نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (8)


موسى راكان موسى
2015 / 2 / 2 - 12:22     

:: تكلمة ::

في الفصل الخامس / السمات الإيديولوجية لعولمة الرأسمال :

و تمهد الدكتورة سعاد للفصل الخامس بقولها : { خلق إنهيار المنظومة الإشتراكية و تراجع الحرب الباردة و فشل التنمية في البلدان المتحررة بلبلة فكرية و فراغا إيديولوجيا مكّن الرأسمالية من القيام بهجوم إيديولوجي (...) و لا سيما في مجال تقبل أفكار العولمة الرأسمالية بإسم [العولمة] المجرد و إنتصارها } , فالدكتورة إذا تقر بأن عصرنا اليوم هو نتاج (إنهيار المنظومة الإشتراكية) و (إنهيار حركة التحرر الوطنية) .. و أيضا و لو بشكل ضمني تغيّر جذري في هيكلة (المنظومة الرأسمالية) _و إن كنا نستنكر إبقاء مسمى الرأسمالية رغم هذا الكم و الكيف من التغييرات الجذرية التي طالت البنية التحتية للمنظومة الرأسمالية و قد تناولنا هذا في ما سلف من أجزاء ضمن هذه السلسلة_ .. إذ تكمل : { صياغة أنماط عالمية في إسلوب الحياة و الإنتاج و التسويق و الإستهلاك (...) أصبح سوق الإعلانات ضخما و تأثيره بالغا في حركة السوق (...) فقد أصبحت وسائل الدعاية و الإعلان تلعب دورا هاما في صياغة ثقافات إستهلاكية موحدة و الضغط على المجتمعات الفقيرة و تهديد مواردها الشحيحة أصلا و تشويه بنية الطلب فيها و لا سيما بالنسبة للفئات المرفهة } .


(أولا) عولمة الرأسمال و الديموقراطية :

تقول : { تحاول عولمة الرأسمال أن تظهر بمظهر الوريث للتقاليد الديموقراطية في حين تعمل على إفقار شعوب العالم بما فيها شعوب المراكز الرأسمالية الكبرى و سحق هوية مواطني العالم و خلق نسخ مكررة إستهلاكية تستجيب لمصالح الرأسمالية المتوحشة } , فإن تحفظنا بالمقصود بالديموقراطية و قبلناها في آن معا .. و بحثنا عن وريثها الحقيقي اليوم عدا المراكز الرأسمالية (أو التي كانت رأسمالية) فلن نجد ديموقراطية أفضل من ديموقراطية المراكز (أو تلك التي كانت رأسمالية) ! , فيكون إذا إختلافنا مع الدكتورة سعاد بتأويل هذا الإختلاف في مقصدها بالديموقراطية .. و الموقع الواقعي لوجود هذه الديموقراطية , فالديموقراطية ليست إلا شكل من أشكال الديكتاتورية .. سواء أتمثلت بشكل مباشر أو غير مباشر .. و من الجدير أن نعي ذلك طبقيا , أما العمل على إفقار الشعوب حتى شعوب المراكز و سحق الهويات الأخرى و خلق نسخ إستهلاكية .. فإن كان لمصلحة ما فليست بالخصائص التي تناولناها أو نقدناها فيما سلف من إجزاء هذه السلسلة أن تكون رأسمالية .. أو أقله ليست هي ذاتها الرأسمالية فيما قبل السبعينيات إن أردنا أن نقارب قدر الإمكان الوجهات بغض النظر عن المسميات .

و تكمل الدكتورة : { لقد سارت الرأسمالية مع الديموقراطية يدا بيد منذ نشوئها فالتطوّر الإقتصادي (...) و أوجدت ثلاث أدوات للتعبير عنها :
1- الديموقراطية التمثيلية أو البرلمانية .
2- الإستفتاء المباشر لكل الشعب في إتخاذ القرارات التي تمس مصالحه .
3- الديموقراطية الدستورية (...) .
و أدت الديموقراطية التمثيلية و الدستورية إلى ظهور الأحزاب السياسية و طموح كل حزب إلى نيل الأغلبية البرلمانية ليشكل الحكومة بمفرده أو بالإئتلاف مع أحزاب أخرى (...) فكل حزب يمثل مصالح مجموعة أو طبقة معينة من السكان (...) و لتلافي الصراع بين الأحزاب البرجوازية و مواجهة كفاح الطبقات و الأحزاب الأخرى المتصاعدة و تضييق الخناق عليها .. و في عصر عولمة الرأسمال لجأت الأحزاب البرجوازية إلى الإندماج ببعضها و الإكتفاء بحزبين رئيسيين (...) يقول الكاتب الأمريكي كور فيدال : هناك في الولايات المتحدة حزب واحد ذو جناحين } , و هنا قد لا نختلف كثيرا مع الدكتورة , فحتى لو إفترضنا وجود حزب يمثل فترة الإقطاعية هذا لا يعني بالضرورة أن البنية التحتية لهذا النظام العالمي أو الدولة التي تمكّن فيها هذا الحزب ذات نمط إنتاج إقطاعي .. و كذلك الأمر سيان بالنسبة للأحزاب المرتبطة وجدانيا بالرأسمالية أو حتى تلك المرتبطة وجدانيا بالشيوعية .. فالحزب المتمكّن لا يعني بالضرورة تمكّن [فكرته] التي يرغب في تحققها أو تحقيقها على أرض الواقع .

و تثير الدكتورة نقطة : { و لكن حتى هذه الديموقراطية المشوهة هي رهن بدرجة التطوّر الإقتصادي للمجتمع و بمعدل الدخل الفردي للسكان و مستوى تطوّرهم الثقافي } .. و تكمل مستمثلة لذلك : { لأنهم يؤمنون بعدم ملائمة الديموقراطية للبلدان التابعة , فقد كتب مدير وكالة المخابرات الأمريكية CIA جيمس شليسينغر 1998 في مجلة Foreign Affairs : هل نرغب حقا في تقديم الديموقراطية كطريقة ملائمة للحكم في المجتمعات الأخرى كالمجتمع الإسلامي على وجه الخصوص ؟ هل نرغب جديا بتغيير المؤسسات السعودية ؟ إن الجواب المختصر هو : كلا .. إننا عملنا لسنوات على المحافظة على هذه المؤسسات و أحيانا أعتبرناها أفضل من القوى الديموقراطية التي ظهرت في المنطقة كلها } , و من المؤسف حقا أن تتناول الدكتورة موضوع الديموقراطية بشكل مجرد .. لهذا فهي تستنكر الرؤية القائلة بعدم ملائمة الديموقراطية للبلدان التابعة , فلو إفترضنا أن إقامة الديموقراطية على غرار المراكز في المواطن التابعة أو الأطراف .. فهذا يتطلب ذا البدء تغييرا في البنية التحتية لتفرض من ثم إنموذجا فوقيا يتشابه مع الإنموذج الفوقي عند المراكز المتمثل بالديموقراطية .. و لو إفترضنا أن ذلك يعني تنمية إقتصادية تفضي إلى رأسمالية يكفينا أن نتنبأ بفشل كل السبل المؤدية لذلك , أما لو إفترضت الدكتورة تنمية أخرى لا تفضي للرأسمالية فيا حبذا لو تطرحها لنعرف هل ستفضي لديموقراطية مماثلة للإنموذج عند المراكز أم لا ؟ .. لكن إن كانت إشتراكية فيجب على الدكتورة حينها أن تُسقط مفهوم الديموقراطية لتقيم حقيقته الكامنة خلفه و هي الديكتاتورية و تحدد بصراحة الطبقة المقصودة بقيادة هذه الدكتاتورية .

لحسن حظنا أن الكتاب الذي نحن بصدده طبعة سنة 2000 .. إذ تكمل الدكتورة :{ فالحكومات التابعة التي تكبت الحريات الديموقراطية و النقابية و تقتل العمال الذين يطالبون برفع الأجور أو تحسين ظروف العمل و تسمح بتشغيل الأطفال في الأعمال الخطرة على حياتهم هي التي تضمن الأرباح الطائلة للشركات الرأسمالية الكبرى (...) فالمراكز الرأسمالية الكبرى تدبر و تسند الإنقلابات العسكرية و الأنظمة الديكتاتورية في البلدان الفقيرة , و تحميها من شعوبها كما فعلت في العراق , فقد حمت ديكتاتورية صدام حسين من إنتفاضة الشعب العراقي ضده عام 1991 } .. فإلى جانب إسقاط النص على الواقع و إتهام الرأسمالية بالجرائم بشكل عفوي و كأن الجرائم كلها حكر على الرأسمالية فقط .. تدين الدكتورة حماية نظام صدام حسين بالعراق , و المفترض إذا أنها لم تدنِ عملية تحرير العراق منه .. إلا إن كانت ترى أن العراق لم يكن يحتاج للتدخل لإسقاط البعث الصدامي ! .


(ثانيا) الليبرالية الجديدة :

تمهد الدكتورة للخوض في الليبرالية :{ مفهوم الليبرالية لضمان الحرية الفردية القائمة على المنافسة الحرة تحت شعار (دعه يعمل دعه يربح) و أغرقته بمفاهيم فلسفية و سياسية تقوم على الإيمان بالتقدم و إستقلال الفرد , فالفرد يفسر المجتمع و ما المجتمع إلا فرد تضاعف آلاف المرات , فالليبرالية في جوهرها ظاهرة رأسمالية تقوم على حرية الملكية و البيع و الشراء و منطقها الحتمي يؤدي إلى التفاوت الصارخ في الملكية لا إلى المساواة و لو تحققت نسبة معينة من المساواة لما كانت للمنافسة و تراكم الرأسمال حافز يستحثهما } .. و تكمل : { و مع تطور الرأسمالية عبر مراحلها تطور جهاز الدولة و أصبح إخطبوطا عملاقا ينمو في داخله إتجاه متعاظم نحو الإستقلالية النسبية في مواجهة الطبقة الرأسمالية التي يدار الحكم لصالحها أي إستقلالية إزاء المصالح الجزئية و المؤقتة لأقسام منها , فهناك أقسام من الرأسمالية تربح من تعاونها الوثيق مع الدولة و بعضها لا يرغب بتدخل الدولة بشؤونها , كما تختلف مواقف الإحتكارات من السياسة الخارجية و الضرائب و معدل التعريفة الجمركية الأمر الذي أدى إلى مواقف مختلفة من الدولة لدى فئات مختلفة من الرأسمالية و أصبحت الليبرالية أرضية بعيدة عن التجانس تتصارع عليها إتجاهات متناقضة تعبر عن تعايش الإحتكارات مع السوق الحرة و دولة الرفاهية مع قيم السوق التقليدية } , لعل أبرز ما يثير العجب هو وجود فئتين من الرأسمالية : (رأسمالية تربح من تعاونها مع الدولة) و (رأسمالية لا ترغب بتدخل الدولة في شؤونها) .. كأن [الدولة] ليست أداة طبقية و لا يمكن للرأسمالية أن تحكمها ! , لكن يزول هذا العجب حين ندرك أن الرأسمالية التي تربح من تعاونها مع الدولة هي تلك المعنية بالتجارة المالية و ما إرتبط بها .. في حين أن الرأسمالية التي لا ترغب بتدخل الدولة هي تلك المعنية بالإنتاج السلعي .. لكن لماذا ؟ أو لماذا الوضع هكذا ؟ .. الإجابة كامنة في موقع الدولة كأداة طبقية , و لو سايرنا الدكتورة في رأسمالية الوضع القائم مع التأكيد أنها ليست هي هي رأسمالية ما قبل السبعينيات .. فسنذهب كما ذهبت الدكتورة في تحليلها الذي إستنتج الصراع الفئوي بين الرأسماليات على أرضية ليبرالية .. بين الإحتكارية و الرفاهية ! , صحيح أن الكينزية (إتجاه الرفاهية) كان قبل السبعينيات و قد طبق لحماية الرأسمالية من المد الإشتراكي و لمواجهة المنظومة الإشتراكية في آن .. أي أنه تم إستخدماها لمصلحة الرأسمالية لا ضدها , و لكن هذا الإتجاه (الرفاهية) قد أدى مع عوامل أخرى إلى تغيير جذري في هيكلة الرأسمالية في السبعينيات .. و يتفق على هذه التغييرات الجميع تقريبا , لكن الإصرار على تسمية الوضع القائم برأسمالية بعد كل هذه التغييرات الجذرية يعود إلى عوامل ذاتوية لا إلى وقائع موضوعية بمنهج علمي .. و إلا و حتى و إن إفترضنا أن الصراع الفئوي بين الرأسماليات هو القائم و هو الذي أدى إلى هذه التغييرات فإنه ((محال)) أن يؤدي إلى تغييرات جذرية و هيكلية النظام الإنتاجي .

تكمل الدكتورة : { الإتجاه الليبرالي التكنوقراطي هو السائد فهو يرى الدولة آلية إدارية محايدة تحل محل التنظيم الذاتي للسوق و يرى الحكم السياسي مسألة قدرة إدارية تنظيمية لترشيد السيطرة على الصراع الإجتماعي , و يرفض كل إيديولوجيا في تصريحاته المعلنة و يحب الإبتعاد عن الطابع السياسي و الإيديولوجي في حل الصراعات و النزاعات فالصراع السياسي و الإيديولوجي أصبح من الماضي و لا يرى أصحاب هذا التيار من الليبرالية بأن الناخبين مؤهلون في الأوضاع الحديثة لإتخاذ القرارات المهمة التي تحتاج كفاءات عالية متخصصة , و القيادة السياسية لا تحتاج إلى مناقشات حرة مع جماهير عديمة الكفاءة بل إلى شبكة متطوّرة من خبراء متخصصين ليس من الضروري أن ينتخبهم أحد و يكفي للناخبين أن تقدم لهم برامج جذابة في اللعبة الإنتخابية } , و على ما يبدو أن هذا الإتجاه الليبرالي التكنوقراطي هو كما سلف الذكر على حد وصف الدكتورة سعاد (الرأسمالية التي تربح من تعاونها مع الدولة) .. و هو إمتداد للإتجاه الكينزي (الرفاهية) إذ تقع عليه مسؤولية التنظيم بدل التنظيم الذاتي للسوق _بالإضافة إلى حماية العملة و ضبطها و غير ذلك من قوانين نظام أو شبه نظام هذا العصر_ , و قد تبدو مسألة [التكنوقراطية] هذه مثيرة .. إذ أن (القيادة السياسية) لا تحتاج إلى مناقشات حرة مع جماهير عديمة الكفاءة بل إلى شبكة متطوّرة من خبراء متخصصين ليس من الضروري أن ينتخبهم أحد ! .. و الحق إن الأمر يتطلب ذلك و إلا لوقعنا في مصائب كونية , و لعل أبرز مثال على ذلك ما قيل أن القذافي كان يسعى إليه من محاولة إعادة الغطاء الذهبي .. فلو صدق خبر هذه المحاولة فقد كان إفشالها خيرا عظيما للبشرية .. و هي لا تدري , و جهل الجماهير هذا مرتبط بطريقة ما بوضعها ضمن نمط الإنتاج السائد و بإنتمائها الطبقي .

و تكمل : { هكذا فقد تحوّلت الليبرالية إلى نزعة معادية للديموقراطية تغلق الطريق أمام أي فعل مستقل للشعب و تلغي رأيه في القضايا المصيرية , و لا تزيد المعارضة في البرلمان عن لعبة الكراسي بين حزبين أساسيين يتبادلان الحكم على نفس الأسس التي تخدم النظام الرأسمالي و التعبير عن تناقضات ثانوية مهما إحتدمت فهي داخل إطار واحد و تعمل على تكامل المجتمع حول مركز موحد للسلطة السياسية , فالتعددية الليبرالية نزعة واحدية رأسمالية } , مع أنه سبق و تناولنا الديموقراطية .. إلا أنه على ما يبدو أن الدكتورة تقف في صف الديموقراطية ها هنا ! , و الغريب أن التكنوقراطية و إن كانت تلغي دور الجمهور إلا أنها أفضل من فوضوية الجهل الشعبي .. حتى و إن كانت كما تقول الدكتورة معادية للديموقراطية _حيث يبدو أن الديموقراطية ها هنا بمعنى الشعبية عند الدكتورة_ إلا أنها تعادي الديموقراطية لتحميها من نفسها .. أو بعبارة أخرى : تحمي الفكرة المثالية من الواقع المادي من خلال عدم ممارستها على أرض الواقع , فلو طبقت الفكرة لبانت للعيون عيوبها .. ليتم تجاوزها .

و رغم أننا تناولنا هذه الجزئية في أجزاء سابقة من السلسلة إلا أننا نوردها و لكن هذه المرة سنلحقها بتناول [الليبرالية] : { و مع نشوء صندوق النقد الدولي و البنك الدولي تبنت المؤسستان (البرنامج الليبرالي) لإعادة تنظيم الحياة الإقتصادية في البلدان الفقيرة و ذلك بالقضاء على قطاع الدولة في البلدان الفقيرة و تحويلها إلى القطاع الخاص لكل من لديه المال لشراء مؤسساته , و نتيجة لضعف الرأسمال المحلي فقد تمكنت الشركات متعددة الجنسيات من شرائها و السيطرة الكلية على إقتصاديات هذه البلدان تحت شعار (التحرر) } , كنت أتمنى من الدكتورة تحليلا و تقسيما أفضل لليبرالية .. فهناك ليبرالية واضحة في إرتباطها الإقتصادي بنمط الإنتاج السلعي و تقوم على خدمته .. و هناك ليبرالية غير واضحة الإرتباط الإقتصادي مكتفية بموقعها المثالي كإيديولوجيا .. و أخيرا هناك الليبرالية المعادية لنمط الإنتاج السلعي و لو بشكل غير مباشر عبر خدمتها لأساليب أو أنماط معادية للإنتاج السلعي , و إلا فكما سبق بنا القول فيما يتعلق بهيكلة صندوق النقد و البنك الدوليين .. فليبراليتهما ليست في خدمة الإنتاج السلعي و إنما لما يعاديها و لو بشكل غير مباشر و صريح .

و ما تورده الدكتورة يؤكد منطقنا في ذلك : { بلغت تناقضات الرأسمالية في مرحلة عولمتها حدا يعرض القيادة السياسية و الإيديولوجية لليمين الليبرالي إلى تحديات متصاعدة (...) فظهر الليبراليون الجدد بقيادة رونالد ريغان و مارجريت تاثشر في مطلع عصر عولمة الرأسمال .. و وفقا لليبرالية الجديدة تحوّلت الدولة إلى عنصر مكبل لحركة الرأسمال و تشل حركة السوق , و أن دور الدولة يجب أن يقتصر على مساعدة الرأسمال على خلق ظروف نمو أفضل } .. و ما الليبرالية الجديدة هذه إلا لخدمة الإنتاج السلعي .

و تضيف : { و إنساق وراء الليبرالية الجديدة الإشتراكيون الديموقراطيون (...) و يتذرعون بالقول (إيدينا مقيدة بالرأسمال العالمي و تجار الأسهم) ليتهربوا من مسؤولية عواقب عولمة الرأسمال , و ليستروا حقيقة أن عولمة الرأسمال تبقي للحكومات سلطاتها الإقتصادية و السياسية و العسكرية إن لم تزدها لخدمة مصالحهم , و صاغ أحد مؤدلجيهم و مفوض الإتحاد الأوروبي سابقا جاك ديلوارز (الميثاق الإجتماعي) الذي جرى تجاوزه قبل البدء بتنفيذه بسبب مقتضيات تحقيق العملة الأوروبية الموحدة (...) لأن الأولوية ستبقى لرعاية تغلغل المصالح و القيم الرأسمالية (...) و ذهب الإشتراكيون الديموقراطيون شوطا بعيدا في التلاؤم مع عولمة الرأسمال بحيث أخذوا رغم إستمرار البطالة الواسعة في بلدانهم يلجأون إلى تخفيض مساعدات الضمان الإجتماعي للعاطلين مبررين ذلك بزيادة مرونة سوق العمل , و يشجعون التدريب بالجملة للعاطلين لإيهام العمال العاطلين بأن سبب البطالة هو الإفتقار إلى ما يكفي من الدوافع و روح المبادرة و المهارة و ليس الخلل الجوهري في النظام الرأسمالي } , و لا أردي إن كان لدى الدكتورة سعاد خطة أو برنامج عمل يُمكّنها من خلاله أن تقدمه في مواجهة الإشتراكيين الديموقراطيين لمواجهة نظام أو شبه نظام العصر القائم .. لأنه بالفعل الإيدي مقيدة و ليس كما يبدو للدكتورة سهل التحطيم و ذا عواقب حميدة , أما قضية البطالة و موقف الإشتراكيين الديموقراطيين فهو يحتاج لنظر أعمق مما يبدو عليه النص .. فلو لاحظنا من ضمن التغييرات التي طالت العالم أجمعه منذ السبعينيات هو الإزدياد غير طبيعي في عدد الجامعات و الهيئات الدراسية العليا .. و رغم أن ذلك أمر حميد إلا أنه يحمل بين طياته نزوعا ضد الإنتاج و العمل ضمن نمط الإنتاج السلعي إلى النزوع إلى الإسلوب الخدماتي و العمل الذي تمارسه الطبقة الوسطى , و لو ربطت الدكتورة هذه النقطة بتضخم الطبقة الوسطى في رؤية الإشتراكيين الديموقراطيين لمشكلة البطالة .. لأمكن تفسير الرؤية المغلوطة للإشتراكيين الديموقراطيين تجاه قضية البطالة .



(ثالثا) عولمة الرأسمال و التعددية السياسية :

و تبدأ الدكتورة بموضوع التعددية بالقول : { و في مرحلة الحرب الباردة و تصاعد الهجوم الإيدولوجي ضد أنظمة الحكم في البلدان الإشتراكية القائمة على سيادة الحزب الواحد روجت الرأسمالية لفكرة التعددية السياسية مؤكدين على أن الديموقراطية هي إعطاء الحرية للكل و إفساح المجال لهم للعمل ضمن قانون اللعبة الديموقراطية (...) يؤكد التعدديون بأن مصالح النخب أو الفئات المتناقضة في المجتمع الديموقراطي و حياة الفرد و فرصته في العمل و إمكاناته الصحية و الثقافية يتم ضبطها عن طريق مركزه الإجتماعي و قوته الإقتصادية و موقعه بين النخب السياسية } , من الجدير بالإنتباه الربط بين ((الديموقراطية)) و ((الليبرالية)) و ((التعددية)) .. دون إهمال مقصود أو غير مقصود للظروف الموضوعية في مواجهة الأطروحات المثالية .. و هذه الظروف الموضوعية مرتبطة بإسلوب طبقة أو _إن سايرنا الدكتورة_ فئة لن تتخلى عن موقعها و موقفها الطبقي بكل يسر و أريحية , و بالتالي فدرجة تحقق أو تحقيق لكل من ((الديموقراطية)) و ((الليبرالية)) و ((التعددية)) نسبي متى إقتصر الخلاف على الخلاف الفئوي ضمن الطبقة الواحدة .. و ما إن يتعداه إلى خلاف طبقي حقيقي و جاد تظهر المكامين الحقيقية لكل من [الديموقراطية : دكتاتورية الطبقة أو الفئة المسيطرة] و [الليبرالية : مصلحة الطبقة أو الفئة المسيطرة] و [التعددية : النزعة الواحدية للطبقة أو الفئة المسيطرة] , و لعل طرق ضبط التعددية كما ذكرت الدكتورة يؤكد زعمنا (المركز الإجتماعي) و (القوة الإقتصادية) و (الموقع بين النخب السياسية) .

{ و إنساق و لا يزال وراء أفكار التعددية السياسية الكثير من مثقفي بلدان العالم الثالث الذين يحلمون بالنظام الديموقراطي التعددي في الوقت الذي تخلت المراكز الرأسمالية الكبرى عن التعددية السياسية بعد إنهيار المنظومة الإشتراكية لما تحدثه المنافسة بين النخب على السلطة من أضرار تضعف هيمنة الرأسمال و بدأ البحث عن (الطريق الثالث) بدل التعددية التي تتجاوز التقارب بين الأحزاب البرجوازية في برامجها و أهدافها إلى العمل على أن تتظاهر الحكومة الليبرالية و تسمي نفسها عمالية و تعمل على خدمة الرأسمالية و تدعي أنها ملك للكل .. لكل الشعب , و هكذا أصبح الإشتراكي الديموقراطي الأوروبي يلتقي بالليبرالي الأمريكي .. و العمالي البريطاني يتحالف مع الجمهوري الأمريكي و المحافظ البريطاني مع الليبرالي الفرنسي عندما يتعلق الأمر بالإعتبارات الإستراتيجية الكبرى للرأسمال العالمي _(نقلا عن الكاتب المغربي محمد نور الدين أفاية)_ } , و لكي لا نتوه بتمزيق النصوص نلجأ إلى الربط لتتوضح الصورة : قد سبق لنا الحديث عن الليبرالية التكنوقراطية و يبدو أن هذه تمثل ((الطريق الثالث)) على حد وصف الدكتورة سعاد .. و أن هذا في رأي الدكتورة تجاوز للتعددية السياسية _من حيث كونها تخدم الرأسمالية (الإنتاج السلعي)_ , و أما بخصوص أن التجاوز كان بسبب ما تسببه التعددية من أضرار تضعف هيمنة الرأسمال .. فهي لا تعني ها هنا رأسمالية (الإنتاج السلعي) ما قبل السبعينيات و إنما الشكل الجديد و إن سمته هو الآخر برأسمالية , و من الممكن أن نفهم تفاهم و حميمة هذا الخليط من (الليبرالي) و (الإشتراكي الديموقراطي) و (العمالي) و (المحافظ) و (الجمهوري) .. بفهم طبيعة القائم و ما يستلزمه للحفاظ قدر الإمكان على توازنه و إتزانه _عدا عن فلسفته أو إيديولوجيته القائمة_ , و إلا ماذا كانت لتعتقد الدكتورة من سلك هذه الطريق (( الثالث )) و تكنوقراطيتها ؟! .


(رابعا) النظريات الفلسفية لعولمة الرأسمال :

و التقسيم المتسلسل الآتي من عندنا :

[1] : { و من النظريات الفلسفية التي تروج لها الرأسمالية في مرحلتها الراهنة البرجماتية أو الذرائعية التي تؤمن بأن الغاية تبرر الواسطة و تؤمن كما يقول الفيلسوف برتراند راسل : (تقوم على العمل بدل النظرية و السعادة هي النتيجة المرجوة بينما المعرفة مجرد وسيلة لتحقيقها) (...) و بهذا يبررون كل الجرائم التي تقترفها الرأسمالية في هذه المرحلة بحق البشرية مادامت تحقق الأرباح و السعادة لحفنة من الرأسماليين } , و لنتجاوز زعم الدكتورة بإحتكار الرأسمالية للبراجماتية .. و بالتالي لا براجماتي إلا الرأسمالي ! , عموما .. صحيح سيادة البراجماتية هذا العصر و بشكل غير طبيعي .. إذ إنه من الممكن أن تستشعر تفشيها سواء أكانت في أو بين الدول أو الأحزاب أو حتى الأفراد .. إنك لتجد [التماثل] قائما بذلك , فليس غريبا أبدا اليوم .. أن تجد (على غرار الخليط بين الليبرالي و الإشتراكي الديموقراطي .. إلخ) علمانيا يدافع عن سلطة الكهنوت أو ليبراليا يدافع عن سلطة العسكر .. و طبعا لا يسعك إلا أن تصاب بالأسف على الشيوعي الذي تجده لنصر الله أقرب من ماركس ! .

[2] : { أما التجريبية و هي إلغاء لكل ما توصل إليه الإنسان من إنجازات علمية و نظريات فلسفية , كما تقوم على إلغاء ذاكرة الشعوب و ما إستخلصته من تجاربها منذ بدء العلاقات الرأسمالية حتى يومنا هذا من نظريات و تربط النظرية و التجربة أي الممارسة لتطوير النظرية و الممارسة معا للخلاص من العلاقات الرأسمالية مرة و إلى الأبد } , رغم أن تناول الدكتورة للتجريبية كان جدا مختصر و مبسط .. إلا أنه من الجدير أن نذكر أن صراع الماركسية اليوم في حقلها الفكري و الفلسفي يدور إن دار ذا البدء مع هذه التجريبية خصوصا بعد أن قدمهما كارل بوبر بثوب علمي لا فلسفي , و الذي من الممكن وصف طريق تسلسله بالبدء من العدم فالمرور بالعبث لينتهي مرة أخرى إلى العدم ! .

[3] : { و تروج الرأسمالية للفلسفة اللا أدرية لتضبيب الرؤية الإنسانية لحقائق الواقع و آفاق المستقبل و التشكيك بكل شيء لتقبل الواقع المرير الذي فرضته عولمة الرأسمال على البشرية } , هناك إرتباط على المستوى الإيديولوجي و الفكري بين كل من (البراجماتية) و (التجريبية) و (اللا أدرية) .. و الذي يتسم بالتكامل , فإن كان من السهل ملاحظة تقارب و تكامل التجريبية و اللا أدرية .. قد يبدو للبعض أنه لا تقارب أو تكامل واضح بينهما مع البراجماتية .. إلا أن الإمعان في البراجماتية التي تتحدد بوصفها و عملها كمفهوم بذاتها [العملية] .. فتكون بذلك مرحلة من مراحل التجريبية بل إحدى شروطها .. و تكون اللا أدرية لها ذريعة لتمارس ذاتها العملية دون روادع أخلاقية أو قيمية أو مراجع فلسفية لتحقق في ممارستها ما تتضمنه من ميكافيللية , إذ أن موقف الحياد الظاهري هو موقع العدم الباطني .. و العدم ليس محايدا كما أن اللا موقف هو موقف و بالضرورة هو يدعم موقف ضد موقف .

[4] : { لمحاربة الشيوعية و الإجهاز عليها كحركة و فكر , و الترويج لنظرية نهاية الإيديولوجيا لنزع سلاح البشرية من جانب واحد و إطلاق العنان لإيديولوجياتهم بدون أية مقاومة } , إسحب الآخر من أرضيته و ضعه على أرضيتك ثم واجهه .. هذا ما فعلته الماركسية مع المذاهب المثالية إذ إستقدمتها إلى أرضتيها المادية لتجهز عليها فتتجاوزها , و لكن في حين كانت المدارس المثالية ذات أرضية مجردة و خيالية .. فإن كل من التجريبية و البراجماتية و اللا أدرية تلغي الأرضية من الأساس [إذا إنطلاقها يبدأ من العدم] , و إعدام الفكر و الإدعاء بنهاية الإيديولوجيا هو تبشير بالفكر و الإيديولوجيا العدمية و لو بشكل مبطن , و كما سلف القول .. العدم هو الآخر موقف و إن تحدد بكونه لا موقف .. و لذلك رغم إلغاء الأرضية إلا أن النزعة المثالية كامنة في هذا الإلغاء كونها تعبر عن [تجريدية] و [خيالية] .

[5] : { يعلن مؤدلجو عولمة الرأسمال أن عولمتهم قدر حتمي و أنها تتفق مع أرقى مطامح الإنسان (...) و لا سيما هيمنة الرأسمال الأمريكي أكثر أشكال هيمنة عولمة الرأسمال إحتواء لمضمون إيديولوجي فهي الأقرب إلى الداروينية الإجتماعية حيث البقاء للأصلح و الأبقى على الإرتقاء و التقدم , البقاء لمن يملك أكثر من المال و من منجزات الثورة العلمية التكنولوجية } , في النهاية يبقى مؤدلجو عولمة الرأسمال ضمن مدارات الإيديولوجيا .. و لفهم حقيقة هذه الإيديولوجيا علينا معرفة الواقع الذي نبتت فيه و من ثم تحليلها و تفكيكها لنتجنب التجريد و الإنشاء .

[6] : { من أبرز أسلحتهم الإيديولوجية في مرحلة عولمة الرأسمال إطلاق مقولة [العولمة] دون تمييز بين جانبيها الإنساني و الرأسمالي بهدف ستر طابعها المعادي للبشرية و حجب جوهر العلاقات الإجتماعية القائمة على وحدة الأضداد و صراعها و إظهار آلياتها التي هي من صنع الإنسان و كأنها خارجة عن إرادته , فالمضاربات و الصفقات و الحروب من صنع التكنولوجيا الحديثة بما فيها ثورة المعلومات و الإتصالات و غيرها و ليس من صنع الإنسان لستر حقيقة أنها من صنع القوة المحركة للإنتاج الرأسمالي و هي الركض وراء الأرباح و الصراع و المنافسة لرفع مستوى الأرباح المحرك الأساسي لإيجاد و إستخدام المخترعات التكنولوجية } , و أعيد صياغة هذه النقطة [ من أبرز أسلحتهم الإيديولوجية في المرحلة المعاصرة إطلاق مقولة ((العولمة)) ] متجنبا (الغوص في إشكالية المفاهيم) و (إسقاط النصوص على واقع مختلف عن محتوى النص) و (إستقراء مغالط بالمنطق الديالكتيكي) .

=========================

و بذلك تنهي الدكتورة سعاد النظريات الفلسفية المرتبطة بالمرحلة المعاصرة .. و أتوقف ها هنا لأكمل في المرة القادمة ما تبقى من سمات إيديولوجية مرتبطة بالمرحلة المعاصرة ,