شيماء الصباغ .. إكليل زهور من أجل الشهداء


اليسار الثوري في مصر
2015 / 1 / 28 - 13:55     

ردد ميدان طلعت حرب صوت الهتاف: "عيش ... حرية .. عدالة اجتماعية"، كانت المسيرة الرمزية التي لا يتجاوز عددها خمسين فرداً أكثر من نصفهم من كبار السن والكهول، يحملون لافتات حزب التحالف الشعبي الاشتراكي وأطواق الورود، قد خرجت من شارع هدى شعراوي ووقف المشاركون فيها على الرصيف يهتفون بهتاف الثورة، ذهب أحد منظمي المسيرة للتحدث مع قائد قوات الداخلية التي تكدست في ميدان طلعت حرب واستمر المشاركون في ترديد الهتافات في انتظار التحرك لوضع أطواق الورود على النصب التذكاري في ميدان التحرير، في محاولة رمزية لإحياء ذكرى الثورة في ليلة ذكراها الرابعة.

فجأة انقلب الوضع، أصدر قائد قوات الداخلية أوامره، فبدأ الاعتداء على المسيرة، بدأ المشاركون في الهرب على خلفية صوت إطلاق قنابل الغاز والخرطوش، التفتت شيماء الصباغ تحاول الهرب لكن أحد أفراد الداخلية وقف على مسافة قريبة منها ورفع بندقيته وأطلق خرطوشه عليها، سقطت شيماء وقد غطت الدماء جسدها بينما يحاول زملائها حملها والهرب بها، تطاردهم قوات الداخلية وتلقي القبض عليهم، لتترك شيماء تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل أن تصل إلى المستشفى.

الداخلية .. اقتل ثم اكذب كثيراً

لم يكن هذا الحادث هو الجريمة الأولى للداخلية، ولن يكون جريمتها الأخيرة، فقبله بيوم واحد قتلت قوات الأمن في الإسكندرية سندس الفتاة ذات السبعة عشر ربيعاً لمجرد تواجدها في مظاهرة تطالب بعودة مرسي، وفي اليوم التالي - في ذكرى الثورة - أقامت قوات الأمن مذبحة كاملة في ميدان المطرية وقتلت ما يقرب من 29 شخصاً، منهم طفل صغير. وتاريخ الداخلية ورجالها عامر بالجرائم الشبيهة سواء طيلة السنوات الأربع الماضية، أو قبل اندلاع الثورة طيلة عهد مبارك، هذه الجرائم التي وصلت إلى حد المذابح الجماعية في قلب الصراع بين الدولة والإخوان المسلمين، وتحت شعار مواجهة الإرهاب.

لكن حالة شيماء كانت مختلفة وكاشفة، ليس لأن الداخلية قتلتها بدم بارد دون أي سبب، ولا لأن المسيرة كانت سلمية ولم تكن تحمل إلا الورود، لكن لأنها كشفت أدوات النظام كلها وكشفت أسلوبه لإخفاء جرائمه، الذي يتلخص في "اقتل ثم اكذب كثيراً" هو الأسلوب الذي يتبعه - على الأغلب - في كل مرة.

فبعد قتل شيماء، توالت أكاذيب وزارة الداخلية؛ من أن مندسين من الإخوان هم من أطلقوا النار على شيماء وجاري تعقبهم، وأن المسيرة هاجمت قوات الأمن بالشماريخ والألعاب النارية، وبدأت جوقة الإعلام الموالي في بث نفس الدعاية، وبث فيديوهات وصور لمظاهرات قديمة في ميدان طلعت حرب على أنها المظاهرة التي قتلت فيها شيماء، بل ووصل الأمر ببعضهم لاتهام زملائها بقتلها، وعرض فيديوهات زملائها يحاولون إسعافها باعتبارهم هم القتلة. وتحرك النائب العام ليصدر قراراً بمنع النشر، ومنع الطبيب الشرعي من الحديث لوسائل الإعلام عن نتيجة التشريح، وأصدر رئيس الوزراء بياناً يؤكد فيه ثقته في التحقيقات، لتكتمل الصورة الهزلية بتصريح للمتحدث باسم الداخلية أن مقتل شيماء هو خسارة فادحة للشرطة!! ثم يخرج وزير الداخلية لينعي شيماء ويقدم التعازي لأهلها.

منظومة كاملة من أدوات النظام، داخلية، قضاء، إعلام، تتحرك لإخفاء الجريمة ولتشويه معالمها، منظومة تصطف فيها أدوات القمع بكل أشكالها من أجل خدمة النظام وتثبيت أقدامه، ليظهر النظام بريئاً ومبرراً في أعين جمهوره، منظومة كاملة كانت تعمل في كل الجرائم والمذابح وتحقق النجاح في خداع الجماهير العادية، لكن هذه المرة كشفها قتل شيماء، ليكشف أن كلمتي القانون والعدالة هما مجرد تبريرات وشعارات لأغراض الزينة وتضليل البسطاء ليس إلا.

اغتيال شيماء أم اغتيال الثورة

في المؤتمر الصحفي الذي عقده حزب التحالف، أعلن نائب رئيس الحزب أن المسيرة لم ترفع شعارات معادية ولم تكن ضد النظام، لكنها كانت لإحياء ذكرى الثورة بشكل سلمي وحضاري. كان الشعار الوحيد الذي ردده المشاركون ورددته شيما بحماس هو شعار الثورة الأساسي " عيش ... حرية .. عدالة اجتماعية"، لكن من قال إن هذا الشعار ليس معادياً للنظام؟؟ هذا الشعار هو المطالبة بكل ما هو نقيضٌ لهذا النظام، هو تذكير النظام بلحظة كسرت فيها أداته الأمنية في مواجهة الجماهير، وبقى تحت رحمة الجماهير وضغطها لفترة طالت حتى استطاع إرهاقها وهزيمتها إلى حين.

وربما لهذا قررت الداخلية أن هذه المسيرة يجب أن تفض، واختار رجلها الملثم شيماء لتكون ضحيته، ربما لأنها هي الأكثر حماساً في ترديد الهتافات دوماً، بحسب رواية أصدقائها، أو ربما لأنها تمثل، وهي المرأة البسيطة التي خرجت من حي شعبي، الجماهير التي كسرت هيمنة الداخلية في يوم 28 يناير 2011، أو ربما أنها هي التي تحمل إكليل الورود تكريماً للشهداء الذين قتلوا بيديه ومازال حتى هذه اللحظة يعتبرهم أعتى أعدائه، ويعتبر الإشارة إليهم أو إلى الثورة إعلان حرب لا هوادة فيه.

تعلن الداخلية من جديد أنها سيد المشهد وأنها تقتل لأنها تستطيع القتل، ويعلن النظام من جديد أنه مستعد أن يثبت أقدامه فوق بحور من الدم، ويعلنان سوياً أن الجرائم الجديدة - مثلها مثل الجرائم القديمة - ستمر دون حساب، ويوجهان رسالة واضحة لكل من حلم يوماً بالثورة أنه لا أمل وأن التمسك بحلم الثورة لن يعني سوى الموت.

البذرة ستنمو يوماً

برغم كل الرسائل التي وجهها النظام وداخليته، إلا أن آلاف قد شاركوا في تشييع جثمان شيماء في الإسكندرية في يوم الذكرى الرابعة للثورة، رافعين علماً أبيض يحمل صورة شيماء شهيدة الورود. انضمت شيماء إلى قافلة طويلة من الشهداء تتزين بهم مسيرة الثورة المصرية، من أجل تغيير هذا المجتمع وكسر سلطة القلة؛ العسكريين والرأسماليين والفاسدين، وبناء مجتمع جديد يحقق العدالة الحقيقية وتكون السلطة فيه بيد الأغلبية الكادحة ويحاسب فيه كل من أجرم في حقهم. هذه المسيرة لم تنتهي بعد، ربما تكون قد تعطلت أو هزمت إلى حين، لكنها ستعاود التقدم يوماً بقدر ما نستعد لها الآن ونبني القواعد التي ستستند عليها لتنتصر.

في روايته "الحرية أو الموت" يكتب نيكوس كازانتزاكيس على لسان كوزماس ابن أخ بطل الرواية كابتن ميخايليس: "الدماء أبداً لا تضيع سدى، ألا تعرف أن الحرية بذرة، وأن هذه البذرة لا تنمو بالماء، وإنما بالدماء وحدها تنمو وتترعرع، ومن ثم فإننا نبذل دماءنا الآن في مكانها تماماً، لأنه من المؤكد أن هذه البذرة ستنمو يوماً ما، لكن هذا اليوم لم يحن بعد".

ستنمو البذرة يوماً يا شيماء، وسنعد الأرض لمجيء هذا اليوم. وهذا وعد.