوادث المستقبلية بدقة , و تطرح كبديل عددا من النتائج الممكنة و المتناقضة أحيانا و تعطي كل منها إحتمال الوجود فأدخلت في العلم عنصر غموض و مصادفة سببها عدم الإلمام بكل الظروف الموضوعية و الذاتية , فكما يقول ماركس : إن الصدفة هي حتمية غير معروفة } , يكفينا أن نعترض فقط على داوم إتهام الرأسمالية وحدها في إستغلال كل شيء ضد الماركسية .

في ميدان العلوم الطبيعية كان الله هو التعبير عن الجهل في الماضي .. أما في الحاضر أصبحت الصدفة هي التعبير عن الجهل , أما في ميدان العلوم الإجتماعية كان الله هو المبرر لإحتمال كل العاهات و الآلام .. أما في الحاضر فالنظرة العبثية و العدمية للوجود أصبحت تبرر إحتمال العاهات و الآلام , لاحظ كيف يصبح (( الله )) و (( الصدفة )) و (( النظرة العبثية و العدمية للوجود )) تجسيدا لل [ الجهل ] ! , الجهل ليس عيبا فله موقعه ضمن وحدة ديالكتيكية مع المعرفة .. لكن أن يصبح لهذا الجهل أنصار و مؤمنين أن لا إله غيره و لا يمكن تجاوزه أو إسقاطه و في المقابل فليسقط كل من يسعى لإسقاطه حينها سيكون من الضرورة القصوى إسقاطه , نعم لن يقف الصراع عند إسقاطه فهو سيبقى لكن بشكل آخر و صفة أخرى _فحين كان (الله) أصبح فيما بعد (الصدفة) و لا ندري ما عله سيُسمى بالمستقبل_ و عله سيكون له أيضا أنصار و مؤمنون , فالجهل نقيض المعرفة لكن المعرفة لا تستقيم دون الجهل .. و حركة كل منهما مشروطة بنقض الآخر , فالصدفة شكل من أشكال الجهل و ينبغي أن نعي ذلك لنتجاوز هذه الإشكالية المتلبسة لنعرف حقيقة الشيء و حركته .. فيصبح موضوعيا في وجوده و حركته بالنسبة لمعرفتنا (و هو أصلا كذلك دون إدراكنا له أو معرفتنا به) , فحقا ما قاله ماركس : إن الصدفة هي حتمية غير معروفة .. و يصح في ذلك أيضا قول ستالين : لا يوجد شيء لن يُعرف بل هناك شيء لم يُعرف بعد .

و تعقيبا على ميكانيكا الكم : { و إستغل مؤدلجو الرأسمالية هذه النظرية لتفنيد نظرية الحتمية التاريخية و تمجيد الصدفة و إطلاقها } , و تنصف الدكتورة ميكانيكا الكم بعيدا عن الأدلجة : { و لكن ميكانيكا الكم كمرحلة من مراحل التطوّر العلمي التكنولوجي أثبتت جدارتها في جميع مجالات العلوم الحديثة مثل الترانزستر و الأجهزة الإلكترونية كالتلفزيون و الكومبيوتر و الكيمياء الحديثة و البيولوجيا , كما أنها أطلقت العنان للعلوم الإجتماعية في البحث عن العوامل المتعددة و المتناقضة في عصرنا التي تعرقل الحتمية التاريخية و على إحداث تغييرات لا يمكن قياسها بالدقة } , و تضيف : { و قد أدرك ذلك ماركس و إنجلز مسبقا و لم يورطا نفسيهما في وضع قوانين عامة تفصيلية لبناء الإشتراكية و تركا للبشرية في حينها لتبدع وفقا لتطوّر الظروف واضعين المنطلقات العامة لها و هي : الإنتاجية الأعلى و الديموقراطية الأوسع , و كان لعدم الإلتزام بهذين المنطلقين الأساس المادي لإنهيار التجارب الإشتراكية و ما حققته من إنجازات و لم يبق سوى دروسها التي تحاول الرأسمالية بكل ما جهزتها به الثورة العلمية التكنولوجية على قتلها مستخدما قوة اليأس و فقدان الأمل و الثقة بالماركسية و بالحتمية التاريخية , فيمجدون الصدفة و يطلقوها مغفلين الوحدة الديالكتيكية بين الحتمية و الصدفة لأن الصدفة تكون دوما منطلقا لتطور البحث و العلم لتحويلها إلى حتمية تطلق صدفة أخرى أرقى تشكل أحد العوامل الديناميكية لتطور العلم و المعرفة } , من الجدير الوقوف لنتأمل (( الإنتاجية الأعلى )) و (( الديموقراطية الأوسع )) _و تعني الديموقراطية الأوسع هنا ديكتاتورية البروليتاريا_ .. فجميل من الدكتورة أنها لمحت إلى دور هذين المنطلقين و أن عدم الإلتزام بهما كان الأساس المادي لإنهيار التجارب الإشتراكية _بشكل خاص الإتحاد السوفييتي_ , و من الجميل أيضا إشارة الدكتورة لمحاولة إجهاض و وأد كل محاولة تسعى لإستخلاص و إستلخاص الدورس من منجزات التجارب الإشتراكية و أسباب إنهيارها , و كما أشرنا سابقا فإن الصدفة هي إسم كالله تماما للجهل .. فكما كان الله له أنصار و مؤمنين يؤكدون وجوده و إستمراريته و إستحالة سقوطه .. أصبحت الصدفة اليوم كذلك .

و تعلق الدكتورة بخصوص ميكانيكا الكم أيضا : { فقد فتحت نظرية ميكانيكا الكم آفاقا جديدة لدراسة المجتمع الإنساني و الكشف عن مختلف العوامل المؤثرة في سيرورته و لا سيما بعد التطوّر الهائل الذي أحدثته الثورة العلمية التكنولوجية و ثورة المعلومات التي جعلت من تحقيق الحتمية التاريخية يقتضي تطويرا شاملا للنظرية و الممارسة و إلماما شاملا بالعوامل المتناقضة المتعددة و لم يعد يكفي مجرد تحديد التناقض الرئيس و إعداد الشغيلة و تحديد إتجاه الضربة لتحقيق الحتمية التاريخية على الرغم من أهميتها , فبهذه تشكل المنطلقات الأساسية كما تشكل الرياضيات البسيطة المنطلق للرياضيات العالية و المعقدة , و إذا كان في الرياضيات العليا ملايين المجاهيل التي تواجه الحتمية العلمية فالحتمية التاريخية أعقد و أصعب و تتضمن مليارات المجاهيل و تقتضي البحث العلمي المعمق و إستخدام أحدث و أرقى النظريات العلمية و أحدث و أرقى التكنولوجيات } , و تكمل في تناول غائية العلوم الطبيعية (و كذلك الإجتماعية) : { إن هدف العلوم الطبيعية (...) و على إختلاف فروعها الكشف عن أسرار الطبيعة و إستشراف آفاق المستقبل , و كلما إكتشف العلماء سرا ظهرت أسرار جديدة مستعصية و لكنهم مع كل إكتشاف يصبحون أكثر معرفة بالطبيعة و أكثر قدرة على إكتشاف أسرار أخرى و طرق أخرى لتحقيق ذلك , و العلماء في بحثهم عن الجديد يستندون على ما لديهم من نظريات تراكمت نتيجة حقائق مكتشفة في مراحل سابقة , و كثيرا ما يكتشفون عجز بعض النظريات عن قراءة الجديد حيث تبرز وقائع جديدة تناقضها و تستعصي عليها (...) و لا يختلف الأمر في العلوم الإجتماعية إن لم يكن أكثر تعقيدا , (...) و إذ فعلت النظرية الماركسية ما لم تستطع الوصول إليه أية نظرية إجتماعية إقتصادية فلسفية أخرى فقد جاءت نتيجة لتطور كل تلك النظريات و نقلة نوعية لها , و في نفس الوقت لم تنغلق الماركسية على نفسها بل تركت المجال واسعا للمفكرين لتطويرها (...) و التي تسير وفقا لقوانين الديالكتيك التي إكتشفها فلاسفة البشرية على مر التاريخ و طوّرها ماركس في نهجة المادي الديالكتيكي , و عبثا يحاول بعض العلماء و الفلاسفة تجاوز هذا النهج , فنظرية ميكانيكا الكم تثبت اليوم صحة المادية الديالكتيكية بإقرارها بأن كل أنواع الطاقة هي ذات خاصية ثنائية : موجية و مادية , و على الرغم من كل صعوبات تحقيق الحتمية العلمية و التاريخية نتيجة وجود مختلف أنواع الصدف غير المعروف أسبابها فإن البحث المُعمق و المُتواصل و تطوّر وسائل البحث و أساليبه كفيل بحلها (...) و لم يكن هذا مطلقا نهاية المطاف بل بداية مرحلة جديدة من تاريخ البشرية حيث تقف أمامها مهمات جديدة و أهداف جديدة و حتمية تاريخية جديدة } , و تشير الدكتورة سعاد إلى الماركسيين اللا ماركسيين : { لقد تعجل الكثير من الماركسيين في التوصل إلى عدم صحة النظرية الماركسية أو إلى أنها شاخت لمجرد عدم التوصل إلى الحتمية التاريخية بأسهل و أسرع الطرق , أي عدم فهم الحتمية التاريخية التي لا تتحقق مطلقا عفويا كالحتمية الطبيعية (...) فضلا عن الإنحرافات الجدّية التي أقترفت عن النهج الماركسي [المادي الديالكتيكي] الأمر الذي أدى إلى الجمود في النظرية و في كشف أسرار بناء المجتمع الإشتراكي (...) أما أعداء الماركسية من الرأسماليين و مؤدلجيهم فإنهم لم يكفوا يوما عن إصدار آلاف الكتب و النظريات و يستغلون إنهيار التجارب الإشتراكية على إنه برهان على عدم وجود الحتمية التاريخية و على أنه دليل على إنتصار الرأسمالية و دوامها و في نفس الوقت يشددون من إستغلال كل منجزات الثورة العلمية التكنولوجية و ثورة المعلومات في مهاجمة الماركسية (...) و كما قال آينشتاين في تعليقه على صدور الكتاب المائة المناهض لنظريته : [ لو كانت نظريتي خاطئة لكفى المعارضون كتابا واحدا لدحضها ] , و لو كانت الماركسية اللينينية خاطئة أو إنتهى دورها لما كرست الإمبريالية المليارات لمحاربتها و لما ضحى الرأسمال العالمي بالترليونات لمحاربتها اليوم } , و نكرر إعتراضنا على إحتكار الرأسمالية للعداء كله تجاه الماركسية _و كذلك لإحتكارها كل جريمة أو تهمة ظهرت أو قد تظهر هنا أو هناك_ , و تثير الدكتورة قضية تكالب المعادين للماركسية .. و تربط بين تكالبهم و مدى راهنية الماركسية , لكن من الجدير بالذكر أن التكالب لا يعني بالضرورة صحة المُتكالب عليه .. و إن كان ذلك يدعمه بطريقة ما .

و تتناول الدكتورة النظرية العلمية : { لا يوجد في العلم نظرية خالدة , فكل النظريات تعيش فترة نمو تدريجي و تصل إلى أوجها ثم تبدأ تعاني من إنحسار قد يكون سريعا , و كل خطوة عظيمة في تاريخ العلم تنشأ عن أزمة تمر بها نظرية سابقة و يحاول العلماء و المفكرون أن يجدوا مخرجا من الصعوبات بالإستناد إلى تفحص الأفكار و النظريات القديمة لأنها رغم إنتمائها إلى الماضي هي الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى النظريات الجديدة و فهمها و تقدير مدى صحتها } , فالنظرية العلمية رغم شكلها الذي قد يبدو مجردا هي نتاج ديالكتيكية العملية العلمية أو المعرفية (و يجوز للفكر أو التفكير) .

و تكمل الدكتورة : { إن دخول الرأسمالية مرحلة عولمة الرأسمال ليست كافية لإنتهاء دور الماركسية اللينينية نظرية الطبقة العاملة و أداتها لتحرير البشرية من الرأسمالية و كل جرائمها بحق البشرية فنحن لا نزال ضمن التشكيلة الإقتصادية الإجتماعية الرأسمالية بل و في أخطر مراحلها , و ما نحتاجه هو تطوير الماركسية مع تطوّر مراحل الرأسمالية حتى تتمكن البشرية من القضاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية و بناء المجتمع اللا طبقي و عندئذ ٍ فقط لا تعود ضرورة لنظريات طبقية بل تنشأ ضرورات جديدة و تستدعي نظريات جديدة يفرضها الواقع الجديد , و لكن هذا لا يعني عدم الضرورة المستمرة لتطوير الماركسية وفقا لتطور الواقع الإجتماعي الإقتصادي النوعي } , و قد تكرر معنا في أكثر من موقع سابق _و نخشى أنه سيتكرر أيضا لاحقا_ إستنكارنا المشابه لإستنكارنا ل [لا نزال ضمن التشكيلة الإقتصادية الإجتماعية الرأسمالية] رغم أن الدكتورة ذاتها تناولت بل أكدت على تغييرات هيكلية جذرية .. فكيف إذا نبقى مع هذه التغييرات الهيكلية ضمن التشكلية الرأسمالية ذاتها ؟! , و التغييرات هي تغييرات كيفية لا كمية ! , و مع إتفاقنا مع الدكتورة سعاد فيما يتعلق بضرورة تطوير الماركسية إلا أن هذا التطوير لا يكون إلا بعد نظرة موضوعية حقيقية للعالم أو الشيء , و إلا فمع قراءة خاطئة و مغلوطة للعالم أو الشيء .. سيكون تطوير النظرية الماركسية هو نفي للماركسية .

و بعد كل ما سلف : { و هكذا تصبح الحتمية التاريخية ليس مبررا للخمول الفكري و الجمود العقائدي بل هدفا للنضال الواعي للشيوعيين لتطوير النظرية و النشاط الفكري و السياسي و الإقتصادي , ليساعدوا بذلك العملية التاريخية الموضوعية و يغدوا السير نحو تحقيقها } , و مع الإتفاق مع الدكتورة سعاد هنا إلا أن ذلك لا ينفي كون القول ب [الحتمية] كان عن البعض الكثير لتبرير الخمول الفكري و الجمود العقائدي , يكفي كمثال أن القول بفناء الرأسمالية منذ السبعينيات مرفوض بالمطلق عند الكثيرين ممن يزعم التمركس .. لأن مجرد التفكير بذلك هو مدعاة لمثال آخر في تشريح النظام على غرار كتاب رأسمال لكارل ماركس بالإضافة لكونه إعلان صريح بتقادم البيان الشيوعي .. و لا ننسى تأثير ذلك على مستوى التحزب و التنظيم و ما يرتبط بذلك من مواقف و مواقع متوارثة و ذات نفوذ , و جدير بالذكر أن صنف من هؤلاء أو دون هؤلاء لا يرفض القول القائل بفناء الرأسمالية بسبب الخمول الفكري أو الجمود العقائدي .. و إنما في سعيه الحثيث لنفي الحتمية بغض النظر عن أسبابه الشخصية , و لعل أحدهم يتساءل : و لماذا لا يكون القائلين بفناء الرأسمالية هم من يسعون إلى إثبات الحتمية ؟! .. و عند هذا الحد نعود إلى قراءة موضوعية للواقع , و يكمل المُتسائل : أوليست الدكتورة سعاد قد حاولت ذلك و مع ذلك لم تقل بفناء الرأسمالية ؟! .. صحيح إلا أنها رغم عدم قولها بعدم فناء الرأسمالية إلا أنها قد أفنتها موضوعيا بتأكيدها و توصيفها في أكثر من موقع للتغييرات الهيكلية الجذرية .. و لم يتبق لها إلا أن تفنيها ذاتيا (و هذا ما سيحدث حالما تتحرر من سطوة الإيديولوجيا) .

و تضيف أيضا : { و أعطى إنهيار التجارب الإشتراكية و إنطلاق الثورة العلمية التكنولوجية دفعا للعلاقات الرأسمالية لبلوغ مرحلة أعلى من مرحلة الإمبريالية مرحلة [عولمة الرأسمال] (...) و التي تفرض تطوير نظرية الثورة الإشتراكية و سبل و أساليب تحقيقها بناء على تطور الواقع الإجتماعي الإقتصادي العالمي , بالإستفادة من الثورة العلمية التكنولوجية , بل و تطوير الكثير من المفاهيم و الشعارات } , و نعود لنكرر أن القراءة الموضوعية تأتي قبل التطوير .. و لعل ذلك يتمثل في تنظير الدكتورة سعاد نفسه : { لقد فرضت عولمة الرأسمال تطوير شعار ماركس [يا عمال العالم إتحدوا] و شعار لينين [يا عمال العالم و شعوب المستعمرات إتحدوا] إلى شعار [أيتها البشرية إتحدي] , و [الأممية البروليتارية] إلى [العولمة الإنسانية] , و وسعت الثورة العلمية التكنولوجية القاعدة الإجتماعية للطبقة العاملة لتضم شغيلة الفكر و لم يعد مفهوم [البروليتاريا] ينطبق على معظم شغيلة العالم و بالتالي يفترض تطوير مفهوم [ديكتاتورية البروليتاريا] , كما تفرض تطوير نظرية الحزب الطليعي و التنظيم النقابي و تطوير دور المنظمات الديموقراطية الوطينة و العالمية , و دور الدولة و المؤسسات الدولية } , لكن رغم ذلك يمكننا أن نلمس في شعار الدكتورة الأثير (( أيتها البشرية إتحدي )) تصورا خفيا بكون هذه الرأسمالية قد تجاوزت علاقات الإنتاج الخاصة بها (العلاقات الإجتماعية الإقتصادية) إلى شكل معدوم من العلاقات بالتالي إلى إعدام للإنتاج , و القول بالعولمة الإنسانية بدلا عن دكتاتورية البروليتاريا هو تصريح مباشر إلى اللا إنتاجية ! , الدكتورة لا تتجاوز المنطلقات العامة للإشتراكية (( الإنتاجية الأعلى )) و (( الديموقراطية الأوسع _حيث ترتبط بالإنتاجية الأعلى : ديكتاتورية البروليتاريا_ )) فقط .. بل تنفيهما ! , و لا داعي لذكر تأثير ذلك على التحزب و التنظيم و العمل بشكل عام , و هذا مثال لإحدى عمليات التطوير للماركسية أو بالأحرى التحريف (و نحسبه بدون قصد) .

و تستشهد الدكتورة في ذلك : { جاء في بحث للمفكرين : مايكل بايرز الأستاذ المشارك في القانون في جامعتي إكسفورد و كارولينا الشمالية و سايمون جيستر الأكاديمي في جامعة إكسفورد , الذي نشر في مجلة الثقافة الجديدة في العدد 289 لسنة 1999 : إن عولمة الرأسمال دفعت بالتناقضات الإجتماعية على الصعيد العالمي إلى الصدارة من خلال الكشف عن إستخدام الديون و سعر الصرف و النسبة المئوية كوسائل لإعادة توزيع الثروة و السلطة , و كأدوات لإخضاع العاملين و إفقارهم , إن تنامي الوعي بأساليب الرأسمال العالمي في صياغة و إستغلال قواعد السوق كوسيلة للهيمنة الطبقية يتجلى في حملات الإحتجاج ضد صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و المنظمة العامة للتجارة و مشروع الإتفاقية متعددة الأطراف و لا سيما بعد الأزمة الكارثية التي تعرضت لها منطقة جنوبي شرقي آسيا و الحلول التي قدمتها هذه المنظمات الرأسمالية الدولية , التي زادت من معاناة الجماهير و أعادت توزيع الثروة و السلطة لمصلحة أثرياء العالم و لا سيما الأمريكان , و أصبح الواعون يدركون بأن الحلول تكمن في البحث عنها خارج البنى الأساسية الرأسمالية , أي في التحرر من الأسس التي تقوم عليها الرأسمالية و لا سيما الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و إستغلال العمل المأجور , أي في النضال من أجل تحقيق الحتمية التاريخية , حتمية زوال علاقات الإنتاج الرأسمالية و بناء المجتمع الخالي من الإستغلال و من الطبقات , المجتمع الإنساني الحق } , و لنركز ب ((إستخدام الديون و سعر الصرف و النسبة المئوية كوسائل لإعادة توزيع الثروة و السلطة)) .. و رغم ذلك يرى المفكران مع الدكتورة سعاد أن ذلك تعبير عن رأسمالية أو عولمة الرأسمال ! , لا يتحدث المفكران عن إمتلاك لوسائل الإنتاج أو عن إحتكار مادي ما (كالسلع) أو ملكية الأرض مثلا , إنهما يتحدثان عن إعادة توزيع الثروة و السلطة من خلال [الديون] و [سعر الصرف] و [النسبة المئوية] و لا ندري إن كانا ماركسيان أم لا .. لكن الدكتورة سعاد نحسبها كذلك و المفترض أنها تعرف سمات النظام الرأسمالي الجذرية التي بتغيّرها يتغير النظام ككل (البنية التحتية) , إلا إن توصلت الدكتورة إلى إستنتاج مفاده أن الرأسمالية مهما تغيّرت تحتيا .. فإنها رأسمالية فوقيا ! , و لا داعي لتكرار مثالب ذلك بالخوض في تطوير الماركسية .



(ثانيا) الثورة العلمية و التكنولوجية و العولمة الإنسانية :

و تبدأ الدكتورة بالقول : { تفرض الحتمية التاريخية في مرحلة عولمة الرأسمال لكي تكون آخر مراحل الرأسمالية تطوّر الوعي البشري إلى المستوى الذي يمكّن البشرية من فهم ضروريات العملية التاريخية للإنتقال إلى حرية الإختيار (...) فقد كدست البشرية عبر تاريخها العديد من التجارب و طوّرت من خلالها وعيها في مواجهة هجوم جبار للإيديولوجيا البرجوازية التي أصبحت في عصرنا عصر الثورة العلمية التكنولوجية و ثورة المعلومات تضاهي أخطر أسلحة الدمار الشامل , و لكن الثورة العلمية التكنولوجية و ثورة المعلومات هذه في نفس الوقت خلقت الأساس المادي أيضا لتطوير عولمة إنسانية تستطيع أن تواجه كل جبروت الأجهزة الإيديولوجية الرأسمالية من خلال نشر الوعي على الصعيد العالمي بواسطة نفس الأجهزة التي لم يعد لكل أجهزة الرأسمالية القسرية حجرها } , لا تتحدث الدكتورة عن وعي مركز أو خاص بمعنى وعي الحزب أو أعضاء الحزب الطلائعي .. إنما تتحدث عن وعي جموع بشرية تمثل طرف نقيض لطرف الرأسمال , يبدو هذا القول مبررا حين نجعل الرأسمالية (فوقية لا تحتية) .. بالتالي فصراعنا معها هو صراع (فوقي قبل أن يكون تحتي) ! , و تؤكد ذلك : { إن تحقيق الحتمية التاريخية تفرض ليس فقط إستمرار الصراع الطبقي (...) و في مرحلة عولمة الرأسمال يكتسب هذا الصراع الطابع العالمي بين البشرية عموما و الرأسمال و في مقدمة ذلك الكفاح الفكري من أجل حله في جميع ميادينه الطابع العالمي } , حين قدمت الدكتورة الوعي للجموع البشرية على إرتباطات هذه الجموع المادية (الموضوعية) .. يمكنها أن تلغي الإختلاف بين شغيلة اليد و شغيلة الفكر بل و أكثر من ذلك : يمكنها أن تجعل البشرية كلها في كفة و في كفة أخرى الرأسمال , فيغدو الرأسمال تجريد بكل معنى الكلمة لا نعرف سماته (لأن سماته الموضوعية [التحتية] تتغير ليحافظ على ذاته!) .. فيغدو الصراع صراعا فكريا , و إن القول بالصراع الطبقي بعد ذلك هو من قبيل رفع الحرج .

فهل لحتمية أن تكون أو توجد قوامها (( الوعي البشري )) ؟! .