ورقات في نقد الاقتصاد: نقد نظرية -التقدم-


محمد المثلوثي
2015 / 2 / 3 - 20:34     

إن الأساس الايديولوجي لكل نظريات "التقدم" و"التقدمية" هو صياغة تاريخ ذهبي وهمي للرأسمالية من أجل إخفاء تاريخها الحقيقي. فالرأسمالية من منظور ايديولوجية "التقدم" مثلت ثورة تاريخية لتحرير البشر من ظلمات القرون الوسطى (وليس غريبا أن كل مساوئ العالم المعاصر يسمونها "مخلفات قروسطية)، فهي التي حررت الأقنان من استعباد النبلاء ورجال الكنيسة، كما أنها قضت على العبودية وحولت البشر الى مواطنين متساوين أمام القانون، وهي التي حررت المرأة من سجن المطبخ ومن قهر المجتمع الذكوري وفتحت لها الأبواب للانخراط في الحياة العامة، والرأسمالية هي من أطلق يد قوى الإنتاج لتوفر وسائل الرفاه وتحقق الثروة والتطور التكنولوجي والعلمي...
التاريخ الرسمي للرأسمالية لا يضاهيه سوى تأريخ الأديان لنفسها، فمثلما تصور الأديان المجتمعات السابقة لظهورها كجاهلية سوداء، حيث البشر يعيشون كالأغنام في توحش وبربرية مطلقة، والتاريخ الذهبي لا يبدأ إلا بسطوع نور ذلك الدين، فإن التشكيلات الاجتماعية السابقة للرأسمالية يتم تصويرها في أكثر صور الفضاعة، بينما يظهر المجتمع الحديث كمجتمع الحضارة والرقي والتقدم والرفاه الخالص. فالتاريخ الفعلي للبشر لا يبدأ إلا ببزوغ عصر الأنوار الرأسمالي، حيث يعم العقل والعقلانية على أنقاض الجهل، ويعم التقدم على أنقاض التخلف والهمجية، وتعم الحضارة على أنقاض الوحشية. كل هذا البناء الأسطوري للتاريخ هدفه العام هو إقناع الناس بأنهم يعيشون في أفضل العوالم، وأن كل تغيير في النظام السائد لا يعني سوى العودة الى ما قبل الحضارة، وما قبل التمدن، وبالتالي فإن مصلحتهم الحيوية تكمن في الحفاظ على "مكاسب" هذه المدنية، والدفاع عن الحداثة في مواجهة التهديد "الظلامي" وخطر الانتكاس الى الوراء، وحتى حين لا يعود بالإمكان إخفاء هذا المظهر أو ذاك من فضاعات عالم الرأسمالية (المجاعات، الأوبئة، الحروب، التمييز الجنسي والعرقي المعمم...) فإن أباطرة إيديولوجيا "التقدم" و"التقدمية" يعيدون كل هذه المظاهر "السلبية" الى بقايا التشكيلات الاجتماعية القديمة. وهكذا تتم تبرئة الرأسمالية ونظامها من كل الكوارث الاجتماعية التي تنتجها وتصويرها على أنها مجرد إرث ثقيل سيتخلص منه المجتمع بمزيد "التقدم"، مزيد "الحضارة" الرأسمالية"، مزيد "المدنية" البورجوازية"، مزيد "تنمية" رأس المال....الخ
فحتى النظام الاستعماري الحديث الذي مثل مرحلة ما يسمى بالتراكم البدائي للرأسمال على مستوى الكوكب، وجر البشرية بالحديد والنار للقبول بهذا الأسلوب الإنتاجي الجديد، وفرض تقسيم العمل البورجوازي على كل الشعوب، بما في ذلك خاصة الفصل الدموي للمنتجين عن وسائل إنتاجهم وإرغامهم على التحول الى عبيد الأجر، ونهب واستنزاف كل عناصر المحيط الطبيعي في سبيل الربح، بل وحتى الإبادة الجماعية واستعباد الملايين وتحويل العالم الى حلبة نزاعات عسكرية لاقتسام وإعادة اقتسام مواقع النفوذ، حتى كل هذا التاريخ المرير فإنه يتحول على يد منظري "التقدم"، الى تاريخ "نشر الحضارة والمدنية"، تاريخ "إخراج الشعوب الهمجية من بربريتها"، وحتى أولائك المنظرون الذين يشعرون "بتأنيب ضميرهم الأخلاقي" إزاء الجرائم الوحشية التي كانت تسير أمام أعينهم، فإنهم في الغالب كانوا يعتبرون ذلك "حتمية تاريخية" و"فاصلا ضروريا" "لتطوير قوى الإنتاج" والوصول بالبشرية الى الأسلوب الإنتاجي الأرقى. بل إن التاريخ من هذا المنظور "التقدمي"، يظهر وكأنه يخضع لقوانين متعالية مكتوبة سلفا في لوح محفوظ ومنقوش عليها مسبقا أنه لم يكن أمام البشرية طريق آخر غير هذا النظام الرأسمالي و"تقدميته" و"حضارته"، فيكون بهذا ملايين البشر الذين تم سحقهم بمثابة قربان لإلاه "الحضارة"، وتضحية ضرورية لتقدم التاريخ.
ولم تكن حركات التحرر الوطني وكل الحركات المعادية للاستعمار أقل إيمانا بهذه الأسطورة الرأسمالية. فهي إذ تدين الاستعمار وتحاربه، فإنها من جهة تفصله عن الرأسمالية، وكأن الرأسمالية والاستعمار شيئان مختلفان ومنفصلان عن بعضهما البعض، بل هي تعتبره (الاستعمار) قد مثل عائقا أمام تطور تلك الشعوب نحو بناء "حضارتها الرأسمالية الخاصة بها"، إذ تعتبر الاستعمار قد دمر إمكانية تطوير "قوى الإنتاج الوطنية" وحرمها من تطورها "الطبيعي" نحو "الرأسمالية الوطنية. ومن جهة أخرى، فهي تضع نفس "الحضارة الرأسمالية" كأفق لتحررها ونموذج لأنظمتها الوطنية المستقلة. وليس غريبا كون النخبة التي قادت هذه الحركات الوطنية هي الأكثر إيمانا بمقولات "التقدم" و"الحداثة"، وأكثرها انبهارا بالمجتمعات الرأسمالية الصناعية، بل إن كل أفكار الحداثة البورجوازية التي كانت قد وصلت الى عصر تفسخها، وبدأت تبرز الأفكار الثورية التي تنقدها وتتجاوزها في الدول الصناعية بالذات، حيث بدأت الأزمات الكاسحة والاختلالات والموجات الثورية تقوض أساطيرها المؤسسة، قد أصبحت هذه الحداثة بالذات العقيدة الرسمية لكل هذه "النخب الوطنية". ومن الطبيعي أن تستعيض هذه الأخيرة عن أهداف الحركة الثورية الأممية في النضال الموحد ضد الرأسمالية بمقولات "بناء الاقتصاد الوطني" والاستقلال الوطني" و"الخروج من التخلف" و"اللحاق بركب الحضارة والتقدم"...الخ، أي كل مفردات النظام البورجوازي نفسه حتى وإن اتخذ الخطاب أحيانا مسحة شعبوية أو حتى لغة راديكالية مثل "النضال ضد الامبريالية " (وما هي الامبريالية؟ هل هي شيء آخر غير الرأسمالية) و"حق الشعوب في تقرير مصيرها (حق البورجوازيات الوطنية في استغلال "عمالها")...الخ.
إن إيديولوجيا "التقدم" ترتكز على أساس كون التاريخ محكوم بقوانين مطلقة، وأنه وفق هذه القوانين كان لابد للبشرية حتميا الوصول الى الرأسمالية أو المرور بها كطور ضروري من أطوار التطور التاريخي الصاعد. وسنعرض في هذه الورقة لوجه واحد من وجوه إيديولوجيا "التقدم" ألا وهي الماركسية.
فوفق ماركس، أو على الأقل وفق بعض أعماله مثل "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي"، فالتاريخ محكوم، لا بقوانين تاريخية نسبية، متغيرة ومتحولة وفق أسلوب الانتاج التاريخي، بل بقوانين عامة، وعموميتها لا تعني سوى أنها قوانين مطلقة، وبالتالي طبيعية. فالانتقال من أسلوب إنتاج الى آخر هو، حسب ماركس، محكوم بقانون عام ينسحب على كل التحولات التاريخية في أساليب الانتاج وعلاقات الانتاج. فوفق هذا القانون فإن تطور قوى الانتاج يسير في خط تطوري دائم، هذا التطور يصطدم بعلاقات الانتاج الثابتة لينتهي بتجاوزها الى أسلوب إنتاجي جديد "متطور" عن الأسلوب الإنتاجي السابق. وهكذا الى ما لا نهاية، بما انه لا نهاية لتطور هذه القوى الإنتاجية. وبطبيعة الحال، فحسب هذا القانون العام والمطلق، تكون الرأسمالية موجودة "بالقوة" منذ فجر التاريخ، أي أنها حصيلة طبيعية وحتمية لهذا القانون، وما كان ممكنا للبشرية إلا المرور بها. وهكذا فكل ما حدث في التاريخ هو شيء "عقلاني" كم يقول هيغل، والرأسمالية هي تجسيد لتلك "العقلانية" بالذات. وبذلك فإن كل الإدانة التي تمتلئ بها الأدبيات الماركسية لما قامت به الرأسمالية، ترتد الى تبرير باسم "القانون العام" و"الحتمية التاريخية". وهذا ما يفسر انفصام الأدب الماركسي (بما في ذلك بعض أعمال ماركس) في النظر للبورجوازية، بين "الثورية" و"الرجعية"، بين "التقدمية" و"المحافظة"، وتقسيم تاريخ الرأسمالية الى طور أول تكون فيه البورجوازية طبقة ثورية وتقدمية وطور ثان تصبح فيه رجعية ومحافظة، وبين إدانة الاستعمار وتمجيد "مهمته التمدينية" في تطوير قوى الإنتاج وتفكيك أساليب الإنتاج "المتخلفة".
إن ما يعتبره الأدب الماركسي قانونا عاما للتاريخ هو ليس سوى القانون التاريخي الخاص بالرأسمالية في نشوئها وفي تطورها الخاص مسحوبا على كلية التاريخ البشري. فالتطور المستمر لقوى الإنتاج هو القانون العام (الآلية العامة) ليس لكل التاريخ بل للرأسمالية. واصطدام هذا التطور المتعاظم دائما للقوى الإنتاجية مع علاقات الإنتاج السائدة هو واقعة تاريخية خاصة بالمجتمع البورجوازي ولا يمكن سحبها على كل المجتمعات البشرية السابقة. وتحول القوى الإنتاجية الى قوى تدميرية تعصف بأسلوب الإنتاج وتدفع نحو تجاوزه هو معاينة تاريخية لواقع نشوء وتطور الرأسمالية وليس لكل أساليب الإنتاج التاريخية.
فلو عدنا للتاريخ لوجدنا أن قوى الإنتاج لم تكن تسير بشكل تطوري بمثل ما تسير به في ظل الرأسمالية، حيث يمكن معاينة أحقاب تاريخية طويلة لم تشهد تطورا ذا بال للقوى الإنتاجية. كما يمكن معاينة انهيارات كبيرة لوسائل الإنتاج نتيجة عوامل طبيعية أو نتيجة الحروب والغزوات والسلب والتدمير الناتج عنهما، هذه الانهيارات أعقبتها فترات انحطاط طويلة، وحتى الازدهار الصناعي والتجاري الذي عرفته بعض المناطق وبعض الفترات التاريخية بقي معزولا ومحدودا ومعرضا للانهيار بالضبط نتيجة انعزاله ومحدوديته وعدم تحوله الى تطور شامل، حتى أن هذا الازدهار يظهر كحالات استثنائية متقطعة، لا كحالة تطور مستمر ودائم مثلما أصبح عليه الأمر في ظل الرأسمالية. وهكذا فلا يمكن اعتبار تطور قوى الإنتاج الدائم والمتواصل وغير القابل للإنتكاس قانونا عاما للتاريخ، بل هو بالأحرى قانون عام للرأسمالية، وللرأسمالية وحدها.
أما أساليب الإنتاج التاريخية فإنها لم تخضع لتلك اللوحة الخماسية الستالينية الشهيرة (مشاعية، عبودية، اقطاعية، رأسمالية، اشتراكية). فمن جهة لم يكن العالم يخضع لنفس الأسلوب الإنتاجي، كما هو الحال بالنسبة للرأسمالية، بل إن أساليب الإنتاج كانت ذات طابع محلي تختلف من مكان الى آخر، وهذا ناتج عن الطبيعة المحلية لتلك الأساليب الإنتاجية، على عكس الطابع العالمي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي. ومن جهة أخرى فإن مناطق كبيرة من العالم لم تعرف هذا التتابع في تطور أساليب الإنتاج، بل إن هناك مناطق لم تعرف أساليب إنتاج مثل العبودية أو الإقطاعية إلا في أشكال متحولة أو هامشية (ماركس نفسه يتحدث عن أساليب إنتاج آسوية وجرمانية..الخ). هذا اضافة لكون تلك الأساليب الإنتاجية لم تظهر دائما كنتيجة تطور في قوى الإنتاج، بل أحيانا نتيجة تدميرها بالذات (الاقطاعية في أوروبا)، ولا ينطبق هذا القانون إلا على ظهور أسلوب الإنتاج الرأسمالي في أوروبا، ذلك أن بقية العالم قد استقبل الرأسمالية بطريقة أخرى (الاستعمار).
وهكذا فإن البحث التجريبي في التاريخ لا يعطينا قانونا عاما مطلقا لسير هذا التاريخ، بل قوانين نسبية تاريخية متحولة ومتغيرة وفق تحول وتغير الحالة التاريخية (وهذا ما يدعمه ماركس في عديد أعماله وتلك هي المفارقة). ولم ينتظم تطور القوى الإنتاجية في شكل تطوري دائم، ولم يصبح قانونا تاريخيا إلا بظهور وتوطد أسلوب الإنتاج الرأسمالي. كما لم يظهر التناقض بين هذا التطور في القوى الإنتاجية وبين أسلوب الإنتاج السائد إلا في ظل نشوء وتطور الرأسمالية. فوصول الرأسمال الى درجة محددة من تطوره هو الذي جعله يصطدم في مرحلة أولى بأسلوب الإنتاج الإقطاعي في أوروبا وبكل الأساليب الإنتاجية التقليدية الأخرى في بقية العالم، وهو أيضا ما جعله في مرحلة لاحقة يصطدم بتطوره الخاص، وتناقضاته والخاصة، والتي هي تناقضات تاريخية يختص بها الرأسمال، والتي هي تناقضات تاريخية يختص بها الرأسمال بالذات وتخصيصا، نتيجة طبيعته التاريخية بالذات، وليست تناقضات "ديالكتيكية" مطلقة تشمل كل التاريخ البشري، أو هي حصيلته "الديالكتيكية" الحتمية والضرورية.
من السهل إطلاق الأحكام العامة على التاريخ في شكل قوانين مطلقة انطلاقا من التجريد لا من البحث التجريبي. مثل أن نتحدث عن الإنتاج بشكل مجرد، أي بدون مميزاته التاريخية الخاصة، لنصل الى قانون عام حول الإنتاج، لا قوانين تاريخية مخصوصة لإنتاج محدد (وهذا ما ينقده ماركس في كل أبحاثه الاقتصادية والتاريخية، وهو ما يطرح السؤال عن علاقة ماركس بايديولوجية اتخذته اسما لها، أي "الماركسية"). أو أن نتحدث عن تغيير البشر لأساليب إنتاجهم لحياتهم المادية وفق طبيعة قوى الإنتاج التي يعتمدونها، فنصل الى قانون عام ومطلق لهذه التغيرات (قوانين الديالكتيك الشهيرة)، والحال أن التحولات التاريخية في أساليب الإنتاج لم تخضع لنفس الآلية، أي لنفس القانون، بل لآليات مختلفة وجب بحثها كل على حدة (وهذا ما يؤكده ماركس خاصة في مخطوطته "الايديولوجيا الألمانية"). وهكذا فليس هناك جدول مسبق، محدد بقانون عام، لهذا التحولات، بل تحولات تقع وفق شروطها التاريخية الخاصة، لا وفق قانون مطلق هو ليس سوى ابتداع تأملي، أو نظرة ميتافيزيقية للتاريخ، وكأن هذا الأخير يسير وفق قانون متعالي وموضوع مسبقا.
فالرأسمالية ليست حصيلة قانون عام للتاريخ، أي أنها ليست "حتمية" مكتوبة في اللوح المحفوظ للتاريخ، وكأنه كان مرسوما سلفا أن على البشرية الوصول الى الرأسمالية أو ضرورة المرور بها للوصول الى أسلوب إنتاج آخر، أو كأن كل مرحلة تاريخية هي "تطور" و"تقدم" بالنظر للمراحل التاريخية التي سبقتها في اتجاه هدف نهائي تسير نحوه روح التاريخ الخفية، وبهذا تظهر الرأسمالية وكأنها "تطور" و"تقدم" بالنظر لأساليب الإنتاج السابقة لها، وأنها تقوم بمهمة خاصة في التاريخ، مكلفة بها مسبقا، للتحضير لأسلوب إنتاج جديد.
الرأسمالية في نشوئها كما في تطورها تسير وفق شروط تاريخية خاصة، أي وفق آليات تاريخية خاصة، وجب بحثها في تميزها التاريخي وفي تنوعها وتعقيدها بالذات، وليس وضعها في قالب قانون "ديالكتيكي" عام. ولا يمكن سحب هذه الآليات التاريخية الخاصة بالرأسمالية على كل تاريخ أساليب الإنتاج السابقة، بل بالعكس، إذ علينا أن نكشف تميز تلك الأساليب الإنتاجية القديمة من خلال تميز أسلوب الإنتاج السائد.
ومن السهل أيضا أن ننظر للتاريخ بصفته تاريخا عقلانيا، أي أنه تجسيد للعقلانية. لكن هذه العقلانية بالذات هي نظرة المجتمع البورجوازي لنفسه، بصفته مجتمعا عقلانيا، وجرائمه وكوارثه هي أيضا أمر عقلاني تماما، أو تجسيد لعقلانية التاريخ. فيكون تجريد البشر من وسائل إنتاجهم وتركيزها في يد طبقة إجتماعية عمل عقلاني، بما أنه "ضرورة تاريخية" لتطوير قوى الإنتاج، بمثل ما أن الحروب والغزوات الاستعمارية وإبادة واستعباد الملايين عمل عقلاني، بما أنه "ضرورة تاريخية" لإلحاق تلك الشعوب بركب "المدنية" و"التقدم" و"الحداثة"، إلحاقها بالرأسمالية كشرط عقلاني هو أيضا للوصول الى "الاشتراكية".
والاشتراكية نفسها هي الهدف العقلاني للتاريخ (الاشتراكية العلمية)، وخارج هذه العقلانية تكون الاشتراكية مجرد يوطوبيا (الاشتراكية الخيالية). ولو دفعنا هذا المنطق العقلاني الى آخره، فالاشتراكية ستتحقق، لا بحركة البشر وممارستهم الثورية ضد الرأسمالية وقوانينها، بل كتجسيد لقانون عام للتاريخ لا يسبق الاشتراكية فقط، بل يسبق الرأسمالية نفسها، ويسبق كل أساليب الإنتاج التي كان ظهورها وتفسخها حصيلة ذلك القانون، قانون الديالكتيك الذي لا يسير التاريخ فحسب، بل يسير الطبيعة نفسها.
طبعا يمكن ببساطة رد هذه القوانين الديالكتيكية المطلقة التي تحكم الكون والبشر وتاريخهم، يمكن ردها الى فكرة الله نفسها. وفي الواقع ليس هذا تهويلا، بل حقيقة فلسفة الديالكتيك نفسها التي هي ليست سوى الصياغة الفلسفية الأكثر انسجاما للنظرة الدينية.
وليس غريبا كون هذه النظرة "التقدمية" و"التطورية" للتاريخ قد قادت الماركسية الى أكثر أشكالها ابتذالا، تلك الماركسيات "الوطنية" التي تشترط تطور الرأسمالية الوطنية كشرط للمرور الى الاشتراكية، هذه الاشتراكية التي ينظر لها هي أيضا من منظور "وطني"، بما حولها الى ايديولوجيات قومية مندمجة مع بورجوازياتها القومية. با إن الرأسمالية، وفق هذه الماركسية الوطنية، تتحول الى لوحة زاهية لا تظهر فيها إلا عناصرها "الايجابية": التقدم، التصنيع، الثروة، تطور قوى الإنتاج، الحضارة (أي النموذج الغربي وقد تمت تصفيته من كل شوائبه). وحتى العناصر "السلبية" تظهر بصفتها "عملا تقدميا"، أو في أحسن الحالات "ضرورة تاريخية"، فتحويل المنتجين الى بائعي قوة العمل، وانتزاعهم الاجباري من أراضيهم ودفعهم لجحيم المدن، هو عمل "تقدمي"، لأنه يخلق البروليتاريا التي ستكون أداة تحقيق الاشتراكية لاحقا. وتدمير البيئة الطبيعية للبشر لأقلمتها مع حاجيات التراكم الرأسمالي، مثل تدمير كل أشكال الزراعات التقليدية لحساب الزراعات الكبيرة المرتبطة بالتقسيم العالمي للعمل، هو أيضا "عمل تقدمي"، لأنه يخلق الفرز الطبقي الضروري في الأرياف ويخلق البروليتاريا الزراعية ويلحق الزراعة بعالم الصناعة السحري، وهذا من أجل تهيئة الرضية للتحول الاشتراكي لاحقا (و"لاحقا" هي في الواقع الأمر الدائم والثابت).
لا شك أن الرأسمالية قامت وتقوم بأكثر مما تطلبه منها الماركسية، فهي بالفعل قد حولت أغلبية البشرية الى مجرد بائعي قوة العمل على ذمة الرأسمال وحاجته لهذه البضاعة الفريدة، وهي قد دمرت عمليا الاطار الطبيعي الذي ظل البشر يعيشون ضمنه لملايين السنين، وحولته الى مصنع كبير لإنتاج البضائع، وهي قد طورت قوى الإنتاج (لا ننسى أن وسائل القتل والدمار، كما وسائل تنميط الوعي وصناعة الاغتراب المعمم، من الاشهار الى أفلام البورنو هي أيضا قوى إنتاج، بل هي تحوز على النسبة الأعظم من القوى الإنتاجية التي تطورها الرأسمالية)، بل حولت تطوير قوى الإنتاج الى عقيدة حتى في أذهان ضحاياها (وما الماركسية سوى ايديولوجية "تطوير قوى الإنتاج")، ولم تعد هناك قوة إنتاج إلا وهي في خدمة التراكم الرأسمالي وتحصيل الربح.....ورغم ذلك مازال هناك من يتحدث عن ضرورة "التقدم" و"التنمية" و"الحداثة" و"التصنيع" و"تطوير قوى الإنتاج"، بل هناك من يعيد سبب الكوارث والمآسي التي يعيشها عالمنا المعاصر الى نقص في "التنمية" ونقص في "التصنيع".... وأنه علينا "اللحاق بركب الدول المتقدمة" وتطوير "الاقتصاد الوطني" و"جلب الاستثمار"، كل ذلك هو "مرحلة ضرورية" (المرحلة الديمقراطية) للوصول (الذي لا يصل أبدا) الى جنة الاشتراكية.
التاريخ بالنسبة للماركسية، وللنظرة "التطورية" عموما، هو تحقيق لإرادة قوانين "الديالكتيك"، والتي هي قوانين موجودة منذ الأزل، قوانين تتحكم في المادة كما في البشر وتاريخهم. والرأسمالية ليست حدثا تاريخيا محكوم بشروط الخاصة، بل تجسيد لقانون عقلاني يسبقها، اي أن التاريخ الواقعي، والرأسمالية حصيلته الحتمية، هو ضرورة عقلانية، بمثل ما أن وجود الشر في العالم، بحسب النظرة الدينية، هو من تدبير المشيئة الالاهية وحكمتها الخفية.
لكن هذه النظرة تنسى أنها هي نفسها حصيلة تاريخية. فإذا كانت النظرة الدينية عموما تعبير عن اغتراب البشر في علاقة بقوى المحيط الطبيعي، وتأخر السيطرة الواعية عليه، وهكذا تتحول هذه القوى الطبيعية الى قوة ميتافيزيقية متعالية، فإن النظرة العقلانية بشقيها الهيغلي والماركسي هي تعبير عن اغتراب البشر عن قواهم الإنتاجية، وعجزهم عن السيطرة عليها، بحيث تتحول هذه القوى الإنتاجية (الاقتصاد) الى قوى مستقلة بذاتها، تسير وفق قانونها الخاص لا وفق الارادة الجماعية الواعية.
فتطور رأس المال يقود الى استقلاله الذاتي، لا عن المنتجين فقط، بل حتى عن مالكي وسائل الإنتاج والمتصرفين فيها (ماركس يصف الرأسمال بأنه "قيمة تزداد ذاتيا"). فمنطق الإنتاج من أجل الربح يفرض نفسه، لا كإرادة الرأسماليين، بل كقانون طبيعي للإنتاج. والمنافسة لا تظهر كنزاع بين الأفراد، بل تقف في مواجهتهم كشرط طبيعي موجود سلفا. والعرض والطلب، لا يظهر كحالة تاريخية، بل كيد ميتافيزيقية توزع الأرباح والخسائر وتحدد مصائر الأفراد. أما المنتجون الأجراء فإن القوى الإنتاجية ليست سوى قوى خارجية، لا غامضة ومستقلة عنهم فحسب، بل كقوى غريبة وغاشمة تستعبدهم وتستنزف طاقاتهم وتلقي بهم في حضيض البطالة عندما لا تكون بحاجة لهم، بل إن وجودهم يتحول الى فائض وعبئ على المجتمع، بدون أن يكون لهم أي اختيار ولا أية إرادة. والثروة الاجتماعية نفسها، إذ تتحول الى أكداس متعاظمة من البضائع، فإنها تتحول الى ما يشبه الذرات الفردية التي تتقاذفها الأمواج العشوائية لسوق المنافسة. هذه البضاعة التي تتحول الى طلسم لا أحد يعرف كنهه ولا طبيعته. وصولا الى الصنمية المعممة عبر آلهة النقد، والتي تحول اغتراب البشر عن حياتهم النوعية الى واقعة يومية.
هذا الواقع التاريخي هو الذي يصنع الدائرة المنفصلة عن الحياة الاجتماعية: دائرة "الاقتصاد". فالاقتصاد في عالمنا المعاصر لا يظهر إلا كألغاز، ككائن خرافي يقف فوق المجتمع ويتحكم في مصائره. فلا يعود الإنتاج الاجتماعي يخدم تلبية حاجات المجتمع، بل إن المجتمع هو من يخدم تلبية لحاجات الاقتصاد، من أجل مزيد "التنمية"، مزيد من "التقدم"، مزيد من "لحضارة"، مزيد من "التطور"، مزيد من "الإنتاج" ولا شيء غير الإنتاج، مزيد من "الاستثمار"، مزيد من "المردودية" والإنتاجية"...الخ، ولأن الرأسمال لا يشبع أبدا، فكلما زاد الإنتاج، كلما زادت الحاجة في الإنتاج أكثر فأكثر، لأن الإنتاج هنا لا يعني سوى الربح، ومهما تحقق من ربح فالمزيد منه مطلوب دائما وأبدا.
والاقتصاديون في الشرق كما في الغرب لا يرون حلا إلا في مزيد تدعيم الاقتصاد وتنميته. والمعضلات والأزمات الاجتماعية لا تظهر لهم إلا كنتيجة نقص تطور هذا الاقتصاد. ففي الشرق تكمن المشكلة لدى الاقتصاديين في "تخلف" الاقتصاد، أما في الغرب فهي في "ركود" الاقتصاد. وهكذا فعلينا أن نقدم حياتنا قربانا للاقتصاد. حياتنا التي لم تعد شيئا سوى تضحية من أجل الاقتصاد.
والاشتراكية، لدى الماركسيين، ليست إنهاء الاقتصاد كدائرة خاصة ومستقلة عن الحياة الاجتماعية، وهذا لن يكون إلا بالسيطرة الجماعية الواعية على القوى الإنتاجية وتوجيهها نحو التلبية المتوازنة والمتضامنة لحاجات البشر، وهذا وحده ما يمكن أن يوقف "تطورها" الأعمى وتحولها الى قوى تدميرية، وهذا نفسه ليس سوى إنهاء لقوانين الاقتصاد بما هي قوانين تاريخية ناشئة وستزول بإزالة شروط وجودها، وإنهاء تحكمها في البشر باعتبار كونها ليست قوانين طبيعية، الاشتراكية لدى الماركسيين هي بالعكس تطوير لهذا الاقتصاد بالذات تحت مسمى "تطوير قوى الإنتاج"، "تطوير الاقتصاد الوطني"، بل إن الشيوعية بالنسبة لهم هي "إقتصاد الوفرة" (وما هي الرأسمالية الصناعية المتطورة إن لم تكن النموذج الذهبي لإقتصاد الوفرة، أي اقتصاد تكديس البضائع؟) والاشتراكية لديهم ليست إنهاء العمل المأجور الذي هو أساس الاقتصاد، بل تعميمه في شكل دولاني، ولا إنهاء الرأسمال بل تغيير ملكيته الحقوقية من أجل مركزته في يد جهاز الدولة، فالاشتراكية هنا هي ببساطة دفع الرأسمالية الى أقصاها ك"تقدم" مطلق، ك"تنمية" مطلقة، ك"اقتصاد" مطلق، وطبعا كرأسمالية خالية من تناقضاتها.
أما انفصال الاقتصاد وتحوله الى قوة مستقلة متعالية، أي انفصال القوى الإنتاجية وتحولها الى قوى غريبة عن المجتمع، والذي هو ظاهرة تاريخية وليست طبيعية، فهو يمثل الأساس المادي لكل النظرة الحادية الماركسية للتاريخ: وجود عوالم منفصلة بعضها عن بعض تقسم الحياة الاجتماعية، عالم الاقتصاد، عالم "الحياة المادية" في مقابل عالم الوعي والأفكار، ومنه تلك الثنائية الميتافيزيقية بين "الوجود الاجتماعي" و"الوعي الاجتماعي"، وبين "المادة" و"الوعي"، ومن ثمة خلق تلك المعضلة الوهمية حول أسبقية هذا عن ذاك، وما هو السبب وما هو النتيجة، وغير ذلك من الطلاسم الفلسفية غير القابلة للحل. وهذا نفسه ما سيقود الى التقسيم بين "النضال الاقتصادي" و"النضال السياسي" ومنه الى ثنائية "الطبقة" و"الحزب" و"الوعي التريدينيوني" و"الوعي الاشتراكي". وعندما يتحول العالم الى ثنائيات (هي صورة متحولة للثنائية الدينية بين الخير والشر)، الى عوالم منفصلة، حينها سيكون من السهل النظر للراسمالية في شكل لوائح اقتصادية "ايجابية" في مواجهة لوائح اقتصادية "سلبية"، ويكون بذلك المطلوب هو التخلص من اللوائح "السلبية"، وتدعيم اللوائح "الايجابية".
فمراكمة الثروة هو عنصر "ايجابي" في الرأسمالية وجب تطويره، بينما التوزيع الطبقي لهذه الثروة هو عنصر "سلبي" وجب التخلص منه. وتطور العلوم والتكنولوجيا شيء "ايجابي"، لكن توجيهها نحو التدمير والحروب وخلق حالة الاغتراب المعمم فهو شيء "سلبي"، و"التايلورية" نفسها (نظام العمل في مؤسسة الإنتاج القائم على الاستثمار الأقصى لمجهود العامل) تتضمن عنصرا "ايجابيا" وجب تطويره (تايلورية لينين)، لكنها تتضمن عنصرا "سلبيا" وجب التخلص منه.... وهكذا فكل شيء يتضمن جانب "الخير" في مقابل جانب "الشر"، والمطلوب دائما هو مواجهة الجانب "الشرير" بالجانب "الخير".
هذه النظرة تخفي كون الثروة ليست شيئا "ايجابيا" ولا "سلبيا"، إنها ببساطة علاقة اجتماعية. فكل ثروة المجتمع البورجوازي إنما هي كمية متعاظمة من البضاعة، وهذه الأخيرة ليست مجرد شيء "مادي" بل هب الأساس علاقة اجتماعية. والتكنولوجيا نفسها ليست شيئا "محايدا" يمكن توظيفه بهذا الشكل أو ذاك وفق الرغبة، بل هي علاقة اجتماعية. والأمر نفسه بالنسبة للعلوم وأنظمة العمل ووسائل الإنتاج، وطبعا الدولة وكل أجهزة الادارة الاجتماعية. فالأمر لا يتعلق بتطوير هذا والتخلص من ذاك، بل إنهاء العلاقة الاجتماعية نفسها. فالتغيير الثوري للعلاقة الاجتماعية السائدة (والرأسمال هو علاقة اجتماعية) هو بالذات الذي سيغير من نظرتنا للثروة والعلوم والتكنولوجيا ونظام العمل والادارة الاجتماعية...الخ، فبدون السيطرة الجماعية الواعية على القوى الإنتاجية وتحويلها لتلبية الحاجات الفعلية للبشر في وجودهم النوعي، فالثروة ستنتج حتميا الفقر، والعلوم ستنتج الدمار والحروب والتلوث، والتكنولوجيا ستنتج الاغتراب والادارة ستنتج البيروقراطية والفساد. ذلك أن الثروة لا يتم إنتاجها إلا في بسيل الربح وفي خضم المنافسة، والعلوم هي ليست سوى أداة إنتاج في خدمة الرأسمال واحتياجاته، والتكنولوجيا ليست سوى الوسيلة العملية، لا للتخفيض في وقت العمل وتجنب أخطاره، بل لمزيد استثمار جهد العمال والتخلص منهم في نفس الوقت، والادارة ليست سوى ادارة شؤون الطبقة السائدة. و"التطور" هو ليس سوى تطور الرأسمال وتطور تناقضاته الملازمة. و"التقدم" هو ليس سوى تقدم هيمنة الرأسمال على حياة البشر. و"التنمية" هي ليست سوى تنمية راس المال، أي تنمية استثمار جهد الشغيلة. وهذا "التطور" وهذه "التنمية" لن تكون إلا أحادية الجانب، أي لصالح فئة دون أخرى. فتطوير قوى الإنتاج يستوجب دائما تحطيمها حين تفيض عن حاجة الرأسمال في التحقق. والتقدم الصناعي والتكنولوجي يستتتبعه دائما التخلص من اليد العاملة الحية، لأن الرأسمال يسير ضمن المنافسة وليس ضمن خطة جماعية واعية، وهو أصلا لا يمكن أن يخضع، بطبيعته التاريخية، لأية خطة واعية سوى التخطيط الرأسمالي نفسه. و"التنمية" لن تخضع للحاجات الفعلية للمجتمع، بل للحاجة الى الربح، لذلك فهي ستقود دائما الى الأزمات والاختلالات، ذلك أن الرأسمال لا "ينمي" طاقات المجتمع في تناغم مع حاجاته، بل وفق آلياته الخاصة المنفصلة عن الارادة الاجتماعية، لذلك فستكون دائما "تنمية" أحادية الجانب، لا تعبر عن تطور فعلي للبشرية، بل عن تطور الراسمال واقتصاده الذي لا يتقدم إلا في مواجهة هذه البشرية نفسها.